فاجأنا وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، كمال شحادة، بالإعلان قبل أيام عن مذكرة تفاهم استراتيجية غير منشورة للعلن بين الحكومة اللبنانية و شركة “أوراكل” الأميركية لتدريب 50 ألف شخص.
غُلّفت هذه الإتفاقية بعبارة “هبة مجانية” للإيحاء بأنّها إنجاز يُسجّل للوزارة، في حين لم تُعرَف جدواها في خطط الرقمنة في لبنان، لا سيما وأنّ معظم التدريبات التي تقدّمها “أوراكل” تركّز حصراً على المنتجات والبرمجيات التي تنتجها “أوراكل” بنفسها.
وقال الوزير في حفل توقيع مذكرة التفاهم مع “أوراكل”، في 8 ديسمبر/ كانون أول الماضي، إنّ هذه الاتفاقية تهدف إلى “تدريب وتأهيل 50 ألف مشارك لبناني خلال السنوات الخمس المقبلة، على شكل هبة مجانية، في مجالات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة، في إطار برنامج وطني شامل لبناء القدرات الرقمية وجعل لبنان بلداً جاهزا لعصر الذكاء الاصطناعي”.
وبعد اتّهامات بتسليم البيانات، أوضح شحادة أنّ الاتفاق مع “أوراكل” “لا يتضمّن تبادلاً للبيانات، أو إتاحة الوصول إلى معلومات القطاع العام”، مؤكّداً أنّه “محصور بتدريب 50 ألف لبناني من القطاعَين العام والخاص على مهارات الحوسبة السّحابيّة والذّكاء الاصطناعي وتخطيط الموارد”.
في بادئ الأمر، قد يبعث هذا الخبر على الارتياح، حيث يمثل خطوة مهمة للبنان نحو تطوير بنيته التحتية الرقمية، وهو أمر بالغ الأهمية لتنمية مهارات الكوادر اللبنانية في هذا المجال. ولكن عند إمعان النظر في التفاصيل، تبرز مجموعة من التحديات.
بنى تحتية تخضع لقوانين غربية
يتمثل التحدي الأبرز الذي تفرضه هذه الاتفاقية مع “أوراكل” في تبنّي بنية تحتية جديدة أميركية المصدر لأغراض التدريب والأعمال. لا يقتصر الأمر على مخاطر انتهاك الخصوصية، بل يشمل تبني واستخدام كامل البنية التحتية التي تعرض “أوراكل” تدريبنا عليها مجاناً. هذا يعني أنّ هذه البنية ستصبح الرافعة الأساسية للبنى التحتية الرقمية، حيث ستُخزَّن بيانات اللبنانيين.
وبالتالي، فإنّ تبرير الحكومة اللبنانية بأنّ البيانات لن يتم تشاركها مع “أوراكل” هو حجة غير واقعية، لأن البيانات ستُنشأ، وتتطور، وتُخزَّن ضمن برمجياتها، مما يلغي أي قدرة فعلية على حمايتها. بالإضافة إلى ذلك، تخضع الشركة بالكامل للقوانين والأنظمة الأميركية، ممّا يحمل في طياته مخاطر محتملة، مثل إزالة المحتوى أو توقف الخدمات والتحديثات المرتبطة بها.
لذلك، لا يمكن توفير أي ضمانات حقيقية حول مصير هذه البيانات، إلّا إذا كان الوزير قد حصل على ضمانات ونريد منه أن يكشف عنها!
تدريب أم بيع إجباري لبرمجيات “اوراكل”؟
يكشف استخدام عبارة “الهبة المجانية” في مذكرة التفهم المعلن عنها بين وزارة الذكاء الاصطناعي اللبنانية و”اوراكل” الأميركية عن ضعف في فهم الحكومة اللبنانية لطبيعة عمل شركات التكنولوجيا.
فكما هو شائع منذ عام 2010 فيما يخص مصطلح “الاستخدام المجاني” أو “الهبة المجانية”، “إذا لم تكن أنت من يدفع الثمن، فأنت لست الزبون؛ بل أنت المنتج الذي يُباع” مما يعني ان بياناتنا كلها سيتم استخدامها بحجة الاستخدام المجاني. والمثير للقلق أنّ الحكومة اللبنانية، وبعد مرور 15 عاماً، ما زالت تُبدي حماساً وموافقة سريعة بمجرد سماع جملة “هبة مجانية”.
هذا المشروع يمكن أن يترتب عليه تبعات مستقبلية تتمثّل في خلق حاجة دائمة لدى اللبنانيين للشركة الأميركية، سواء فيما يتعلق بالصيانة أو التحديث أو غيرها من الخدمات. وستكون كلفة هذه الخدمات باهظة على بلد يمر بوضع اقتصادي صعب. هل ذكرت هذه الأمور ضمن الاتفاقية؟
سوق جديدة لـ”أوراكل”؟
تُعرف شركة “أوراكل” بطبيعتها الرأسمالية التي تضع تحقيق الربح هدفها الأسمى، وقد شهدت مؤخراً تراجعاً ملحوظاً في بياناتها المالية نتيجة لتعثر مشاريعها في مجال الذكاء الاصطناعي. هذا الواقع يدفع شركات التكنولوجيا للسعي نحو التوسّع والانتشار في بلدان وأسواق أصغر لا سيما في الجنوب العالمي، بهدف جمع المزيد من البيانات القيّمة للعودة إلى المنافسة. وبالتالي، بناءً على هذا الواقع، يصبح الحديث عن تقديم “هبة مجانية” من “أوراكل” يبدو أشبه بمزحة سمجة.
ما العمل إذاً؟
من الضروري أن تحدد الحكومة اللبنانية استراتيجيتها لقطاع التكنولوجيا ككل، بدءً من تحديد صلاحيات الوزرات والهيئات المنظمة، اولويات البنى التحتية للتكنولوجيا بما في ذلك حوكمة البيانات وادارتها، وحماية الامن السيبراني تتّسم بالواقعية، وتكون متكاملة ومتناسبة مع بيئتنا ومجتمعنا، بدلاً من التسرّع في قبول أيّ شيء، ومن ثم المساهمة في نشر الوعي بين كافة المؤسسات العامة والخاصة بما خص حماية الخصوصية.
يجب التروي قبل قبول الهبات والمبادرات والمشاريع، وتحديد ما إذا كانت تساعد في تنمية خياراتنا وتوجهاتنا الاستراتيجية ومستقبلنا، وإجراء تقييم لها على صعد الأمن والخصوصية وحماية البيانات وسجلّ الشركة والولاية القضائية التي تخضع لها، والقانون الذي يحكمها.
ينبغي كذلك للحكومة اللبنانية أن تفكّر ملياً في طريقة تشكّل سوق التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي العالمي، لا سيما مع احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والصين وتوجّه أوروبا نحو برمجيات المصدر المفتوح. ويمكن أن نستفيد من التجارب العالمية في تحسين البيئة الرقمية وتحصين السيادة الرقمية، وأن يكون لدينا قوانين قوية لحماية الخصوصية والعمل الرقمي، مثلما فعلت الدول الأوروبية.
لقد تنبّهت إليه الدول الأوروبية لهذه المخاطر فاتّخذت إجراءات لحماية سيادتها الرقمية، تعتمد على مسارين رئيسيين: الأول، تطوير برمجياتها الخاصة؛ والثاني، التحوّل من الاعتماد على شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى نحو برمجيات المصدر المفتوح في إطار استراتيجية قائمة منذ سنوات. ولدعم هذا التوجّه، خصّصت أوروبا نحو 200 مليار دولار، وسَنّت قوانين داخلية تهدف إلى ضبط شركات التكنولوجيا الأميركية قدر الإمكان وحماية خصوصية المواطنين الأوروبيين. وهذا ما ظهر جلياً في قضية تغريم إيلون ماسك وشركة “إكس” قبل أيام بأكثر من 120 مليون يورو لانتهاكهما قانون الخدمات الرقمية. ولم يكن ذلك ممكناً لولا الإطار القانوني الأوروبي القوي، بدءاً من اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وصولاً إلى قانون الخدمات الرقمية (DSA).
المشهد التكنولوجي يتغيّر، واللحاق بركب التطورّ لم يعد قائماً على تشريع الأبواب أمام الجائعة إلى بياناتنا، بل يقوم على أسس مدروسة ومتناسبة مع حاجات البلد والمجتمع، وفي الوقت نفسه تحترم خصوصية المواطنين وتحميها.
الصورة الرئيسية: وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، كمال شحادة، خلال حفل التوقيع مع “أوراكل” – الصورة من “الوكالة الوطنية للإعلام”