تحديث: أعلنت وزارة الإتصالات العراقية اليوم، 19 أيار/مايو، عزمها قطع الإنترنت في البلاد بالتزامن مع بدء الامتحانات النهائية للمرحلة المتوسطة يوم 21 أيار/مايو الجاري. ووفقاً لبيان الوزارة، سوف يستمرّ قطع الإنترنت منذ الساعة السادسة حتى الثامنة صباحاً طوال فترة الامتحانات، إستناداً للتوجيهات العليا وبناءً على طلب وزارة التربية.
للمرة الأولى منذ عام 2015، انطلقت الامتحانات الوزاريّة الإبتدائيّة في العراق يوم 12 أيار/مايو الجاري من دون أن تقطع السلطات الإنترنت كما جرت العادة. بحسب المتحدّث باسم وزارة التربية العراقية، كريم السيد، في تصريحٍ لـ”سمكس”، لم يُحسم القرار بشأن امتحانات السادس الإعدادي والثالث ثانوي (البكالوريا) بعد،”ونركّز جهودنا على محاربة ظاهرة تسريب الأسئلة، وهي المرة الأولى التي تُجرى فيها الإمتحانات بظروف أمنيّة جيدة، فالهشاشة الأمنية التي مرّت بها البلاد كانت تدفعنا إلى اتخاذ قرار القطع”.
لا يزال قرار قطع خدمة الإنترنت خلال الامتحانات الوزارية في العراق غامضاَ، إذ لم تُصدر وزارة التربية العراقية أي تصريح رسميّ بخصوصه حتى الآن. وقالت عضو لجنة التربية في العراق نجوى كاكائي في تصريحات صحافية إنّ “اللجنة لم تحسم قرار قطع خدمة الإنترنت خلال الامتحانات، وهو قرارٌ تتخذه الوزارةّ سنوياً كإجراءٍ احترازيّ للمحافظة على سير الامتحانات بشكلٍ طبيعي ومنع حدوث إرباكٍ للطلبة، فضلاً عن الحفاظ على سرية الأسئلة”. وأضافت: “من المحتمل أن تسير امتحانات السادس الابتدائي من دون أن يرافقها قطع في خدمة الإنترنت، فيما يستمر النقاش بخصوص امتحانات الثالث المتوسط والسادس الإعدادي”.
في العام الماضي، أصدرت وزيرة الاتصالات قراراً مبدئياً بإلغاء إجراءات قطع الإنترنت خلال الامتحانات للمرّة الأولى منذ عام 2015، إلا أنّه جرى التراجع عنه في وقتٍ لاحق، وحُجب الإنترنت في مناسباتٍ متعدّدة في حزيران/يونيو وتمّوز/يوليو وآب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2023.
واستباقاً لقرار الحجب المتوقع بين شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو، وكجزء من حملة #لا_لقطع_الإنترنت_خلال_الإمتحانات، ناشدت كل من منظمة “سمكس”، و”أكسس ناو”، و”جمعية الإنترنت”، وعددٌ من منظمات المجتمع المدني، وأعضاء تحالف #KeepltOn، وهي شبكة عالميّة تضمّ أكثر من 300 منظمة من 105 دول تعمل على مكافحة ظاهرة قطع الإنترنت، السلطات العراقية المعنيّة بالالتزام بعدم حجب الإنترنت خلال الامتحانات الوطنية المرتقبة.
العراق يقطع الإنترنت منذ 2014
كانت المرة الأولى التي قطعت فيها الحكومة العراقية الإنترنت في حزيران/يونيو 2014، نتيجة لـ”الوضع الأمني الاستثنائي الذي يمرّ به العراق بسبب سيطرة تنظيم داعش على بعض المحافظات”، ومنذ العام 2015، تتخذ السلطات العراقية قراراتٍ متعلقة بقطع الإنترنت، بحجّة “الحدّ من تسريب الأسئلة ومنع الغشّ. وقد حجبت السلطات غالبية مواقع التواصل قبل أن تقطع الإنترنت بشكلٍ كامل خلال الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت عام 2019، وذلك للتضييق على المتظاهرين/ات وإفشال تحرّكاتهم/ن.
في هذا السياق، تؤكّد المحامية العراقيّة ضحى رفعت اللامي في تصريحٍ لـ”سمكس”، إنّ قطع الإنترنت خلال فترة الإمتحانات، وموافقة مجلس الوزراء على طلب وزارة التربية بقطع الإنترنت، يعدّ مخالفة دستورية وقانونية واضحة لمبدأ الحقوق والحريات، إذ تكفل أحكام الدستور العراقي لعام 2005 الحريات العامة والشخصيّة والمراسلات، ولا يجوز التحكّم بها إلا بقرارٍ قضائيّ، ولا مراقبتها أو التنصّت عليها أو الكشف عنها إلا لضرورة أمنيّة وقانونيّة وبقرارٍ قضائي”.
تنصّ المادة 40 من الدستور العراقي على كفالة “حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقيّة والهاتفيّة والإلكترونية وغيرها”، فيما تؤكّد المادة 46 على أنّ “تقييد ممارسة أيّ من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها لا يكون إلا بقانون أو بناءً عليه، على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية”.
الإنترنت أساسيّ للطلاب
تغفل أو تتغافل السلطات التي ما زالت تمضي بإجراءات قطع الإنترنت عن أهمية الإنترنت بالنسبة إلى الطلاب لأسبابٍ عديدة، وهو ما يؤكّده الطالب مسلم الشرع، الذي يتحضّر لخوض الامتحانات الثانوية، في مقابلةٍ مع “سمكس: “قرار قطع الإنترنت ولّد عندي نظرة سيّئة تجاه الحكومة، فهي لا تحافظ على مهنيّتها، ولا سيما وزارة التربية التي تُعتبر مؤسسةً تعليمية تؤسّس للأجيال القادمة. كما أنّنا نعلم أنّ الرشاوى موجودة في المراكز التعليميّة، وهي آفّة لا تتطلّب توفّر الإنترنت”.
يعدّ الإنترنت أساسياً للطلاب، ويمنعهم/ن انقطاعه من مراجعة إجاباتهم/ن بعد الإمتحانات، فضلاً عن حقيقة أنهم/ن توقّقوا عن الاعتماد على المناهج التعليميّة والمقرّرات المكتوبة، وباتوا يستندون إلى معلوماتٍ ومصادر متاحة عبر الإنترنت، يضيف الشرع لـ”سمكس”.
علاوةً على ما سبق، يتحدّث الطالب العراقي عن تخلّيه عن مشروعٍ تجاريّ “أونلاين” كان قد بدأه العام الماضي، بعد أن تراجعت مبيعاته بسبب قطع الإنترنت المستمرّ، مشيراً إلى تأثّر مصالح أصدقاءٍ له يعملون في التداول الرقمي وتكبد مشاريعهم/ن خسائر مالية تفوق قدراتهم/ن.
“سياسة قطع الإنترنت، والتحكّم بحرية الإنترنت، وقمع حريّة التعبير الخاصة بأكثر من 40 مليون شخص، تظهرنا بصورة سيئة أمام باقي الدول. كلّ ذلك يحدث بالتوازي مع انعدام التكاتف بين أطياف الشعب العراقي للتصدّي للقرارات الحكوميّة التي باتت تمرّ مرور الكرام”.
إضافةً إلى ذلك، إنَّ قطع الإنترنت وتقييد التواصل والتعبير الذاتي ومنع الوصول إلى المعلومات الأساسية، خاصة أثناء حالات الطوارئ والأزمات، يشكّل انتهاكاً للحقّ الأساسي في حرّية التعبير المنصوص عليه في المادّة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية. ويدين المجتمع الدولي إجراءات قطع الإنترنت على نطاق واسع، على غرار ما جاء في قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة رقم 47/16 الذي يدين “استخدام إجراءات قطع الإنترنت لمنع أو تعطيل الوصول إلى المعلومات أو نشرها بشكل مقصود وتعسّفي”.
ضررٌ على العاملين/ات في الفضاء الرقمي
يؤدّي قطع الإنترنت إلى تداعياتٍ اقتصادية مباشرة تؤثّر بشدّة على العاملين/ات في الفضاء الرقمي، لا سيّما الصحافيين/ات، والناشطين/ات الحقوقيين/ات، والعاملين في مجال خدمة التوصيل، ومزوّدي الإنترنت، والعاملين/ات في قطاع الإتصالات وشركات تحويل الأموال، وغيرها.
يشير الصحافي العراقي أسعد الزلزي في حديث لـ”سمكس” إلى أنّه اضطر خلال فترة قطع الإنترنت العام الماضي “إلى السفر إلى محافظة أربيل لضمان عدم انقطاعه عن العالم و التمكّن من إنجاز عمله الذي بدأه مع جهاتٍ دولية”، واصفاً فترة غياب الإنترنت بـ”الموت السريري” للبلاد، كون العمل الصحافي يعتمد على النشر ويهدف إلى تحريك الرأي العام، وخلال فترة القطع، تخسر العديد من الأخبار صفة الجدّة، وتُستغلّ الفرصة لشنّ حملات اعتقال تستهدف الناشطين/ات، بحسب الزلزي.
وكانت قد كشفت تقارير متخصّصة بنشاط الشبكة الافتراضية أنّ العراق شهد أكبر عددٍ من عمليّات قطع الانترنت في العالم خلال عام 2023 بحجة منع “الغش” في الامتحانات، كما بيّنت أنّ عمليات القطع في البلاد، إلى جانب إيران والجزائر، كلّفت أكثر من مليار دولار من النشاط الاقتصادي خلال سنةٍ واحدة.
يعدّ العراق من البلدان العربيّة المتقدّمة في مجال الحكومة الرقمية، إذ تعتمد العديد من المعاملات على التسجيل والدفع الإلكتروني. في هذا الخصوص، يعلّق الدكتور عمار داوود العيثاوي، المتخصص في مجال الإتصالات في جامعة النهرين العراقية، في مقابلةٍ مع “سمكس”، قائلاً إنّ “خدمات الدفع ستكون متوقّفة خلال الدوام الرسمي في العراق، وستتكبّد الحكومة العراقية خسائر مالية كبيرة، وسيلحق الضرر بالقطاع الخاص”.
كما يتّفق كلّ من الدكتور عمار العيثاوي والصحافي أسعد الزلزي على أنّ السبب الرئيسي لقطع الانترنت، هو “الفساد الإداري المُستشري في وزارة التربية، والأجدى معالجة الموضوع دون اللجوء إلى القمع الإلكتروني”.
وفي حزيران/يونيو من العام 2022، حذّرت مفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في تقريرٍ لها، من آثار حجب الإنترنت “المأساوية”، والتي تمسّ بسلامة الناس وحقوق الإنسان، كما حثّ التقرير الدول التي تلجأ إلى قطع الإنترنت، ومن بينها العراق، على عدم الإقدام على هذه الخطوة، التي سبق وترافقت مع تنفيذ الحكومات لعملياتٍ أمنيّة، وفرض قيودٍ صارمة على عمليات رصد حقوق الإنسان والإبلاغ عنها.
أمّا على صعيد وزارة الاتصالات العراقية، المسؤولة فنياً عن قطع الإنترنت، فيشير العيثاوي إلى أنّ لديها “عقود مع شركات خارجيّة لتقديم خدمة الإنترنت، ما يجبر الوزارة على دفع مبالغ تعويضيّة كبيرة عن الضرر الاقتصادي الناتج عن تردّي خدمات الإنترنت، الذي بـ 4 مليون دولار أميركي”.
بدورها تلفت اللامي إلى أنّ موافقة مجلس الوزراء العراقي على طلب وزارة التربية لقطع الإنترنت هو إجراءٌ فير قانونيّ وتعسّفي بحق المواطن/ة العراقي/ة. يدفع المواطن ثمن الخدمة مسبقاً، ثمّ يُحرم منها، ويتضرّر نتيجة القطع، ناهيك عن الآثار الناجمة عن عمليّة القطع وضعف الشبكة حتى بعد عودتها إلى العمل”.
إضافةً إلى ما سبق، يؤكّد العيثاوي أنّ قطع الإنترنت له تأثيرٌ إقتصاديّ كبيرٌ جداً، فعلى الصعيد التقني، هناك ما يُعرف بـ”الكاش سيرفر” (cache server)، وهي شبكةٌ تتألّف من مجموعة خوادم موزعة جغرافياً حول العالم لإيصال وتوزيع محتوى الإنترنت بشكلٍ سريع، وتوفير سرعة وصولٍ أعلى للمواقع وإعطاء تجربة تصفّح أفضل للمستخدم النهائي. فانقطاع الإنترنت صباحاً يؤثّر في الخدمة لباقي اليوم، لأنّ السرفيرات المهيّئة لتقنية تحسين جودة الإنترنت تحتاج إلى 11 ساعة للعمل بشكلٍ طبيعي بعد قطع الإنترنت”.
يُكبّد قطع الإنترنت ليومٍ واحد الاقتصاد العراقي خسائر تقدّر بـ 1.4 مليون دولارٍ أميركي، وأخرى تناهز 120 ألف دولار أميركي في الإستثمار الأجنبي المباشر، مما يؤدّي إلى زعزعة ثقة الشركات الدولية في البنية التحتية للاتصالات في العراق.
وسائل بديلة
خلال فترات قطع الإنترنت، يلجأ العراقيون/ات إلى وسائل بديلة للاتصال مجدداً ببعضهم/ن وبالعالم الخارجي، وبحسب العيثاوي، “توفّر الهواتف النقّالة الحديثة خدمة التجوال العالمي (Roaming)، وهو خيارٌ تلجأ إليه فئة كبيرة من العراقيين/ات لتشغيل الشرائح الإلكترونية (E-SIM) التي تُفعل بدورها خدمات الرومينغ للوصول إلى الإنترنت، ويستخدمها المواطنون/ات بكثرة خلال فترات القطع”.
“يمكن للشركات التي يتأثر عملها بقطع الإنترنت اللجوء إلى القضاء لرفع دعاوى قضائية على وزارة التربية ووزارة الإتصالات والحصول على حكمٍ قضائيّ يقضي بمنع قطع خدمة الإنترنت”، بحسب اللامي، وهذا بالفعل ما قام به المحامي العراقي محمد جمعة في العام 2019، عندما رفع دعوى قضائيّة ضدّ وزير الاتصالات العراقي بسبب قطع السلطات للإنترنت خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في تشرين الأول/نوفمبر من العام نفسه.
تجدر الإشارة إلى أنّ الأدلّة التي تُثبت فعالية إجراءات قطع الإنترنت في منع الغشّ في الامتحانات قليلةٌ لا بل معدومة، كما تُجري معظم بلدان العالم امتحاناتها الوطنية من دون اللجوء إلى هذا الإجراء التعسّفي. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة عدّة حالات من تسريب أسئلة الامتحانات الوطنية في العراق، حتّى في ظلّ إجراءات حجب الإنترنت – وهو دليلٌ على أنّها غير فعّالة في الحفاظ على نزاهة عملية الامتحانات الوطنية، ما يثبت الحاجة لإيجاد حلولٍ أخرى.
وكلّ سنة، يتسبّب قرار قطع خدمة الإنترنت بانقسامٍ شعبيّ في العراق، إذ يبدي العاملون/ات في قطاع التجارة والأعمال والترفيه إمتعاضاً شديداً نظراً للضرر الذي يحلق بمصالحهم/ن جرّاء القرار، فيما يؤيّد بعض أولياء الأمور والتربويّون/ات القرار، الذي يظنّونه حلاً لمنع الغش في الامتحانات.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.