في حرب تشرين لم تكن النساء شاهدات… بل فاعلات في صراع السرديات
لم تكن الحرب الإسرائيلية على لبنان مجرّد مواجهة عسكرية تُنقل عبر الشاشات. كانت، في جوهرها، حرب سرديات تُنتَج لحظة بلحظة، على وسائل التواصل، خارج احتكار الإعلام التقليدي، وخارج الأطر الحزبية المغلقة. في هذه المساحة الجديدة، لم تحضر النساء كضحايا أو رموز إنسانية فقط، بل كـ فاعلات سياسيات في إنتاج السردية نفسها.
ما جرى على المنصات الرقمية لم يكن تفاعلاً عابراً أو “نشاطاً إلكترونياً” بالمعنى السطحي. كان فعلاً سياسياً واعياً، حتى حين رفضت بعض النساء تسميته كذلك. توثيق القصف، تحليل الخطاب، تفكيك البروباغندا، نقد المقاومة، حين تتحوّل إلى احتكار، وربط الحرب ببناها الإقليمية والاقتصادية، كلّها ممارسات أعادت تعريف من يملك حق الكلام في زمن الحرب.
ينطلق هذا المقال من خلاصات بحث نوعي استند إلى مقابلات معمّقة مع 25 امرأة فاعلة على وسائل التواصل خلال الحرب على لبنان، ينتمين إلى خلفيات مهنية وسياسية متنوّعة، من بينها الصحافة، والنشاط السياسي والرقمي، والبحث، وإنتاج المحتوى. وتفاوت حجم جمهور المشاركات بين ألف متابع/ة وأكثر من نصف مليون متابع، واستخدمنَ منصّات مختلفة أبرزها “إنستغرام”، و”إكس”، و”فيسبوك”، و”واتساب”.
هدف البحث إلى تفكيك الكيفية التي استخدمت فيها النساء هذه المنصات لإنتاج السرديات المتصلة بالحرب، وتحديد الأدوار التي تبنّينها، والأدوات التي اعتمدنها، والكلفة السياسية والرقمية لممارساتهن، في سياق تحوّل وسائل التواصل إلى ساحة مركزية للصراع على المعنى، لا مجرد فضاء للنشر أو التعبير الفردي.
كسر الدور النمطي: من الرعاية إلى الفعل السياسي
تاريخياً، تُدفع النساء في الحروب إلى أدوار محدّدة سلفاً: الإغاثة، أو الرعاية، أو الصبر، أو التماهي مع صورة الضحية. غير أنّ ما تكشفه تجربة النساء خلال هذه الحرب هو رفض هذا الاختزال. فحتى حين انخرطن في العمل الإنساني، تولّين أدواراً قيادية وتنظيمية، وربطن الإغاثة بالسؤال السياسي: من قرر الحرب؟ من يدفع ثمنها؟
أتاحت وسائل التواصل للنساء كسر هذا القالب، ليس لأنّ المنصات محايدة أو عادلة، بل لأنّها فتحت ثغرة في احتكار السرد. عبر هذه الثغرة، دخلت النساء إلى قلب النقاش العام: كصحافيات ميدانيات، كمحللات، كناقدات للخطاب الطائفي، وكمنتِجات معرفة سياسية من موقع نسوي ومناهض للاستعمار.
السرد، كما عبّرت عنه النساء، لم يكن قصة شخصية ولا رأياً عاطفياً، بل كان مسؤولية أخلاقية وسياسية. ماذا نُظهر؟ ماذا نُخفي؟ أي صور نعيد نشرها؟ وأي لغة نستخدم؟ في حرب تُنقل مباشرة، بلا مسافة زمنية تتيح التحقق أو التفكير، يصبح السرد سلاحًا ذا حدّين: إمّا أداة وعي، أو أداة تبرير.
كثيرات شدّدن على أنّ السرد ليس بريئاً، بل يرتبط بالذاكرة الجماعية، وبما سيُكتب لاحقاً بوصفه “تاريخًا”. لذلك، رأت النساء في التوثيق والتحليل فعل مقاومة: مقاومة النسيان، مقاومة التطبيع مع العنف، ومقاومة اختزال الحرب إلى أرقام أو شعارات.
وكان لافتاً أنّ عدداً كبيراً من النساء رفضن توصيفهن كمؤثّرات، رغم امتلاك بعضهن جمهوراً واسعاً. هذا الرفض لم يكن لغوياً فقط، بل سياسياً. فمفهوم “التأثير” كما يُستخدم اليوم، مرتبط بالشهرة، بالاقتصاد الرقمي، وبمنطق التسويق، لا بإحداث تغيير معرفي أو سياسي.
بالنسبة لهنّ، المعيار لم يكن عدد المتابعين، بل المصداقية، والموقف، والأثر على النقاش العام. بعضهن، رغم جمهور محدود، اعتبرن أنفسهن فاعلات لأنهن يغيّرن طريقة التفكير. وأخريات، رغم مئات آلاف المتابعين، رفضن هذا الدور لأنّ غايتهن لم تكن “التأثير” بل نقل الحقيقة كما هي.
في الواقع، هذه الساحة الرقمية لم تكن بلا كلفة، فقد واجهت النساء رقابة ذاتية ومفروضة، حذف محتوى، حظر، وتعليق حسابات، خصوصاً حين تعلّق المحتوى بغزة أو بالمقارنات التاريخية أو بنقد إسرائيل. هنا، لم تعد الخوارزميات مجرّد أدوات تقنية، بل فاعل سياسي شريك في إنتاج العنف، عبر إسكات سرديات بعينها وتضخيم أخرى.
رغم ذلك، لم تنسحب النساء. كثيرات ميّزن بين الرقابة كخيار أخلاقي، وبين التحايل على المنصات كاستراتيجية بقاء.
ربما الخلاصة الأهم هي أنّ سردية هذه الحرب لا تُكتب لاحقاً؛ بل الآن، في القصص، في الفيديوهات، في التحليلات، وفي الصراع اليومي على المعنى.
في هذا الصراع، لم تعد النساء مقصَيَات. ما فعلته النساء، عبر وسائل التواصل خلال هذه الحرب هو تثبيت أنفسهن داخل هذا النزاع: لا كضحايا، ولا كرموز، بل كفاعلات سياسيات.
لقراءة الورقة البحثية وتنزيلها انقر/ي هنا.
Elham-Barjas-DRF-research-AR