تحديث: في 14 شباط/فبراير 2024، وافق وزير الاتصالات على فتح الباب أمام مزايدةٍ جديدة، مؤكداً بقراره هذا شكوكاً سابقة حول احتمالية خضوعه لضغط رئيس الغرفة الثانية في ديوان المحاسبة، القاضي عبد الرضا ناصر. ومع ذلك، لم تُلاحظ أيّ إجراءات تدلّ على إجراء السلطات القضائية مزيداً من التحقيقات أو محاسبة الوزير.
في 16 كانون الثاني/يناير 2024، صدر عن الغرفة الثانية في ديوان المحاسبة، برئاسة القاضي عبد الرضا ناصر، وعضوية المستشارين محمد الحاج وجوزيف الكسرواني، تقرير بشأن تلزيم وزارة الاتصالات اللبنانية وشركة “تاتش”، أحد مشغّلي الاتّصالات المحمولة الوحيدين في لبنان، للنظام الخاص بالرسائل النصية لخدمة “تلقّي العملاء رسائل من التطبيقات العالمية” (A2P). حسم ديوان المحاسبة أنّ تلزيم شركة “تاتش” لمصلحة شركة “إن موبايلز” (In Mobiles) غير قانوني وفوّت على الخزينة العامة أموالاً طائلة، موصياً بفسخ العقد مع “إن موبايلز” وإطلاق مزايدة جديدة للخدمة، سنداً للمادة 37 من العقد والتي تتيح الإنهاء الإختياري له.
وفقاً لمصدر في قطاع الإتصالات، فإن خدمة A2P لا تزال نشطة في “تاتش” كجزء من استمرارية الأعمال، أو ما يصطلح “بتسيير المرفق العام لحين إعادة تلزيم الخدمة”، إذ “ليس من المنطقي وقف الخدمة من دون تأمين بديل للمواطنين”، وفق المصدر. أما فيما يتعلق بعدم تلقي المواطنين رسائل حين يقومون بتنزيل بعض التطبيقات الإلكترونية، يشرح المصدر أنّ “الرسائل فاعلة لكل التطبيقات المتعارف عليها أي الأكثر استخداماً”، مضيفاً أنّ رسائل التسجيل أو التحقّق من تطبيقات غير معروفة أو متداولة في لبنان قد تتأخّر لأنّ النظام قد يقرؤها “كمحتوى مزيّف” (Fake traffic)، ممّا يتطلّب من موظّفي تاتش مراسلة الشركات العالمية عبر الإيميل للتأكد من الهوية الحقيقة للتطبيق أو الأشخاص وليس محتوى تصيّدي”.
وتُعدّ تقارير الصادرة آخر سنتين عن ديوان المحاسبة المتعلقة بقطاع الاتصالات في لبنان سابقة من نوعها، إذ أصبح الديوان يصدر تقاريره الموثقة لمحاولة وقف منابع الهدر والفساد في القطاع، لا سيما بعد إقرار قانون الشراء العام في تموز/يوليو 2022.
ما هي خدمة “تلقّي العملاء رسائل من التطبيقات العالمية” (A2P)؟
خدمة “تلقّي العملاء رسائل من التطبيقات العالمية” التي تعُرَف اختصاراً بمصطلح A2P، أو Application to person، هي خدمة بدأ يشهدها قطاع الاتّصالات منذ ازدياد الاعتماد على التطبيقات الهاتفية. لكي تتأكد هذه التطبيقات من أنّ المستخدم إنسان وليس آلة، ومن أنّه صاحب الحساب الفعلي وليس منتحل صفة (خصوصاً مع إزدياد الخروقات الإلكترونية)، كان لا بدّ من وسيلة آمنة للتواصل معه، لا سيّما في حال أراد تغيير الرقم السري، أو تسجيل حساب للمرة الأولى، وغيرها من الأنشطة المرتبطة مباشرة باستخدام التطبيقات. أمّا خدمة “تلقّي العملاء رسائل من التطبيقات العالمية” (A2P) فجاءت لتنظّم عملية إرسال التطبيقات رموز التحقق (Verification Code) للمستخدم، سواء عبر البريد الإلكتروني أو عبر الرسائل الهاتفية أو عبر الاتصال الصوتي السريع.
بسبب حجم التطبيقات الضخم الذي يصعّب على كل مشغّل اتصالات التعاقد مع جميع مطوّري التطبيقات، نشأت شركات وسيطة تتولى مهمة التعاقد مع مطوّري التطبيقات والتعاقد مع المشغلين في الوقت نفسه، وتكون مسؤولة أمام مشغّلي الاتّصالات عن حجم الرسائل التي تصل إلى مشتركيهم. ويتوقّع أن يصل سوق رسائل A2P إلى 86.53 مليار دولار أميركي، وفقاً لدراسات في مجال الاتّصالات.
ما هي إذن تفاصيل المزايدة التي أحدثت بلبلة واسعة في لبنان خلال العام الماضي قبل أن يبتّها ديوان المحاسبة؟ وما هو مصير خدمة A2P في شركة تاتش في حال عُلّق العمل مع شركة “إن موبايلز”، وكيف سيتمكن مستخدمو خطوط “تاتش” من تفعيل تطبيقاتهم أو تفعيل التحقّق في حال تعرضهم لخرق إلكتروني؟
تفاصيل A2P في شركتي الخليوي
لم يكن دخول لبنان إلى هذا المجال بطريقة منظّمة، بل شهد محاولات لتمرير صفقات لصالح شركات لا تتمتع بالأهلية أو المعايير المطلوبة، ممّا يؤدّي إلى حرمان شركتي الاتصالات المحمولة في لبنان من أموال ضخمة.
وبحسب تقرير ديوان المحاسبة الأخير حول ملفّ A2P، كانت البداية مع إطلاق شركة “تاتش” مزايدة في 22 كانون الأول/ديسمبر 2021 لتلزيم الخدمة، قبل إطلاق شركة “ألفا” أخرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. ولمّا كان قانون الشراء العام قد أصبح نافذاً في نهاية تموز/يوليو 2022، اعتُمد هذا القانون لإجراء مزايدة “ألفا”، حيث نُشر الإعلان عن المزايدة على موقع هيئة الشراء العام و اتُّبعت الإجراءات التي ينصّ عليها قانون الشراء العام. في المقابل، اعتمدت شركة “تاتش” على الآلية السابقة، أي من دون مراعاة قانون الشراء العام، وكان هذا السبب الرئيسي وراء الالتباس حول عدم قانونية هذا التلزيم.
أطلقت شركة “ألفا” مزايداتها بعد 11 شهراً من إطلاق شركة “تاتش” لمزايدتها الخاصة بخدمة A2P، ومع ذلك وقّعت “ألفا” بعد 7 أشهر فقط، أي في 7 حزيران/يونيو 2023، عقداً مع الشركة الفائزة “فوكس سوليوشن غلوبال ليمتد” (Vox Solution Global Limited). أمّا “تاتش” فقد انتظرت سنة و7 أشهر حتّى توقع العقد في 22 أيار/مايو 2023 مع الشركة الفائزة “إن موبايلز” (In Mobiles)، وهي مماطلة حملت معها الكثير من التغييرات في معطيات السوق والقطاع والأسعار، ممّا فرض على وزارة الإتصالات التصرّف على أساس وقائع مستجدة، وهو ما لم تفعله بدورها.
تجاوزات وزير الاتصالات
دفع تقرير ديوان المحاسبة حول خدمة A2P إلى سؤال وزير الاتصالات جوني القرم حول إصراره على توقيع “تاتش” العقد مع “إن موبايلز” بمبلغ إضافي يفوق 10 ملايين يورو عن العقد الذي وقّعته شركة “ألفا” مع شركة “فوكس” (VOX). أضاء تقرير الديوان على تردد وزير الاتصالات في إجراء مزايدة موحدة لشركتي الخليوي وإحجامه في نهاية المطاف عن ذلك، على الرغم من مصلحة الدولة الأكيدة في توحيد المزايدة، بغية الاستحصال على أفضل الشروط والأسعار لصالح الإدارة. كما قدّم توصيات شاملة لوزارة الاتصالات، أبرزها دعوة الوزير إلى الابتعاد عن الارتجال عند تلزيم موارد البلاد الاقتصادية؛ ومن هذه التوصيات:
- وضع مخطط واضح يُدعم بدراسات جدوى مالية تبين مصلحة الإدارة.
- مراعاة قواعد الحوكمة الرشيدة القائمة على الشفافية والموضوعية والثبات.
- وضع الخطط الضرورية لإدارة المشاريع التي تحدد من خلالها أهداف الأعمال المنوي إنجازها، وتحديد خارطة طريق للوصول إليها، مع مراعاة المهل المعقولة، لما للوقت من أهمية وقيمة مالية في الميادين الاقتصادية.
التعليقات الصادرة عن ديوان المحاسبة دفعت وزير الإتصالات إلى إصدار بيان في الأول من شباط/فبراير، ينفي فيه كلّ التهم، معلناً أنّه لا يتخّطى حدود القانون ويسعى إلى تأمين أقصى حدود للربحية ووضع دفاتر شروط علمية وواضحة لإطلاق المزايدات والمناقصات، غير مفصّلة على قياسات معينة إنما تعطي فرص متساوية للجميع.
لم يتوجّه الوزير القرم إلى ديوان المحاسبة مباشرة، بل أشار إلى أنّه فور تسلمه تقرير الديوان أرسله إلى إدارة “تاتش”، طالباً منها التقيّد الكلّي والفوري بمضمونه.
شركة مشبوهة أو وهمية؟
تناقضات عدة أظهرها تقرير ديوان المحاسبة، أهمها إتمام صفقة “تاتش” مع “إن موبايلز” مع لائحة من الشركات المدعوة للمشاركة في المزايدة، بلغ عددها 25 شركة، في حين لم يتجاوز عدد الشركات المؤهلة سوى 4 شركات من أصل 10 أبدت إهتماماً بالمشاركة. هذا ما اعتبره ديوان المحاسبة إشارة إلى كون الدعوة وجهت لشركات غير مؤهلة منذ البداية، إضافة إلى أنّ من بين الشركات التي تأهلت شركة لم تُدعَ بالأساس إلى للمزايدة. وتوقّف الديوان عند طلبٍ تقدّمت به شركة “تاتش” لإجراء دورة تلزيم ثانية للشركات المؤهلة نتيجة تقارب أرقام 3 عروضات منها بشكل كبير، وما يمكن أن يؤمّنه ذلك من مداخيل إضافية للخزينة، سائلاً الوزير عن إصراره على المضي بنتيجة فوز “إن موبايلز” .
أثار إصرار الوزير مزيداً من الشبهات لدى ديوان المحاسبة أثر تقدم شركتين باعتراض على نتيجة التلزيم لشركة “تاتش” ، حيث أظهر افتقاد الشركة الرابحة المؤهلات المحددة في دفتر الشروط أبرزها سنوات الخبرة. ومن بين النقاط التي وردت في الاعتراضات عدم تلبية الفائز شروط المزايدة:
- ينبغي أن لا تقلّ خبرة الشركة المتقدمة عن 5 سنوات في موضوع المزايدة أي نظام الرسائل الدولية A2P.
- ينبغي أن تكون الشركة قدّمت الخدمة نفسها عبر ثلاث مشغلين لـ20 مليون مشترك على الأقل.
تبين لوزارة الاتصالات من خلال لجنة التحقيق في الاعتراضات أنّ شركة “إن موبايلز” قدّمت مستندات تؤكّد أنّها لا تملك خبرة السنوات الخمس المطلوبة في القطاع، وأنّه يجب رفض عرضها مباشرة. إلا أن ذلك لم يحدث بالرغم من أنّ “تاتش” أشارت في مراسلتها للوزارة إلى أنّ الفائز “يملك خبرة عامة في مجال A2P SMS، لكّنه يملك خبرة محدودة في موضوع المزايدة أي A2P International SMS.
وبالرغم من تشكيل لجنة فنية وأخرى تجارية بإشراف من وزارة الإتصالات وشركة “تاتش” للتحقق من صحة الاعتراضات المقدمة، إلا أن اللجنة بدلاً من أن تطلب إلغاء نتيجة المزايدة السابقة أوصت بتعديل الشروط، ما يطرح تساؤلات كبرى حول الصراع على مزايدة خدمة A2P. فهل زوّرت “إن موبايلز” بعض المستندات لتلبية شروط المشاركة في المزايدة؟ وما هي الدوافع الخفية وراء تمسّك وزارة الاتصالات وشركة “تاتش” بالشركة الفائزة، في وقتٍ يرى فيه تقرير ديوان المحاسبة أنّ هذا التمسك إمّا “تواطؤ على المصلحة العامة أو خضوع لضغوط لم يكن بوسعها مواجهتها؟
هذه الوقائع أحالها الديوان إلى الغرفة القضائية المختصة، وإلى النيابة العامة لديه، وبواسطتها أيضاً إلى النيابة العامة التمييزية للتحقيق في التجاوزات. فهل سيكون مصير هذا التقرير كسابقاته من حيث إحداث ضجة إعلامية بينما لا تصل إلى المحاسبة في القضاء؟
*الصورة لوزير الاتصالات اللبناني جوني القرم ورئيس مجلس إدارة شركة “تاتش” سالم عيتاني (من صفحة “تاتش” على “فيسبوك”)