بعد عام من اتفاق وقف إطلاق النار، لا تزال إسرائيل تنتهك السيادة الرقمية اللبنانية، فوق كل الاعتداءات اليومية. يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي اختراق البنية التحتية الرقمية اللبنانية، سواء من خلال التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، واعتراض الإشارات عبر مختلف الأجهزة، والمراقبة بالطائرات المسيّرة (الدرون).
المراقبة المستمرة عبر الطائرات المسيّرة
تستمرّ الطائرات المسيّرة الإسرائيلية بالتحليق في سماء لبنان على ارتفاع منخفض، ومن دون أي رادع، على الرغم من أنّ ذلك يشكّل انتهاكاً للمعاهدات الإنسانية الدولية، مثل ميثاق الأمم المتحدة، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقيات جنيف.
ويحذّر محمد نجم، المدير التنفيذي لـ “سمكس”، من أنّ “استخدام الطائرات المسيّرة من قبل الاسرائيلي يزداد لإرساء نوع جديد من الاحتلال في جنوب لبنان”، مضيفاً أنّ هذه الطائرات تجوب سماء لبنان ويمكنها أن تنتهك خصوصية الناس من خلال جمع البيانات والبيانات الوصفية (metadata)”.
ويشرح نجم في مقالته في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”، طريقو عمل الطائرات المسيّرة الإسرائيلية، مثل “هيرمز 450” و”هيرمز 900″، واصفاً إياها كمنصّات محمولة في الجوّ لجمع معلومات الإشارة (SIGINT)، وهي قادرة على اعتراض إشارات الهاتف المحمول، والواي فاي (WiFi)، وبيانات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، والبيانات الوصفية للاتصالات. وكلّ هذا يسمح لإسرائيل برسم خرائط للسلوكيات، وتتبّع الأجهزة، وجمع معلومات حسّاسة من المقيمين اللبنانيين دون الحاجة إلى دخول الأراضي اللبنانية.
الاتصالات مُعطّلة في جنوب لبنان
في جنوب لبنان، لا يزال الاتصال بشبكة الهاتف المحمول ضعيفاً ويتعرّض لانقطاع مستمر، حتى في البلدات البعيدة نسبياً عن الحدود، وفقًا لبعض السكان. وبسبب استهداف الاحتلال الإسرائيلي الممنهج للبنية التحتية للاتصالات أثناء الحرب، تضرّرت 227 محطة إرسال خلوية بشكل مباشر، أو تعطّلت أو خرجت عن الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي بين أيلول وتشرين الأول 2024.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت شركتا الهاتف المحمول “ألفا” و”تاتش” مراراً أن الشبكة تتعرّض لتداخل وتشويش. ومع ذلك، لم تتخذ وزارة الاتصالات أي خطوات للتحقيق في القضية أو تقديم شكوى إلى “الاتحاد الدولي للاتصالات” (ITU).
وعلى الرغم من تأكيد وزارة الاتصالات بأنّ أعمال الصيانة مستمرة في البلدات الحدودية، لا يزال السكّان يعانون من ضعف الشبكة، ويضطرّون إلى أماكن مختلفة بهدف التقاط ذات إشارة أفضل. بالإضافة إلى ذلك، يعرقل وجود الاحتلال الإسرائيلي في البلدات الحدودية أعمال الصيانة للاتصالات، لا سيما مع استهداف العمّال والمقيمين العائدين إلى منازلهم.
يمكن لوزارة الاتصالات أن تجترح حلولاً مؤقتة مثل تركيب هوائيات صغيرة في مناطق مختلفة لدعم الشبكة، وتفعيل التجوال الوطني (national roaming) على نطاق أوسع، وإصلاح الهوائيات التي يمكن الوصول إليها.
الإعلانات السياسية ومساءلة المنصات
وثّقت مصادر مختلفة، من بينها “سمكس”، انتشار إعلانات مدعومة من إسرائيل والموساد على منصات التواصل الاجتماعي مثل “ميتا” (Meta)، و”غوغل” (Google)، و”يوتيوب” (Youtube). وهي إعلانات تنشر دعاية سياسية وتحريضية أو تحاول تجنيد مستخدمين لبنانيين. وفي هذا السياق، حثّت “سمكس” السلطات اللبنانية مراراً على تقديم شكاوى إلى “ميتا” والمنصات الأخرى.
ومنذ بداية الحرب على لبنان في أيلول/سبتمبر 2024، أبلغ الكثير من المواطنين المدنيين عن أنشطة مشبوهة على أجهزتهم، بما في ذلك تلقي رسائل تهديد باللغة العبرية، من أرقام إسرائيلية، على تطبيق “واتساب”، ممّا قد يشير إلى احتمال حدوث اختراق جماعي لشبكة الاتصالات في لبنان، نظراً لسجلّ إسرائيل الحافل باستخدام برامج التجسّس. وهو ما أكّده بحث رائد نشرته “سمكس” يكشف عن أبرز شركات الأسلحة السيبرانية في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا وروابطها بإسرائيل.
أمّا الضعف في الأمن السيبراني على نطاق وطني في لبنان، وعدم إيلائه الاهتمام اللازم من قبل الحكومات اللبنانية، فيشير إلى أنّه لا ضمانات واضحة لتأمين الشبكة من الاختراق.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ غياب الحوكمة الرقمية في لبنان يزيد من تعرّض المقيمين لهذه الانتهاكات. فمع عدم وجود قانون شامل لحماية البيانات والخصوصية وعدم وجود سلطة مستقلة تشرف على الأمن السيبراني أو شفافية الاتصالات، تفتقر الدولة إلى الأدوات اللازمة لحماية بيانات الناس، وتأمين شبكاتها، أو الاستجابة بفعالية للعدوان الرقمي الأجنبي.
في الخلاصة، يجب على الحكومة اللبنانية أن تأخذ هذه التهديدات على محمل الجدّ، وأن تخبر المقيمين بكيفية حماية بياناتهم وخصوصيّتهم، كما ينبغي لها أنّ توثّق هذه الحوادث والإبلاغ عنها للمنظمات الدولية.
ولذلك، نحثّ الحكومة اللبنانية على مراقبة هذه الانتهاكات عن كثب وتقديم تفسيرات واضحة وعلنية حول آلياتها وتداعياتها، وكذلك أن تتّخد الإجراءات الصحيحة لحماية أمن مواطنيها والمقيمين فيها.
في نهاية المطاف، السيادة الرقمية مكوّن من مكوّنات سيادة الدولة، ومعالجة هذه القضايا تقع ضمن مسؤوليات الحكومة.