انتهى موسم حج المسلمين هذا العام بكلّ ما حفِل به من تقنيّات حديثة، إذ وظّفت السلطات السعودية 32 تقنية لتسيير” مناسك الحج على نحو مليون و833 ألف حاج من 200 دولة، كانت من بينها 17 تقنية جديدة أضيفت هذا العام.
أبرز تلك التقنيات كانت “النظارة التفتيشيّة”، التي تستخدمها أجهزة الأمن الموكلة إليها مهمّة “حماية الحجّاج” بهدف تسهيل عملية تفتيش المركبات وسحب بياناتها خلال ثوانٍ معدودة، فضلاً عن توسّع السلطات في تطوير تقنياتٍ سبق واستخدمت.
كما لجأت السلطات السعودية إلى استخدام نظام التعرّف على الوجه “لتعزيز الأمن ومراقبة الحشود”، والكاميرات الذكية لتحديد السلوكيات المشبوهة واكتشاف الحوادث، والطائرات المسيّرة التي تعمل على رصد ومتابعة المخالفين لأنظمة الحج، وتحديد أيّ مشكلات محتملة، وتقييم شبكة الطرق باستخدام المسح الحراري ونقل وحدات الدم والعيّنات المخبرية.
على الرغم من الصورة التي تحاول السلطات السعوديّة الظهور فيها كعينٍ ساهرة على راحة الحجّاج، تبقى إشكاليّات وتساؤلاتٌ عديدة حول طبيعة هذه التقنيّات من دون إجابات. فما السبب مثلاً وراء جعل استخدام هذه التقنيات الزامياً، تحت طائلة المنع من الحج؟ وما هي مدّة الاحتفاظ بالبيانات التي تُجمع من الحجّاج من دون موافقتهم/ن حتّى؟ وهل تنطبق شروط وظروف معالجة البيانات على السعوديين/ات كما على غير السعوديين/ات؟ وأين نظام حماية البيانات السعودي من كلّ ذلك؟
بطاقة “نسك”
شهد هذا العام إطلاق “بطاقة نسك الرقمية” التعريفيّة، وهي بطاقة ماديّة وإلكترونيّة تُعطى لكل حاج، وتمكّنه من “الدخول الى كافة المشاعر المقدسة والاستفادة من الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن لأداء مناسك الحج بسهولة ويسر”. وعلى كلّ فردٍ يدخل البلاد بنيّة أداء فريضة الحج، تنزيل تطبيق “نسك”، وهو التطبيق الرسمي “لتقديم الخدمات والمعلومات التي تيسّر للحاج أداء النسك”.
ولتنزيل التطبيق، يجب على المستخدم مسح رمز الاستجابة السريعة (QR code) الموجود خلف البطاقة، الذي، وعند استخدامه على نطاقٍ واسع وفي فعالياتٍ ضخمة مثل الحج، قد ينتج عنه مخاطر كبيرة. لا يمكن للمستخدمين/ات قراءة رموز الاستجابة السريعة أو التحقق مسبقاً مما سيفعله مسحها ضوئياً، ما يجعله نظاماً قابلاً للاستغلال بسهولة لنشر روابط التصيّد الاحتيالي.
تتضمّن البطاقة خمسة بوّابات رئيسيّة، وهي معلومات الحاج الشخصية، وسجلّه الطبّي، ومقرّ سكنه في مدينة مكّة، والشركة المقدّمة للخدمة التي يتبع لها الحاج، ومعلومات قائد مجموعته.البطاقة إلزاميّة، ويجب حملها طوال فترة الحج في كل التنقلات، منذ الوصول حتى المغادرة.
وعلى الرغم من حساسية البيانات التي يجمعها التطبيق، إلا أنّ وزارة الحج والعمرة، التي تجمع البيانات وتستخدمها، تخلي مسؤوليتها من أيّ ضررٍ أو سوء استخدام يتعرض له المستخدم نتيجة استخدام هذه البيانات المفتوحة على الموقع الرسمي للوزارة. كما تخلي مسؤوليتها تجاه مستخدمي هذه البيانات، وما قد يقع عليه من ضرر أو خسارة بسبب إعادة استخدامها.
ومن ضمن شروط إعادة الاستخدام، تشترط سياسة التطبيق عدم استخدام “هذه البيانات في أغراض سياسية أو لدعم نشاط غير مشروع، أو إجرامي، أو عنصري، أو التأجيج، أو التأثير السلبي في الثقافة، أو المساواة، أو التحريض، أو أي نشاط غير نظامي أو مخالف لعادات المملكة وتقاليدها”.
وقد تتسبّب مصطلحاتٌ تحتمل التفسير والاجتهاد مثل “التأجيج”، أو “التأثير السلبي في الثقافة”، أو المساواة، أو أي نشاط مخالف لعادات المملكة وتقاليدها”، بفتح مجالٍ أمام السلطات بتوجيه الاتهامات واعتقال أشخاصٍ لم يرتكبوا مخالفة فعليّة. وليس هذا النهج بجديدٍ في السعودية وغيرها من دول المنطقة، مثل الأردن والعراق، إذ يمثّل استراتيجيّة حكوميّة هدفها توسيع هامش التأويل التي تعطيه هذه المصطلحات، ومنح السلطات أريحيّة في التعاطي وإسكات المعارضين/ات والصحافيين/ات والناشطين/ات الذي ينتقون سياسات الدولة.
“سوار الحج” الذكي
من ضمن التقنيّات المتقدّمة التي اتّبعت هذا العام خلال موسم الحج هي “سوار الحج” الذكي أو “سوار نسك”، الذي يعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي به خاصية متابعة ورصد بيانات الحالة الصحية ونسب الأوكسجين الدم، ونبضات القلب، ويحتوي على شريحة GPS لتحديد المواقع.
في حزيران/يونيو 2023، قال وكيل وزارة الحج والعمرة لشؤون الحج، الدكتور عائض الغوينم، إنّ السوار سيكون العامل الرئيسي في استخدام قطار المشاعر، كذلك في الدخول والخروج لأداء الطواف في الحرم المكي، بالإضافة إلى استخدام منصة تفويج إلكترونية متكاملة تضمن تقديم برنامج تفويج يتوافق مع الرغبات الفقهية للحجاج، وأيضاً تسهيل عملية انتقال الحجاج من مكان إلى آخر وفق إطار زمني ومكاني معين.
ودلالة التصريح هذا هي أنّ السعودية تجبر الحجّاج على الانصياع لهذه التقنيات، وتسليم بياناتهم البيومتريّة والشخصيّة، تحت طائلة الحرمان من تأدية مناسك الحج.
نظام حماية البيانات الشخصية السعودي
تكمن خطورة توظيف هذه التقنيات في كونها تتعامل مع بيانات الناس البيرومتريّة والشخصية الحساسة، والتي أثبتت أبحاثٌ وتقارير سابقة بأنّ تاريخ السعودية ليس الأفضل لناحية تقنيات حفظ البيانات ومعالجتها وسريّتها وخصوصيتها.
في شباط/فبراير 2022، أظهرَ تحليلٌ أجرته “سمكس” لـ”نظام حماية البيانات الشخصية” أنّه يبدو منسجماً مع المعايير الدولية في نواحٍ معيّنة، إلا أنّ بعض مواده مثيرة للقلق وتحتوي على ثغراتٍ قد تسمح بانتهاك الحقّ في الخصوصية وحماية البيانات. ولا تكمُن المشكلة في نصّ القانون بحدّ ذاته بل في إمكانية تطبيقه وتنفيذه في المملكة العربية السعودية، نظراً للحُكم القمعي في البلاد.
تُعتبَر بعض المواد والاستثناءات المتعلّقة بالأمن، الإضافة إلى سمعة المملكة والعلاقات الدبلوماسية للمملكة، ومصادر المعلومات السرّية والاستثناءات المتعلّقة بالسلطات العامّة، وغيرها من الاعتبارات، من الأمور المثيرة للقلق بسبب غموضها في القانون. هذه الاستثناءات والثغرات، إلى جانب سجلّ المملكة السيّئ في مجال حقوق الإنسان وممارساتها في مجال المراقبة، تعطي لمحة عن الطريقة التي قد تتعامل معها السلطات السعوديّة مع هذه البيانات الحسّاسة.
على سبيل المثال، تنصّ المادّة 6 على أنّه “بغضّ النظر عن الأحكام المتعلّقة بسحب الموافقة، يوضح نظام حماية البيانات الشخصية أنَّ معالجة البيانات لا تتطلّب دائماً موافقة صاحب البيانات”، وذلك في حالاتٍ معيّنة.
بالنظر إلى سجلّ المملكة الحافل بالانتهاكات، وتوظيفها لتقنيّات الذكاء الاصطناعي واستخدامها بهذه الغزارة لمعالجة بيانات السعوديين/ات وغير السعوديين/ات الحساسة، يزداد القلق حول مدى أمان واقع البيانات في البلاد، خاصة أنّ القوانين مرعيّة الإجراء في البلاد تعطي الحق بالتصرّف للسلطات وفقاً لما تراه مناسباً، ممّا يجعلها قادرة على تطويع كلّ تشريعٍ في خدمة مصالحها.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.