أصدر ديوان المحاسبة حكماً هو الأول من نوعه في تاريخ الجمهورية اللبنانية بإدانة وزراء اتصالات سابقين بهدر أموال عامة وتبييض أموال وإخفاء منافع غير مشروعة، مما شكل محطة مفصلية في مسار الرقابة المالية على قطاع الاتصالات في لبنان. وفرض الحكم القضائي عقوبات مالية مشدّدة على وزراء الاتصالات السابقين نقولا الصحناوي، جمال الجراح، محمد شقير، طلال حواط، وجوني القرم، ملزماً إيّاهم بردّ مبالغ ضخمة إلى الخزينة عبر سندات تحصيل بلغت 36.5 مليون دولار في قضيّة مبنيَي قصابيان في الشياح و”تاتش” في الباشورة.
بدأت قضية مبنى الباشورة في العام 2022، حين قدّم خبير الاتصالات والرئيس السابق لمجلس إدارة شركة ميك2 (تاتش) وسيم منصور شكوى مباشرة بحق الوزيرين السابقين جمال الجراح ومحمد شقير ومدراء شركة زين المشغلة في لبنان وآخرين، بشأن صفقتي إيجار وبيع مبنى تاتش (الباشورة).
منافع غير مشروعة بملايين الدولارات
وأدان الديوان الوزير السابق جمال الجرّاح، محملاً إياه مسؤوليّة الموافقة على تسديد مبالغ غير مستحقّة لتجهيز المبنى. ولذا طلب الديوان من وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج إصدار سند تحصيل بقيمة 11.3 مليون دولار أميركي، لقاء الأضرار التي لحقت بالمال العام. وأدان القرار القضائي كذلك الوزير السابق محمد شقير وأصدر سند تحصيل منه بالقيمة نفسها، لكونه اتفق مع الجهة المالكة للبناء على إبطال عقد الإيجار، واعتباره كأنه لم يكن، وعلى تنظيم عقد لشراء المبنى، إنما من دون استرداد المبالغ المُسدّدة للشركة ضمن عقد الإيجار. كما أدان القرار الوزير السابق جوني القرم، وفُرض عليه تسديد 4.92 مليون دولار بسبب الموافقة على خفض عدد مواقف السيارات المتعاقد عليها. كذلك قرر الديوان إيقاف العقوبة بحق الوزير السابق طلال حواط لعدم ثبوت سوء النية لديه.
أما القضية الثانية، فتتمثل باستئجار شركة ميك(2) المملوكة من الدولة لمبنى قصابيان في العام 2012، إلا أنه لم يُستخدم وبقيت الدولة تدفع سنوياً ملايين الدولارات من المال العام، حتى تكلفت 10 مليون دولار. ووفقاً لقرار الديوان فإن الصحناوي استأجر المبنى بسعر مرتفع جداً في حين أنه “غير آمن”. لذا، حمّل ديوان المحاسبة الأضرار للصحناوي وأصدر سند تحصيل بحقه بنحو 8 ملايين دولار.
كذلك قرر الديوان الطلب من وزير الاتصالات القيام باستيفاء التعويض عن الضرر البالغ 2.750 مليون دولار نتيجة قيام رئيس مجلس إدارة شركة “ميك 2” بيتر كاليوبوليس لأنه عاد عن قرار فسخ عقد الإيجار. واعتبر الديوان أنّ قرار فسخ عقد الإيجار لمبنى قصابيان، الذي اتّخذه الوزير بطرس حرب، جنّب فعليًا الخزينة العامة أضرارًا مالية كبيرة كانت ستلحق بها، بما يُقدر بحوالى عشرين مليون دولار لو استمر العمل بعقد إيجار لم يحقق أي منفعة للدولة، سواء لشركة “ميك 2” أو لوزارة الاتصالات. ولهذا السبب، قرّرت هيئة الديوان إعفاء حرب من العقوبات.
مسؤولية وزير الاتصالات الحالي
قرار ديوان المحاسبة يطلب من وزارتي المال والاتصالات بافادته خلال شهر بالإجراءات التي اتخذت من أجل تنفيذ القرار بهدف تحصيل حقوق الدولة اللبنانية والخزينة. وهذا ما يعني أنه بات من واجب وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج العمل على استيفاء حقوق الدولة من الوزراء المدانين عبر استكمال عمل المحاسبة الذي بدأه الديوان تحت طائلة اعتباره متخلّفاً عن تنفيذ الأمر القضائي.
هذا الحكم يُسلط الضوء على حجم الهدر والفساد المتغلغل في قطاع الاتصالات الذي ينعكس سلباً على المواطنين ويؤثر بشكل مباشر على المال العام. فإلى جانب المنافع الشخصية التي تُعتبر مُحرك أساسي في هذا المجال، ثمة بعض الفوضى في هذا القطاع التي سمحت بالوصول إلى هذا الحجم من هدر والفساد.
غياب الحوكمة يُهدد القطاع
وسبق أن أصدر ديوان المحاسبة في لبنان في نيسان/أبريل 2022 تقريراً خاصاً (رقم 2/2022 أساس 114/2021) يتناول قطاع الاتصالات، وعملت “سمكس” على قراءة التقرير وتلخيصه مفنّدة كافة التفاصيل المتعلقة بقطاع الاتصالات، إذ أظهر التقرير كيف هُدرت الأموال العامة بطَريقة ممنهجة ووصل الفساد والمحسوبية إلى حدوده القصوى. كما تبيّن من خلال هذا التقرير حجم الإيرادات الهائل، بين عامي 2010 و 2020، التي تمكن القطاع من إدخالها إلى خزينة الدولة والتي وصلت إلى نحو17 مليار دولار، صُرف منها نحو 6 مليارات على القطاع بطريقة تُثير العديد من علامات الاستفهام.
يرى مدير برنامج الإعلام في منظمة “سمكس”، عبد قطايا، أن “هذا قرار ديوان المحاسبة الأخير يُعتبر سابقة بتاريخ القضاء في لبنان”. وشدد قطايا على ضرورة أن “تأخذ العدالة مجراها وينال كل مسؤول ساهم بالضرر بمالية الدولة، خاصة على مستوى قطاع الاتصالات والانترنت، جزاءه والحكم الذي يستحقه”. ولفت إلى أن “هذا القرار من شأنه أن يُعزز الرقابة على أي وزير، سواء حالي أو قادم، في مختلف القطاعات، كما أنه يُشكل خطوة أولى في مسار الحوكمة والمحاسبة والشفافية”.
وانطلاقاً من ذلك، تدعو منظمة “سمكس” إلى الاستناد إلى معايير الحوكمة الرشيدة في هذا القطاع، الأمر الذي من شأنه تنظيمه ورفع كفاءته ومنع صفقات الهدر والفساد. وكانت سمكس قد نشرت ورقة “إصلاح حوكمة قطاع الخليوي في لبنان – من واقع الفوضى والتضارب إلى الشفافية، والإنتاجيّة، والمساءلة” من إعداد خبير الاتصالات وسيم منصور.
مصدر الصورة: الوكالة الوطنية