أمهلت الحكومة المصرية منصة “تيك توك” مدة ثلاثة أشهر “لتحسّن” المحتوى المنشور عليها بما يتماشى مع القيم والأعراف المصرية، وإلا فسيكون مصيرها الحظر.
أتى ذلك بالتزامن مع حملة ملاحقات أمنيّة واسعة طالت أكثر من عشرة مؤثّرين على منصّة “تيك توك” بناءً على بلاغات قُدّمت ضدّهم في مصر، بتهمٍ تتباين بين الاعتداء على قيم الأسرة المصرية، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام ألفاظ خادشة للحياء.
مروة يسري، أم مكة، أم ساجدة، محمد شاكر، وليلى الشبح كانوا من أبرز المؤثّرين المصريين المشهورين الذين اعتُقلوا ضمن هذه الحملة، التي أفادت تقارير صحافيّة أنّها لن تنتهي عن هذا الحدّ، وما زالت مستمرّة.
يشير الباحث والتقني في منظّمة “مسار” المعنيّة بالحقوق الرقمية والحريات المرتبطة بها في مصر، محمد طاهر، إلى أنّ “ما جرى هو أقرب لكونه محاولة لقمع الفضاء الإلكتروني، عن طريق قمع أشخاصٍ ينشؤون محتوى لجني المال، ولا ينشطون سياسياً واقتصادياً أو حقوقياً. حتى الآن، ما زالت الأمور غير واضحة ولا نعلم أيّ مسارٍ قانونيّ سيُتّخذ لمعالجة القضية قانونياً”.
مواد قانونيّة تشرّع القمع
تستند السلطات المصريّة مبدئياً على المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 لتبرير حملات الاعتقالات التي تنفّذها بحقّ المؤثّرين. ولا يعرّف القانون أصلاً القيم الأسريّة، مما يترك الباب مفتوحاً أمام التأويلات وإلحاق التهم بأفرادٍ بصورة غير عادلة. ويعاني المواطنون في العديد من البلدان العربيّة، ذات الأنظمة القمعيّة خاصّة، من مشكلة المصطلحات الفضفاضة، كما في الأردن والعراق والسعوديّة. وبهذا النهج، يصبح القانون غطاءً يشرّع انتهاكات حقوق الإنسان والتعدّي على حريّة الأفراد.
وتنصّ المادة 25 على أن “يُعاقب بالحبس مدة لا تقلّ عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من اعتدى على أيّ من المبادئ أو القيم الأسريّة في المجتمع المصري أو انتهك حرمة الحياة الخاصة، أو أرسل بكثافة العديد من الرسائل الإلكترونيّة لشخصٍ معيّن دون موافقته [….]”
وتُفسّر عبارة “الاعتداء على مبادئ وقيم الأسرة المصرية” على أنها التصرفات والأفعال التي قد تمثل الخروج عن مقتضيات الآداب العامة، ويُعدّ هذا التفسير خاطئاً لعدد من الأسباب، منها الافتراض الخاطئ لقصد المشرّع وتحميل نص المادة بما يتجاوز معنى عباراتها وسياقها العام. وقد ذكر المشرّع صراحة بعض الجرائم التي قد تمثل تجاوزاً للآداب العامة في مواضع مختلفة في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ليس منها المادة 25. على سبيل المثال، استخدم المشرع عبارة “محتوى منافٍ للآداب العامة” في نص المادة 26 من ذات القانون بشكل واضح وصريح ولا يحتمل الاجتهاد أو التأويل.
وأدّى غموض نص المادة 25 إلى اختلافٍ في تفسيرها من هيئة قضائية إلى أخرى في شأن التجريم، حتى وصل هذا الاختلاف في بعض الأحيان إلى حد التناقض في التفسير، واستخدام النيابة العامة لنصّ المادة كنصٍّ تجريمي لدرجة إخراجه من سياقه.
علاوة على ذلك، تثير المادة 25 القلق لتعارضها مع المواد 54 و57 و65 من الدستور المصري، والتي تكفل مبادئ الحرية الشخصيّة، وحرية الفكر والرأي، وحماية حق المواطنين في استخدام وسائل الاتصال وعدم شرعيّة تعطيلها أو حرمانهم منها بشكلٍ تعسّفي.
بحسب طاهر، فإنّ “سبب الحملة على الأرجح هو أنّ مصر تُعتبر دولة محافظة وترى في المحتوى المنتشر على “تيك توك” انتهاكاً لما تسمّيه “قيم الأسرة المصريّة”، وأنّ بعض المؤثّرين يستخدمون مصطلحاتٍ تُعتبر “نابية”. جعل هذا الدولة تتدخّل وتنظم الحملة التي نراها اليوم، بهدف حماية “صورة المواطن المصريّ النموذجي”. هناك سببٌ محتمل آخر، وهو إلهاء المواطنين عن مشاكل اقتصادية وسياسية جدّية يعيشها المصريون”.
من جهته، كشف رئيس لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب، النائب أحمد بدوي، في تصريحاتٍ صحافية، أنّ هذا القرار جاء بعد عقد عدّة اجتماعات بين لجنة الاتصالات في مجلس النواب والمدير الإقليمي للمنصة في مصر وشمال أفريقيا، وأشار إلى أن المنصّة تسمح بنشر المحتوى المخالف لما فيه من مكاسب مالية. وتابع بدوي: “يقوم الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بتنبيه إدارات المنصات التي تنشر محتوى مخالف من أجل حظره، وقد تم ذلك في أكثر من منصة بالسابق بفضل قانون مواجهة الجرائم السيبرانية”.
بُعد طبقي وميزوجيني
تتّخذ الحملة الجارية ضدّ صنّاع المحتوى على “تيك توك” في مصر بعداً طبقياً وكارهاً للنساء (ميزوجينياً) أيضاً، إذ ينتمي معظم صنّاع المحتوى إلى الطبقة الاقتصادية البسيطة نفسها تقريباً، وهم أشخاصٌ رأوا في “تيك توك” وغيرها من منصّات التواصل وسيلة لجني المال. وتهاجم الحملة سلوكهم الذي لا يتناسب مع الصورة المثاليّة والمتخيّلة لأخلاق وممارسات معمّمة لصورة الطبقة الوسطى المصرية.
تعليقاً على هذه النقطة، تقول المحامية المصرية انتصار السعيد في حديث صحافي إنّ “بعض الفنانين والمؤثرين من الطبقات العليا يقومون بنفس الأفعال ويرتدون نفس الملابس، بل ويقلدون مقاطع هؤلاء المؤثرين بأصواتهم، ولا يقترب منهم أحد، الموضوع له علاقة بالطبقة الاجتماعية وما توفره من حماية للناس”.
لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ الغالبيّة العظمى من المؤثرين/ات الذين اعتقلوا هم من النساء، وليس نهج الضغط على النساء بجديد في ما يتعلّق بوسائل التواصل، بحسب طاهر، إذ هذا ما آلت إليه الأحوال خلال السنوات الخمس الأخيرة.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأِشخاص الذين قُبض عليهم وفي حوزتهم مخدّرات وممنوعات كما أشيع، يواجهون تهماً مختلفة تماماً عن التهم المتعلّقة بالإخلال بقيم المجتمع وقيم الأسرة المصرية، التي يشكّل توجيهها انتهاكاً لحرية التعبير وحقوق الإنسان، وفقاً لطاهر.
ليست هذه المرّة الأولى التي تهاجم فيها السلطات المصرية مستخدم/ات “تيك توك”. ففي حزيران/يونيو 2021، أطلقت حملة عرفت حينها باسم “بنات التيكتوك”، حكم على خلفيّتها بالسجن على مدوّنتين، هما حنين حسام ومودة الأدهم، بين 6 و10 سنوات. ولا يمكن اعتبار ما نشرتاه الفتاتان سوى محاولة للتعبير، وإسكاتهنَّ ليس إلّا محاولة للسيطرة على ما سلوك النساء في الفضاء العام أونلاين.
وفي أيار/مايو الماضي، استحدثت النيابة العامة شكلاً جديداً من الرقابة على مواقع التواصل عبر إنشاء “وحدة الرصد الإلكتروني”، وتوسّعت في توجيه الاتهامات استناداً لمواد قانونية لم تكن مُستخدمة على نطاق واسع سواء في قانون العقوبات المصري، مثل المواد 80 (د)، 102 (مكرر)، 188 المجرّمة لأشكال مختلفة من إذاعة الأخبار الكاذبة، والمادة 306 (مكرر أ)، المجرِّمة لأشكال بعينها من السب والقذف، أو قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003، خصوصاً المادة 76 المجرمة لما يسمى “بتعمد الإزعاج باستخدام وسائل التواصل”.
منذ سنوات، انتهجت مصر أساليب قمع الفضاء الرقمي والتضييق على مستخدميه. ففي بداية عام 2023، عملت السلطات على إطلاق وحدة “تصدّوا معنا”، والتي تهدف إلى “تدريب مجموعة مختارة من الشباب وحشد جهودهم للحفاظ على الدولة المصرية، فى مواجهة الشائعات والعمل على بناء فكر الإنسان المصري، لفهم الحقائق وإدراك سبل مواجهة للشائعات بالعلم والتدريب التى يوفرها البرنامج من خلال برنامج إعداد المدربين ودعوتهم إلى دعم الدولة المصرية الماضية قدماً في تحقيق أهداف التنمية على أرض مصر والحفاظ على أمنها القومي”.
بالإضافة إلى ذلك، وفي العام 2018، وتحت ذريعة الحجب كتدبير إجرائي لحماية الأمن القومي، صدر قانون الجريمة الإلكترونية رقم 175 ليُنظّم الحالات التي يمكن تطبيق الحجب خلالها كتدبير أولي. أعطى القانون صلاحية لجهات التحقيق بإصدار قرارات بحجب مواقع الوِيب متى “رأت أن المحتوى المنشور على هذه المواقع يُشكّل جريمة أو تهديداً للأمن القومي أو يُعَرِّض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر، كما يعطي القانون صلاحية للجهات الشُرطية في حال الاستعجال والضرورة بطلب حجب مواقع الوِب قبل استصدار حكم قضائي”.
وبصورةٍ عامّة، تستخدم السلطات المصرية قانون الإرهاب لملاحقة الأصوات المعارضة، لا سيما المتفاعلين/ات أو المدونين/ات على مواقع التواصل.
بشنّها هذا النوع من حملات الاعتقال التعسّفيّة، تخالف السلطات دستور البلاد الذي تدّعي تطبيقه، وتُفقد ثقة مواطنيها وشعورهم بالأمان في بلادهم. وبدلاً من ملاحقة أفرادٍ على خلفيّة تهمٍ مبهمة وغير مفهومة قانونياً، وحظر المنصّات، وحذف المحتوى، الأجدى أن يركّز المشرّع المصري جهوده على تعديل النصوص التشريعيّة بما يضمن وضوحها، وحفظها لحقوق المواطنين بالتعبير والنشر، وممارسة حرّياتهم الشخصيّة دون خوف، والمساواة والعدالة في تطبيقها.
الصورة الرئيسية من AFP.