كُتب هذا المقال بالتعاون مع “رصيف22” ونُشر أساساً على موقع “رصيف22”.
“صبيحةَ الجمعة 21 ديسمبر 2018، تفاجأنا في السودان بحجب وسائطِ الإعلام الاجتماعي وتعطيل خدماتِ الإنترنت، واقتصار خدمة الاتصالات على المكالمات والرسائل النصية”.
بهذه الكلمات عبّر سامي عبد الحليم سعيد، أستاذٌ جامعي من السودان، عن حالة قطع الإنترنت في السودان تزامناً مع الاحتجاجات التي انطلقت في عدة مدنٍ سودانية 19 ديسمبر الماضي، مُعلّلاً بأنّ وسائل التواصل مثل “واتساب” و”فيسبوك” و”تويتر” لعبت “دوراً أساسياً في إيجاد حالة تضامنٍ شعبي، وتأمين موادَ إعلامية عن الاحتجاجات محلياً وعالمياً، إضافة إلى كشف مستوى الانتهاكات”.
تتعامل السودان مع الاحتجاجات على ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، عبر تعطيلِ وسيلة التواصل وليس عبر معالجة السبب، تماماً كما تفعل معظمُ السلطات في المنطقة العربية. وكانت آخر الحالات المماثلة في العراق أثناء احتجاجات البصرة حيث قطعت الحكومة الإنترنت في المحافظة الجنوبية والمناطق الأخرى التي تشهد تظاهراتٍ، ذلك بعد وقتٍ قصير على قطع الإنترنت ساعاتٍ في صباحات الامتحانات الرسمية في العراق بهدف “منع الغش“.
إجراءاتٌ “أمنية” و”تربوية”
كان نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في مصر من أوائل الحكومات العربية التي قطعت الاتصالات والإنترنت عن مواطنيها بالتزامن مع ثورة يناير عام 2011. قطع النظام حينها خدماتِ الهاتف الخلوي، وحجب بعضَ مواقع الإنترنت بما فيها مواقع التواصل. كما سُجّل في شهر فبراير من العام الماضي قطعٌ للإنترنت في سيناء تزامناً مع الحملة العسكرية للقضاء على “الإرهابيين والعناصر الإجرامية” كما يدّعي النظام المصري.
تكرّر ذلك مراراً في العراق، خصوصاً بعد هجمات تنظيم “داعش” على البلاد منذ عام 2014، والتي فتحت شهيةَ السلطاتِ لحجب بعض مواقع التواصل وقطع الإنترنت عن محافظات بأكملها وحتى في كلّ البلاد. وفي اليمن، أواخر عام 2017 قطع الحوثيون الإنترنت في صنعاء لوقت قصير وعمدوا إلى إبطائه على نحوٍ متكرّر وحجبِ بعض المواقع. وفي لبنان، بقيت منطقة عرسال أكثر من ثلاث سنوات دون إنترنت على الهاتف الجوال بحجةِ ما يُسمى “أسباباً أمنية”، إلى أن عادت الشبكة في سبتمبر 2017. كما عمدت السلطات البحرينية عام 2016 إلى قطع الإنترنت لست ساعات يومياً لأكثر من عام والتخفيف من سرعتها في منطقة الدراز التي شهدت حراكاً مطلبياً، وكانت تجبر المواطنين على دفع الرسوم رغم قطعِ الاتصالات عنهم.
وخلال الامتحانات الرسمية، وبدلاً من العمل على تحسين النظام التعليمي لتطوير الفكر النقدي، ارتأت بعضُ الحكومات العربية أن يقطعَ كلّ منها الإنترنت على طريقته. فمنذ عام 2015، تقطعُ السلطات في كلّ من العراق وسوريا الإنترنت ساعاتٍ أو أياماً تزامناً مع الامتحانات الرسمية بهدف “منع الغش”، ثمّ لحقت بهما الجزائر وموريتانيا للسبب نفسه عام 2016.
ركنت السلطاتُ إلى الحلّ الأسهل، أي قطع الإنترنت كاملاً، لساعات قبل وأثناء الامتحانات، بدلاً من ملاحقة مصدر الغش والتسريب “حيث تُباع الأسئلةُ بآلاف الدولارات” كما يؤكّد أحمد من العراق، ويستدلّ على فشل السلطاتِ في هذا الأمر من خلال استمرار عمليات الغش وتسريب الأسئلة في العراق وغيرها من الدول العربية رغم قطع الإنترنت. على سبيل المثال، تشهد الجزائر استنفاراً كبيراً منذ أكبر عملية تسريب لأسئلة الامتحانات عام 2016 أفضت إلى قراراتٍ بحجب “فيسبوك” و”تويتر” وقطع الإنترنت خلال الساعات الأولى من الامتحانات. لكن عام 2018 ورغم هذا الحجب والإجراءات الأمنية المشدّدة، تمكن البعض من نشر الأسئلة على مواقع التواصل بعد ساعة من انطلاق الامتحانات.
انتهاكاتٌ متزايدة وخسائرُ بالملايين
يساهم قطع الإنترنت في التعتيم، بالتالي في زيادة انتهاكِ السلطات حقوقَ الإنسان. يؤكّد سعيد من السودان أنّ “حجبَ خدمات الإنترنت تزامن مع تصاعد الاحتجاجات التي شملت معظمَ المدن الكبرى، وشهدت فترة الحجب انتهاكاتٍ واسعةً وحالات قتل متظاهرينَ في مدن القضارف وعطبرة وكريمة حسبما نُشر لاحقاً على وسائل التواصل”. يضع هذا الشركاتِ، بحسب سعيد، تحت مسؤوليةٍ قانونية كونها بذلك تساهم في توسيع نطاق الانتهاكات.
أمّا خلالَ احتجاجات العراق، وإثر التظاهرات في البصرة وبدء انتشارها في المحافظات الأخرى، قُطعت خدمات الإنترنت مدةَ 13 يوماً وحُجبت مواقع التواصل مدةَ 33 يوماً، بدءاً من 13 يونيو 2018، بحجة “تعطل كابل بحري”، وفق ما يقول ميثم أحمد من العراق لـ”رصيف22”. يضيف أنّ “هذه الفترة شهدت مقتل حوالي 18 شخصاً، كما أثّر قطع الإنترنت على التظاهرات والتغطية الإعلامية وبقيت الصور حبيسةَ الهواتف ولم نستطع إيصالها للعالم والجهات الحقوقية المعنية”.
على الصعيد الاقتصادي، قُدّرت خسائر الاقتصاد العراقي جرّاء قطع الإنترنت بحوالي 40 مليونَ دولارٍ في اليوم الواحد، وخسائر الاقتصاد السوداني بحوالي 15 مليونَ دولارٍ، وفقًا لأرقام أداة “كوست” (COST) التي ترتكز إلى منهجية التأثير الاقتصادي لعمليات قطع الإنترنت من “مؤسسة بروكينغز”.
يشير أحمد إلى أنّ ذلك “أضرّ بعمل الكثير من شركات التحويل المالي وشركات الطيران والفنادق التي عادت لاستخدام المعاملات الورقية، ما أدّى إلى خسائرَ تراوحت بين 8 و18 مليونَ دولارٍ”. إضافةً إلى كلّ ذلك، خسر المواطنون المشتركون في خدمات الإنترنت مسبقةِ الدفع المبالغَ التي دفعوها مقابل الاشتراكات.
الحال ليس أفضلَ في السودان، ففي حين لم تتّضح بعد مجملُ صورة الخسائر في ظل استمرار الاحتجاجات حتى الآن، يلفت سعيد إلى أنّ قطاعَ الاتّصالات بحدّ ذاته قد خسر الكثيرَ من الأموال بسبب قطع الإنترنت. ويشرح أنّ قطاع الاتصالات “يُعدّ من القطاعات المهمة التي تموّل الخزانة العامة بواسطة الأسعار المرتفعة للخدمات والضرائب والرسوم والتحصيلات المالية التي تفرضها هذه الشركاتُ على زبائنها بالنيابة عن الحكومة”.
وتُقدّر الخسائر في الجزائر بحوالي 30 مليون دولار يومياً جراء حجب بعض خدمات الإنترنت، بحيث كان قطاعا السياحة والسفر أكثرَ المتضرّرين. فأثناء إجراء الامتحانات الرسمية الذي ترافق مع قطع الإنترنت في شهر يونيو الفائت، نشر ناشطون صورة من مطار هواري بو مدين تُظهر الازدحامَ والفوضى بسبب قطع الإنترنت، ما أدّى إلى الإضرار بحركة الملاحة الجوية في البلاد.
أمّا في البحرين فوصلت خسائر المواطنين الذين كانوا يُجبرون على دفع رسوم الإنترنت رغم قطعها عنهم في منطقة الدراز إلى أكثر من 300 ألف دينار بحريني (حوالي 795 ألفَ دولارٍ أميركي)، ويُقدّر أن تكون كلفةُ قطع الإنترنت على الاقتصاد ككلّ أكبرَ بكثير.
توثيق قطع الإنترنت لردع الحكومات
لا شيء يبرّر قطعَ الإنترنت، بحسب أحمد، “فتقنية الاتصال هذه أصبحت أساسيةً في تسيير الشركات والاقتصاد، كما باتت حقاً من حقوق الإنسان وفق القرار غير الملزم لمجلس حقوق الإنسان الصادر في يوليو 2016″.
يشرح أحمد أنّ الناشطين في العراق اتّخذوا خطواتٍ من شأنها أنّ توثّق حالاتِ قطع الإنترنت وتضغط على الحكومات من أجل عدم تكرار هذا الأمر.
ويشرح أنّه “عُمِل على جمع مستنداتٍ تؤكّد حصول قطع الإنترنت مثل نُسَخ عن المعاملات المالية الورقية وحجوزات الطيران والفنادق الورقية أثناء فترة قطع الإنترنت، إضافة إلى بيان وزارة الاتصالات التي قالت فيه إنّ الإنترنت كان مقطوعاً بسبب عطل في كابل ضوئي، وبيانات المنظمات الدولية حول المظاهرات وقطع الإنترنت”.
يؤكّد أحمد أنّ كلّ هذه الوثائق “ستُستخدم كدليل عند اللجوء إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة والهيئات المعنية للقول إن العراق لا يلتزم بالمعاهدات الموقّع عليها، وداخلياً ستُشكّل حملاتِ ضغطٍ على شركات الاتصالات لنشر سياسة خصوصية وشروط استخدام تتضمن عدم قطع الإنترنت”.
في غضون ذلك وإلى أن تتغيّر الأحوال، يوصي الناشطون باستخدام أدواتٍ تساعدهم على تخطّي الحجب، مثل “تور” (Tor) و“بسايفون” (Psiphon) و“تانل بير” (TunnelBear)، إضافة إلى استخدام “الشبكات الافتراضية الخاصة” (VPN) لتغيير عنوان بروتوكول الإنترنت (IP) والوصول إلى المواقع المحجوبة.