مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي اللبناني، بلغ السعر غير الرسمي لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي أعلى معدّلاته في بداية شهر آذار/مارس فسجّل 10,500 ليرة لبنانية. للدولار الواحد، علماً أنّ السعر الرسمي هو 1507.5 ليرة، وقد ترافق الارتفاع القياسي لسعر الصرف مع تظاهرات على مختلف الأراضي اللبنانية.
أمّا الدولة اللبنانية، فبعد أن أغفلت عن مسؤولياتها في انهيار العملة، عملت على توقيف الصرّافين غير الرسميين وفرض الرقابة على منصاتهم الإلكترونية. وهذا ما قد يشير إلى أنّ الدولة تحاول عبر اعتماد هذه التدابير السطحية تبرئة مؤسساتها ورفع اللوم عنها.
في هذا السياق، طلب النائب العام التمييزي في لبنان من الأجهزة الأمنية إجراء التحرّيات اللازمة لملاحقة “االصرّافيم والمتلاعبين” بالعملة الوطنية. وعليه، أوقفت الأجهزة الأمنية صرّافين غير رسميين في مناطق لبنانية مختلفة مثل صور (الجنوب) وشتورة (الشرق)، بعدما أوقفت بعضهم سابقاً.
عُقد أيضاً اجتماع رفيع الشأن في القصر الجمهوري، خلص إلى اتّهام منصّات غير رسمية بالتلاعب بالسوق وأنّها السبب الرئيسي لانهيار العملة الوطنية. “وأعلن المسؤولون عن اتخاذ إجراءات صارمة بحقّ الصرافين الشرعيين وغير الشرعيين الذين يضاربون على الليرة، وطلبوا وقف المنصّات الإلكترونية التي تعرض سعر صرف الدولار في السوق”.
على إثر ذلك، أعلن مدير عام هيئة “أوجيرو“، وهي هيئة شبه رسمية تشكّل البنية التحتية الأساسية لشبكات الاتصالات ومقدّمي خدمات الإنترنت في لبنان، عماد كريدية، في تغريدة على موقع “تويتر”، أنّ الجهات القضائية طلبت حجب المنصّات الإلكترونية غير الرسمية المعنية بتحديد سعر الصرف، بما في ذلك:
- مواقع إلكترونية
- صفحات ومجموعات على موقع “فيسبوك”
- تطبيقات الهواتف الذكية
بحسب كريدية، تمكّنت “أوجيرو” من حجب المواقع الإلكترونية، لكن تعذّر عليها حجب الصفحات/المجموعات المتواجدة على موقع “فيسبوك” أو التطبيقات على الهواتف الذكية. وبالتالي، طلب النائب العام التمييزي المساعدة القضائية من السلطات الأميركية لحجب هذه التطبيقات بسبب مخالفتها لأحكام قانون النقد الوطني. ويُزعم أنّ هذه الإجراءات من شأنها أن تساهم في استقرار سعر الصرف، ممّا يضع حدًا لمحاولات ضرب الثقة في مالية الدولة وقاعدة العرض/الطلب في البلد عبر أساليب الاحتيال. غير أنّ “أوجيرو” وجدت طريقة تقنية أخرى لحجب التطبيقات (انظر أدناه).
شدّد كريدية على أنّ “أوجيرو” “ملتزمة بتنفيذ كافة القرارات القضائية” ونشر قائمة بالمنصّات المطلوب حجبها (17 منصة حتى الآن) على موقع قائمة الحجب. وهذا ما يعني أنّ الهيئة تشارك إلى جانب مقدّمي خدمات الإنترنت الآخرين في تنفيذ نيّة الدولة في قمع حرية التعبير.
وفي حين يشير موقع “أوجيرو” إلى أنّ تدابير الحجب جاءت تنفيذاً لقرار قضائي صادر عن النائب العام المالي، فإنّ القرار القضائي ليس متاحاً للعلن.
هل يجوز حجب مواقع إلكترونية وتطبيقات إلى أجل غير مسمّى في لبنان؟
تسمح القوانين اللبنانية للدولة بحجب مواقع إلكترونية لمدّة 30 يوماً قابلة للتجديد لمرّة واحدة، استناداً إلى تعليل قانوني. فوفقاً للمادتين 125 و126 من “قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي” (القانون رقم 81/2018)، يجوز للمحكمة الناظرة في الدعوى بموجب حكمها النهائي “وقف خدمات إلكترونية أو حجب مواقع إلكترونية أو إلغاء حسابات عليها إذا تعلقت بالجرائم المتعلقة بالإرهاب أو بالمواد الإباحية للقاصرين أو بألعاب مقامرة ممنوعة أو بعمليات الاحتيال الإلكتروني المنظّمة أو تبييض الأموال أو الجرائم الواقعة على الأمن الداخلي والخارجي أو المتعلقة بالتعدّي على سلامة الأنظمة المعلوماتية كنشر الفيروسات.” (المادة 125).
وتعرض المادة 126 آلية التنفيذ، بحيث تفيد أنّه لا يجوز للنيابة العامة وقف خدمات إلكترونية أو حجب مواقع إلكترونية أو تجميد حسابات عليها لمدّة تفوق 30 يوماً، وأنّه يمكن تجديد هذه المدّة لمرّة واحدة استناداً إلى قرار معلّل. يجوز لقاضي التحقيق وللمحكمة المختصة الناظرة في الدعوى البتّ في مثل هذه الإجراءات بشكل مؤقّت لحين صدور الحكم النهائي في الدعوى. ويستطيع المرجع القضائي أيضاً الرجوع عن قرار في حال توافر ظروف جديدة تبرّر ذلك. ويكون قرار قاضي التحقيق أو المحكمة بوقف خدمات إلكترونية أو حجب مواقع إلكترونية أو تجميد حسابات عليها قابلاً للطعن وفق الأصول والمهل المختصة بقرار إخلاء السبيل (48 ساعة).
ولكن في حالة حجب تطبيقات سعر الصرف الأخيرة، يقول محمد مغباط، وهو مرشّح لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الدستوري الدولي، لـ”سمكس”، إنّ النائب العامّ التمييزي ارتكز في قراره بتوقيف صرّافين على المادة 319 (المتعلّقة بكلّ من يتلاعب/يضرّ بنقد الدولة)، والمادة 209 (وسائل النشر) من “قانون العقوبات”، إلى جانب “قانون النقد والتسليف”.
كيف تُطبّق الرقابة فعلياً في لبنان؟
في ما يلي شرح موجز يقدّمه الفريق التقني في “سمكس” بشأن الأساليب التي يستطيع مقدّمو خدمات الإنترنت اعتمادها لفرض الرقابة على خدمات أسعار الصرف في مختلف المنصّات:
1. الرقابة على المواقع الإلكترونية: مقدّمو خدمات الإنترنت قادرون على فرضها
يستطيع مقدّمو خدمات الإنترنت، على غرار “أوجيرو” أو شركة الاتّصالات الخلوية “تاتش” (Touch)، حجب مواقع إلكترونية عبر وسيلة رقابية اسمها “فلترة نظام أسماء النطاقات” (DNS filtering). يشكل نظام أسماء النطاقات دليل الهاتف الخاص بشبكة الإنترنت حيث تُترجَم أسماء المواقع الإلكترونية (مثل Google.com) إلى لغة تفهمها أجهزة الكمبيوتر. وتتكوّن اللغة، وهي لغة عناوين بروتوكولات الإنترنت (IPs)، من سلسلة من الأرقام مثل 8.8.8.8 (Google.com). ولكنْ، نظراً إلى صعوبة حفظ هذه الأرقام، يُترجم نظام أسماء النطاقات عناوين بروتوكولات الإنترنت إلى أسماء عادية يعرفها المستخدمون، ثمّ تجري الترجمة عبر سيرفر اسمه “مقرّر نظام أسماء النطاقات” (DNS resolver).
تقوم عملية “فلترة نظام أسماء النطاقات” على حجب الوصول إلى بعض المواقع الإلكترونية، وهو تدبير يفرضه مقدّمو خدمات الإنترنت لغرض معيّن، وغالباً ما تكون الفلترة مستندة إلى المحتوى.
تتجلّى طريقتان للقيام بفلترة نظام أسماء النطاقات:
- بحسب النطاق: لا يقوم “مقرّر نظام أسماء النطاقات” (DNS resolver) بترجمة عناوين بروتوكولات الإنترنت الخاصّة ببعض النطاقات أو بالبحث عنها على الإطلاق.
- وفقًا لعنوان بروتوكول الإنترنت: يحاول “مقرّر أسماء النطاقات” ترجمة جميع النطاقات، لكن إذا ورد عنوان بروتوكول الإنترنت على قائمة الحجب، لا يعيده المقرّر إلى الجهاز الذي بحث عنه.
سبق وانتهج مقدّمو خدمة الإنترنت في لبنان هذه الطريقة لحجب مواقع إلكترونية، ويواصلون اعتمادها.
2. الرقابة على صفحات/مجموعات على موقع “فيسبوك”: مقدمو خدمات الإنترنت غير قادرين على فرضها
يشكّل “بروتوكول نقل النصّ التشعبي الآمن” (HTTPS) النسخة الآمنة من “بروتوكول نقل النصّ التشعبي” (HTTP)، البروتوكول الرئيسي المستخدم لإرسال بيانات بين متصّفح الشبكة وموقع إلكتروني.
عند ولوج المواقع الإلكترونية عبر “بروتوكول نقل النصّ التشعبي الآمن”، يكون المحتوى بكامله مشفّراً ما عدا إسم الموقع. وإذا لم يستطع مقدّم خدمات الإنترنت أن يرى سوى اسم الموقع، يمكنه حصراً أن يحجب الموقع بكامله – باستخدام “فلترة نظام أسماء النطاقات” (DNS filtering).
في القضية الراهنة، يتعذّر على مقدّمي خدمات الإنترنت حجب صفحة معيّنة على موقع “فيسبوك” (مثل: https://www.facebook.com/smex) لأنّه لا يستطيع أن يرصد الصفحات الفرعية على موقع “فيسبوك”. وبالتالي، إذا أراد مقدّم خدمات الإنترنت أن يفرض إجراءات رقابية على صفحات ومجموعات المنصات المعنية بسعر الصرف، أصبح مضطرّاً إلى حجب موقع “فسيبوك” ككلّ، وهو سيناريو مستبعد جداً.
وكان قد أشار كريدية، مدير عام هيئة “أوجيرو”، في تغريدته إلى تعذّر القدرة على حجب مجموعات وصفحات على موقع “فيسبوك” جرّاء الأسباب الواردة أعلاه.
3. الرقابة على التطبيقات: مقدّمو خدمات الإنترنت قادرون على فرضها
منذ حوالى عامّ تقريباً، جرت محاولة حجب تطبيقات مماثلة كانت متوافرة في متجر “غوغل” (Google Play Store)، إلا أنّ المحاولة أدّت عن غير قصد إلى حجب خدمات “غوغل فايربيز” (Google Firebase)، وهي خدمة خلفية أساسية للتطبيقات.
في هذه الحالة، تبرز طريقتان لفرض الرقابة على تطبيقات الهواتف الذكية:
- عبر السيرفرات: يستطيع مقدّم خدمات الإنترنت فرض إجراءات رقابية على السيرفرات الخلفية التي تدعم التطبيق. وبهذه الطريقة، يمنع مقدّم خدمات الإنترنت التطبيق من تحديث محتواه، لكنّه لا يستطيع منع المستخدمين من تنزيله، مع الإشارة إلى أنّ اكتشاف السيرفرات الخلفية الخاصة بالتطبيق ليس بالعملية البسيطة.
- عبر المتجر: يمكن للدولة تقديم كتاب رسمي إلى متجر التطبيقات (Apple Store أو Google Play Store) وطلب إزالة تطبيق معيّن. لا تستجيب المتاجر في العادة إلى مثل هذه الطلبات، بالإضافة إلى ذلك، يستطيع مستخدمو أنظمة “أندرويد” تنزيل التطبيقات من متاجر/مواقع إلكترونية أخرى حتّى وإن تمّت إزالتها من متجر “بلاي ستور” (Play Store) الرسمي التابع لشركة “غوغل” (وهو أمر لا يوصى به).
في القضية الراهنة، فرض مقدّمو خدمات الإنترنت إجراءات رقابية على السيرفرات الخلفية لعدد من التطبيقات وقد نشرتها “أوجيرو” على موقع قائمة الحجب.
في هذا الإطار، يؤكّد الفريق التقني في “سمكس” أنّ عدداً من مقدمي خدمات الإنترنت قاموا بالفعل بحجب كلّ من موقعي www.lirarate.com وwww.lebaneselira.org، بالإضافة إلى غيرها.
كيف أتأكّد إذا ما قامت الجهة التي تقدّم لي خدمات الإنترنت بححب هذه المنصات الإلكترونية؟ وكيف أتخطّى على الإجراءات الرقابية؟
بخطوة واحدة، يستطيع المستخدمون في لبنان التحقّق ممّا إذا فرض مقدّم خدمات الإنترنت المحلي أي إجراءات رقابية على منصات إلكترونية معنية بتحديد سعر الصرف غير الرسمي.
- تنزيل تطبيق “أوني بروب” (OONI probe) على الجهاز المحمول:
– رابط التطبيق عبر متجر “بلاي ستور” (Google Play Store)/ نظام “أندرويد”
– رابط التطبيق عبر متجر “آبل ستور” (Apple App Store)/ أجهزة “آيفون” (iPhone) - النقر على هذا الرابط لبدء الاختبار
- معاينة النتائج هنا
لا يزال من الممكن ولوج كافة المنصات الإلكترونية الخاضعة للرقابة عبر تطبيقات “الشبكات الافتراضية الخاصة” (VPN) مثل “سايفون” (Psiphon) (أجهزة “أندرويد” أو “آبل”).
الرقابة ليست حلّاً
هذه الحملة القمعية لحريّة التعبير ليست بجديدة على الساحة اللبنانية. في العام الماضي، أصدر النائب العام التمييزي في لبنان قراراً يطلب من وزارة الاتصالات إجبار جميع مقدمي خدمات الإنترنت على حظر 28 تطبيقاً، بحجة أنّ هذه التطبيقات تنشر معلومات كاذبة حول سعر الصرف “غير الرسمي” بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية.
كما سبق وأشرنا أعلاه، تسمح المادتان 125 و126 من “قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي” (القانون رقم 81/2018) بوقف المواقع الإلكترونية والتطبيقات وتحدّدان آلية تنفيذ ذلك لمدّة أقصاها 30 يوماً، قابلة للتجديد لمرة واحدة. في هذه القضية، لا يحدّد القرار القضائي الذي لم يُنشَر مدّة الإجراءات الرقابية.
في هذا السياق، تندّد “سمكس” بكافة القرارات المتعلّقة بالرقابة الإلكترونية، فهذه الإجراءات تحدّ من إمكانية الوصول إلى المعلومات، وتؤثّر على خدمات الإنترنت، وتساهم في تقييد حريّة التعبير بشأن المسائل المالية. يجدر بالدولة اللبنانية ألا تهدر مواردها في حجب مواقع إلكترونية وترسيخ الرقابة كأمر طبيعي، بل عليها بالأحرى التركيز على التصدّي للأزمة الاقتصادية. فالمشكلة لا تكمن في التكنولوجيا المستخدمة لنشر سعر الصرف غير الرسمي، بل المشكلة الحقيقية هي انهيار العملة الوطنية على إثر سنوات من الإهمال والفساد والتهرّب من المسؤولية.
تجدر الإشارة إلى أنّ تعزيز الإجراءات الرقابية على المواقع الإلكترونية ترافق مع ارتفاع عمليات التوقيف المرتبطة بحرّية التعبير، وقد سجّلتها “سمكس” على موقع “محال” (Muhal.org).
توصيات
بناء على القرارات الرقابية التي اتّخذتها الدولة، نقدّم التوصيات التالية:
- ندعو الحكومة اللبنانية والمؤسسات الحكومية إلى التوقّف عن حجب المواقع والتطبيقات بدون مراعاة الأصول القانونية، لا سيما لناحية مدّة الحجب.
- ندعو وزارة الاتصالات إلى حماية حرية التعبير وتجنّب فرض الإجراءات الرقابية إلا في حال توافر قرار معلّل صادر عن القضاء المختصّ حصراً.
- نحثّ هيئة “أوجيرو”، ووزارة الاتصالات، والنائب العام المالي، و/أو كل المعنيين على نشر المبرّرات القانونية التي استندوا إليها لحجب هذه المنصات.
- ندعو الحكومة اللبنانية والمؤسّسات الحكومية إلى نشر آلية شفافة تبيّن كيفية اتّخاذ قرار بشأن حجب مواقع إلكترونية والجهة المناطة باتّخاذه.
- ندعو هيئة “أوجيرو” إلى نشر (تحميل/إرفاق) القرارات القضائية المشار إليها في موقع قائمة الحجب
شارك في كتابة هذا المقال علي سباعي، مدير #منصة_السلامة_الرقمية مع “سمكس”. يعمل علي أيضاً مع “سايفون”، وهو مهتم بالبحوث المتعلقة بتعليق الوصول إلى الإنترنت، والرقابة والمراقبة على الويب، والسلامة الرقمية. تابعوه على تويتر: @alisibai