قطعت السلطات السودانية خدمات الإنترنت عن المواطنين بالتزامن مع امتحانات الثانوية في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، وذلك لتأمين إمتحانات الشهادة الثانوية من الغش” حسبما تقول “اللجنة العليا للامتحانات”. لكنّ السودانيين، رغم أنّها ليست المرّة الأولى التي يُقطع فيها الإنترنت، لم يقفوا مكتوفي الأيدي واتّخذوا عدّة خطوات لمواجهة الأمر من بينها نقل إدارة شركات الاتّصالات التي يديرها الجيش إلى الوزارات.
في 16 أيلول/سبتمبر 2020 وجه النائب العام في السودان بقطع الخدمة بالتزامن مع امتحانات الشهادة الثانوية التي بدأت في 13 أيلول/سبتمبر وانتهت في 24 منه، وبالفعل قطع الإنترنت لمدة 3 ساعات يومياً طيلة أيام امتحانات الثانوية العامة. لم يمرّ الأمر من دون ملاحقة، فقد تقدّمت “جمعية حماية المستهلك” أمام محكمة الخرطوم بشكوى ضدّ شركات الاتّصالات بسبب قطع الإنترنت، وما نجم عنه من ضرر لحق بالجامعات والطلاب الذين يدرسون “أونلاين” وكذلك بالشركات الخاصة والعامة والبنوك التي توقّفت عملياتها المصرفية. وقُدّرت الخسائر الاقتصادية التي لحقت بالبلاد جرّاء قطع الإنترنت في السودان لمدة 3 ساعات يومياً بمبلغ 5.7 ملايين دولار أميركي في اليوم الواحد.
يعتبر الدكتور الطيب مختار، رئيس “منظمة الشفافية السودانية”، في تصريح لـ”سمكس”، أنّ “قطع الإنترنت يتعارض مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ومواده مثل الحق في التمتع بالتقدم العلمي، علماً أنّ العهد الدولي معتمد في دستور عام 2005 ومن ثمّ في الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية”. يؤكّد الدكتور مختار على ضرورة عدم تكرار قطع الإنترنت، وذلك “يتطلّب قضاءً مستقلاً وفاعلاً ونزيهاً، كما وأن يؤدّي جهاز تنظيم الاتصالات والبريد مهامه في استقلالية تامة من دون أي تدخل ولا ينحاز إلى أي جهة”.
يوافق على ذلك الدكتور طارق أحمد خالد، وهو مدير شركة مختصة بالتنمية الاقتصادية في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات في السودان. ويطالب خالد في حديثه مع “سمكس” بوضع رؤية استراتيجية لقطاع الاتصالات، بنقل جهاز تنظيم الاتصالات والبريد إلى كنف مجلس الوزراء بعد انتقاله إلى سلطة المجلس السيادي في العام الماضي، وضمان مدنيّته للمساهمة في الاقتصاد القومي خصوصاً وأنّ هذا القطاع لا يساهم في الاقتصاد القومي بسبب سيطرة الجيش على كافة شركات الاتصالات والجهاز الرقابي.
تداعيات سيطرة الجيش على قطاع الاتصالات
يرجع البعض السبب في “التسلّط” في قطع الإنترنت إلى إمساك الجيش السوداني بزمام شركات الاتصالات في البلاد. ولكن في حين يبدو أنّ الوضع بدأ يتغيّر لأسباب ليس أقلّها المطالبات بالإصلاح والشفافية، يعتبر البعض أنّ العسكر سيبقى متحكّماً بمفاصل القطاع ما لم يحدث أيّ تغيير جذري.
في 19 أيلول/سبتمبر 2019 أصدر رئيس “المجلس السيادي” قراراً قضى بالغاء تبعية جهاز تنظيم الاتصالات والبريد لوزارة الدفاع ليتبع إلى “المجلس السيادي”، ولكن هذا القرار لم يمنع استمرار تحكم المكون العسكري على خدمات الإنترنت وقطعها كلما استدعى الأمر. وبعد عام تقريباً، في آب/أغسطس 2020، طالب مجلس الوزراء السوداني بإصلاح هيكلي وأن تكون وزارة المالية هي الوصيّة على الشركات التي يديرها الجيش السوداني.
شركات الاتصالات هي من بين الشركات التي يديرها الجيش لأسباب يدّعي أنّها “استراتيجية” من بينها مجموعة مجموعة “سوداتل” (Sudatel) الضخمة التي يصل حجم رأسمالها المصرّح به إلى حوالي 2.5 مليار دولار أميركي، وتتوزّع ملكيتها بين 30% للحكومة و21% لمستثمرين محليين و49% لمستثمرين أجانب أكبرهم مستثمرون من الإمارات العربية المتحدة.
وعلى الرغم من نقل وصاية قطاع الاتّصالات إلى وزارة مدنية، من أسباب استمرار تحكّم العسكر في قطاع الاتّصالات وشركة “سوداتل” على وجه الخصوص، يعود إلى أنّ “المكوّن العسكري قد عيّن مدراء موالين له، مثل اللواء مهندس الصادق جمال الدين الصادق في منصب المدير العام لجهاز تنظيم الاتصالات، والفريق إبراهيم جابر (عضو مجلس السيادة حالياً) في منصب رئيس مجلس إدارة مجموعة ’سوداتل‘”، وفقاً لما يقوله المهندس عمر عبد الخالق محجوب، الخبير في إدارة شركات الاتصالات، في حديث مع “سمكس”.
يريد العسكر الإبقاء على سيطرته على قطاع الاتّصالات “من أجل السيطرة على مشهد حرية التعبير وإبداء الرأي في السودان”، وفقاً لمحجوب الذي يضيف أنّ “التداول الحر للمعلومات ومناقشتها يؤدّيان إلى رفع الوعي السياسي للمواطنين وكشف مكامن الفساد، وهو ما ظهر جلياً خلال الاحتجاجات على النظام السابق وقطع الإنترنت للتغطية على مجزرة القيادة العامة“.
ويعتبر محجوب أنّ تعديل قانون مكافحة جرائم المعلوماتية الذي صدر في 9 تموز/ يوليو 2020 ويتضمّن عقوبات مشدّدة حول المعلومات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس إلّا “لإحكام القبضة على الرأي العام والتحكّم في القضايا المتداولة وتحديد ما هو مسموح وما هو ممنوع على مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الرقمية”.
المراحل التاريخية لقطع الإنترنت في السودان
أصبح قطع خدمات الإنترنت في السودان الذي اتخذته الحكومات لغايات سياسية وسيلة قمع وإسكات للمحتجين على سياساتها منذ سنوات عدة، ما أفقد المواطنين أبسط حقوقهم الإنسانية والرقمية من حرية الرأي والتعبير والحصول على المعلومات.
بدأت عملية قطع الإنترنت مع الحكومة السابقة لنظام عمر البشير، الرئيس المعزول في العام 2019، وقطعت الحكومة حينذاك خدمات الإنترنت في أيلول/سبتمبر العام 2019 تزامناً مع الاحتجاجات التي اجتاحت عدداً من المدن السودانية بسبب رفع الحكومة دعم المحروقات، حيث عزت شركة الاتصالات انقطاع الاتصالات حينها لتخريبٍ طال منشآتها.
حجبت الحكومة السابقة مواقع التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”واتساب” و”تويتر” بسبب المظاهرات التي اندلعت ضدّ الجوع والغلاء وانعدام الخبز والوقود والسيولة والدواء وشملت عمليات الحجب مواقع التواصل الاجتماعي مع عرقلة شبكة الإنترنت وإضعافها في كل أنحاء السودان. وعقب تولي المجلس العسكري الانتقالي الحكم، في 11 نيسان/أبريل 2019، بعد سقوط نظام البشير، أصدر المجلس قراراً في يوم 3 حزيران/يونيو بهدف منع الوصول للمعلومات والتغطية على الجرائم بحقّ المتظاهرين.
في ذلك الوقت قال المجلس العسكري إنّ “الإنترنت لن يعود قريباً للخدمة”، بعدما شهدت وسائل التواصل دعوات إلى التظاهر، فلجأ إلى قطع خدمات الإنترنت بخطوط الاتصال الأرضي. وبعد مضي 37 يوماً على قطع خدمات الإنترنت وما رافقه من خسائر، بدأت خدمة الإنترنت تعود في 9 تموز/يوليو. ففي ذلك الوقت، قضت محكمة الخرطوم بإعادة الخدمة في الحال كما اعتبر المحتجّون أنّ عودة الإنترنت هي من شروطهم للعودة إلى طاولة المفاوضات لتشكيل الحكومة الانتقالية في السودان.
واليوم، مع السعي إلى وضع قطاع الاتّصالات في السودان تحت وصاية وزارة المالية، يعتبر المهندس محجوب أنّ الحلول المناسبة لإنهاء انتهاكات المكون العسكري للحقوق الرقمية والاقتصادية تكمن في “تسليم ملف الاتصالات للمكوّن المدني من أجل وضع سياسات رقمية تساهم في تعزيز الفرص وتوسيع نطاق عمل شركات الاتصالات لتقديم خدمات الإنترنت للوصول لكافة المواطنين”.
الصورة الرئيسية لـ”فرانس برس”من “كرييتيف كومون “ تحت رخصة CC0 1.0.