قد يبدو الحديث عن حوكمة الإنترنت أمراً ثانوياً أمام أولوية البقاء في اليمن، لكنه يكتسب أهمية متزايدة مع اتساع الاعتماد على الفضاء الرقمي وتزايد عدد مستخدمين الإنترنت. فبحسب تقرير “داتا بورتل” (DataReportal) لعام 2025، لا تتجاوز نسبة مستخدمي الإنترنت في اليمن نحو 17% إلى 18% من السكان. ومع ذلك فإنّ هذا الحضور المحدود للشبكة لا يقلل من أثرها المتنامي في حياة اليمنيين/ات، بل يجعل منها مجالاً حساساً تتقاطع فيه السلطة والمعلومة وحق الوصول، في بلدٍ يرزح تحت الحرب والانقسام.
تجاهل دور الإنترنت في هذه الأوقات الحرجة خطأ فادح. فالإنترنت يُمكّن المواطنين من التواصل بحرية، وهي حرية حيوية لا بدّ منها في أوقات المحن، وتحول دون انزلاق البلاد إلى عزلة معلوماتية تامة، قد تؤدي إلى فظائع ومآسٍ لا تُروى.
عزلة رقمية قسرية وغياب عن المشهد الدولي
منذ تأسيس “المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت” (IGF) التابع للأمم المتحدة عام 2006، وهو المنصة الأبرز لمناقشة مستقبل السياسات الرقمية عالمياً، لم يحضر اليمن إلا نادراً، وبأصوات فردية لا تمثل ثقلًا مؤسسياً. والأمر ذاته ينطبق على فعاليات “الاتحاد الدولي للاتصالات” والاجتماعات الأممية المتعلقة بالسياسات الرقمية.
يقول فهمي الباحث الرئيس السابق وعضو مؤسس في “جمعية الإنترنت اليمنية” (ISOC-YE)، في مقابلةٍ مع “سمكس”، إنّ غياب اليمن عن النقاشات الدولية ليس مجرد نتيجة جانبيّة للحرب، بل انعكاساً لحرمان المجتمع المدني من أبسط حقوقه في أن يكون له صوت في رسم المستقبل. ويواجه المجتمع المدني والناشطون صعوباتٍ جمة، وفقاً للباحث، تتراوح بين ضعف التمويل، وصعوبة السفر، وتعقيدات التأشيرات، وانشغال المجتمع الدولي بالملفات الإنسانية أكثر من القضايا الرقمية. والنتيجة تتمثّل بغياب اليمن تماماً عن المحافل التي تناقش مستقبل الإنترنت والحقوق الرقمية.
من جهته، يقول الأستاذ المشارك في قسم الصحافة “بمعهد الدوحة للدراسات”، الدكتور وليد السقاف، في حديثٍ لـ”سمكس”، إنّ “غياب اليمن عن منصّات مثل المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت بعد عام 2014 أضرّ مباشرة بحقوق المستخدمين، “ما أدّى إلى تراجع حضور اليمن في صياغة السياسات الرقمية، وسمح باستمرار الانقطاعات وحجب المواقع دون مساءلة”. ويضيف أنّ هذا الواقع جعل وجود الناشطين الرقمي أكثر هشاشة وعُرضة للانتهاكات.
تتعدّد الأسباب وراء هذا الغياب، أبرزها صعوبة السفر بسبب إغلاق المطارات والمعابر، وضعف تمويل المنظمات المحلية، وغياب شبكات تواصل فعالة. كما ترفض السلطات في صنعاء مفاهيم الشفافية وتعدد أصحاب المصلحة والشمولية في حوكمة الإنترنت، معتبرة أي شيء يتعلق بـ “الحوكمة” تهديداً لسلطتها.
يشرح الصحافي اليمني عمر الحياني الصعوبات التي تعيق مشاركة اليمن الخارجية في منتديات حوكمة الإنترنت قائلاً إنّه “على الرغم من اهتمامنا الكبير بملف حوكمة الإنترنت وحرصنا على متابعة أنشطتها، إلا أنّ مشاركة اليمنيين تظلّ محدودة لأسباب متعددة. تحول الإمكانيات المادية والبنية التحتيّة الضعيفة تحول دون تمكين الكثير من الصحافيين والباحثين من السفر أو المشاركة الفعلية”.
“نواجه أيضاً صعوبات كبيرة في الحصول على التأشيرات لحضور الفعاليات الدولية، ما يؤدي إلى إقصاءٍ غير مباشر لليمنيين. إضافة إلى ذلك، التمويل المخصص لدعم المشاركة ضعيف جدًا، ما يجعل حصول مشاركين من اليمن أمراً نادراً. تساهم هذه العوائق مجتمعة في غياب الصوت اليمني عن النقاشات العالمية حول قضايا الإنترنت، رغم أنّ اليمنيين لديهم الكفاءة والرغبة في الإسهام بشكلٍ فاعل”.
عام 2013، كانت هناك محاولة واعدة لتعزيز حوكمة الإنترنت في اليمن، حين دعت “جمعية الإنترنت اليمنية” (ISOC-YE) منظمات دولية مرموقة مثل ICANN و RIPE NCC للقاء أصحاب المصلحة المحليين. نتج عن هذه اللقاءات توصية بتنظيم أول منتدى وطني لحوكمة الإنترنت في اليمن، إلّا أنّ المخطّط تحطّم كلياً مع اندلاع الحرب.
فوضى رقمية وانتهاك للحقوق والإطار القانوني
ينعكس غياب اليمن عن هذه النقاشات على الداخل بشكلٍ مباشر، وفقاً للباحث، إذ لا توجد سياسات رقمية وطنية واضحة، والقرارات المتعلّقة بالاتصالات والإنترنت مرتبطة فقط بالسلطات القائمة، بينما يغيب أي إطار قانوني فعّال يحمي المستخدمين.
ويؤكّد: “ما هو موجود من قوانين إما قديم أو مشوّه، وغالباً صُمِّم لتقييد حرية التعبير والسيطرة على تدفق المعلومات، لا لحماية البيانات أو دعم الانفتاح الرقمي. الإنترنت وقطاع الاتصالات تحولا إلى أدوات للابتزاز السياسي والاقتصادي، وسط تجاهل كبير من المؤسسات الدولية”.
شهد اليمن 12 حالة انقطاع للإنترنت في الربع الأول من عام 2023، تراوحت مدّتها بين الساعات والأيّام في محافظات مثل شبوة وتعز وعدن، مما أخلّ بالاتصالات وخدمات الطوارئ. علاوةً على ذلك، أثار رفع الرسوم وتقليل الباقات استياء الشعب في صنعاء بعد أن قلّلت “يمن موبايل” (Yemen Mobile)، التابعة للمؤسسة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية”، من كمية البيانات المخصصة وزادت السعر بصورة كبيرة. وتُعد الرقابة وحجب الإنترنت من أبرز الانعكاسات السلبية لغياب الحوكمة الرقمية في اليمن.
أما غياب قوانين الخصوصية وحماية البيانات، فلا يزال الإطار القانوني للاتصالات والإنترنت في اليمن متخلفاً عن الركب العالمي، إذ تعود معظم القوانين النافذة إلى أوائل الألفية، وتوقفت مشاريع تحديثها مع اندلاع الحرب. هذا الغياب للتشريعات الحديثة جعل الإنترنت في اليمن مساحة بلا قواعد تحمي المستخدم، إلا أنّها، للمفارقة، ليست بلا قيود.
يؤدّي هذا الواقع إلى تراجع ثقة المستخدم وتدفعه إلى الدخول في عزلة رقميّة، إذ يعيش بلا قوانين تحميه ولا منصات تعكس صوته، فضلاً عن غياب أيّ ضغطٍ خارجي لتبني معايير الشفافية أو حماية الحقوق الرقمية، مما يقلل من ثقة المستخدمين في الفضاء الرقمي. ويزيد من تعقيد المشهد انقسام المؤسسات بين صنعاء وعدن، مما جعل إصدار قوانين جديدة شبه مستحيل. هذا الانقسام السياسي والمؤسسي يعيق أي جهود لتطوير إطار قانوني حديث يحمي الحقوق الرقمية للمواطنين ويتماشى مع المعايير الدولية.
سبل إعادة الإدماج والتمكين
مع استمرار الحرب في اليمن وتدهور البنية التحتية الرقمية، يجد اليمنيون أنفسهم مهمشين بينما تتخذ قرارات تؤثر مباشرة على حقوقهم الرقمية وحرياتهم في الوصول إلى المعلومات. هذا الغياب المكلف، رغم محدودية انتشار الإنترنت، يفتح الفرصة لإعادة التفكير في آليات المشاركة الفاعلة، سواء عبر الحضور الافتراضي أو عبر المبادرات الإقليمية، لبناء حضور يمنّي قادر على التأثير في السياسات الرقمية على المستويين الإقليمي والدولي.
“هناك فرص لإعادة إدماج اليمنيين في نقاشات حوكمة الإنترنت، سواء عبر المشاركة الافتراضية في الفعاليات الدولية، أو من خلال مبادرات إقليمية لبناء القدرات وتطوير الوعي بهذه القضايا. لكن ذلك يتطلب إرادة جادة من جميع الأطراف: الحكومة، المجتمع المدني، والقطاع الخاص، لإيجاد حضور فاعل في هذه النقاشات والضغط عالميًا لإشراك اليمنيين في صياغة القرارات” بحسب الباحث.
تُعد المشاركة الافتراضية إحدى السبل، خاصة بعد جائحة كوفيد-19. تبقى إمكانية المشاركة عن بُعد في العديد من المؤتمرات والفعاليات الدولية. فكثير من مؤتمرات “المنتدى العالمي لحوكمة الإنترنت” (IGF) و”القمة العالمية لمجتمع المعلومات” (WSIS) تتيح الحضور الافتراضي. وهذا يمثل فرصة لليمنيين للمشاركة عبر الإنترنت، بشرط توفير قنوات دعم فنية ولوجستية.
ويضيف الدكتور وليد السقاف: “لإعادة إدماج اليمنيين في نقاشات حوكمة الإنترنت رغم الحرب وصعوبة التنقل، يُمكن البدء بالمشاركة عن بعد. في الوقت نفسه، من المهم بناء تحالفات إقليمية ودعم تقني من منظمات مختصّة، لإدراج القضايا اليمنية ضمن الأجندة الإقليمية والدولية”.
من جهة أخرى، يجب ممارسة الضغط على المؤسسات الدولية لتخصيص مقاعد افتراضية أو منح سفر لليمنيين، على غرار ما حدث مع دول أخرى في النزاع. فعلى المؤسسات الدولية مسؤولية أخلاقية لضمان تمثيل جميع الأصوات، خاصة تلك القادمة من مناطق الصراع.
وأخيراً، يُعد بناء القدرات المحلية وتدريب المنظمات الناشطة على لغة السياسات الرقمية العالمية، وإكسابها أدوات المناصرة، أمراً بالغ الأهمية. فبناء قدرات المجتمع المدني المحلي من شأنه مساعدته على صياغة قضاياهم بفعالية والتأثير في صنّاع القرار. كما أن تعزيز الوعي بأهمية حوكمة الإنترنت بين الأكاديميين والمجتمع التقني يساهم في إشراكهم بشكل أكبر.
إن إعادة إدماج اليمنيين في هذه النقاشات خطوة جوهرية، ليس فقط لمنحهم صوتاً بل تأكيداً على حقيقة أنّ مستقبل الفضاء الرقمي لا يمكن أن يكتمل مع تهميش بلد بأكمله. ويتطلب الحلّ تضافر الجهود الدولية والمحلية لدعم المجتمع المدني اليمني، وتوفير سبل المشاركة الفعالة، والضغط لتحديث الإطار القانوني لحماية الحقوق الرقمية، وضمان أن يكون لليمن دور فاعل في رسم مستقبل الإنترنت الذي يمثّل ضرورة ملحة لضمان عدالة رقمية شاملة.
الصورة الرئيسية من AFP.