في 22 تموز/يوليو 2025، وجّه رئيس مجلس الوزراء العراقي “هيئة الإعلام والاتصالات” إلى تأكيد تسجيل الهواتف النقالة ضمن جهود تبسيط وتوحيد إجراءات التجارة، في سياسة غالباً ما تعلن دون تفاصيل تقنية أو قانونية واضحة، أو إطار تشريعي صريح صادر عن مجلس النواب. ومع تسارع التحولات الرقمية وزيادة جمع البيانات وتحليلها، بات الحق في الخصوصية حجر الزاوية لممارسة الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التفكير والتعبير والسلامة الجسدية والنفسية، وشرطاً أساسياً للتمتع ببقية الحقوق الرقمية.
رغم الاعتراف الدولي المتزايد بهذه الحقوق، لا تزال النظرة الأمنية التقليدية في العراق تهيمن على تنظيم الفضاء الرقمي، ما يظهر في مسودات مشاريع القوانين المتعلقة بالجرائم الإلكترونية وحرية التعبير، وحق الحصول على المعلومة، وفي السياسات واللوائح مثل لائحة تنظيم المحتوى الرقمي، وآخرها سياسة تسجيل الهواتف النقالة وربطها بمعلومات تعريفية وشخصية دون ضمانات قانونية حقيقية أو رقابة مستقلة أو مشاركة مجتمعية في صنع القرار.
وقد أثارت هذه السياسة سابقا جدلاً نيابياً، حيث أكّدت النائب زهرة البجاري، لوسائل إعلام محليّة، أنّ اعتراض اللجنة كان على الشركة المتعاقد معها وليس على آلية التسجيل نفسها، في حين كشف النائب عقيل الفتلاوي، في تصريحاتٍ صحافية، عن أن العقد تم توقيعه مع شركة بريطانية غير معروفة تملك فرعاً بالأردن، ما يثير مخاوف قانونية وفنية وأمنية تتعلق بأمن بيانات المواطنين. كما أشار عضو لجنة النقل والاتصالات كاروان علي يارويس إلى أن التحقيقات الأولية أظهرت مخالفات قانونيّة وخطورة في معالجة البيانات وأبعاد أمنية أخرى.
البنية التقنية كسياق محتمل للرقابة
المقصود بسياسة تسجيل الأجهزة هو إلزام المواطنين بتسجيل كل جهاز موبايل يُستخدم على الشبكات المحلية، وخاصّة الأجهزة التي يقوم بشرائها الشخص في العراق، ويشمل ذلك الأجهزة القديمة غير المسجلة مسبقاً، والأجهزة الجديدة التي يتم استيرادها أو شراؤها بعد تاريخ النفاذ.
وعلى الرغم من أنّ الغرض المعلن من هذه السياسات هو تنظيم سوق الأجهزة ومنع التهريب والسرقة، فإنّ البنية التقنية المصاحبة لها قد تتحول إلى أداةٍ رقابية فعّالة وخفيّة عن طريق معرفة رقم الهوية الدولية للأجهزة المتنقّلة (IMEI) الخاص بالجهاز وربطه بالمعلومات الشخصية الخاصة بمالك الجهاز.
يشير حيدر حمزوز، مؤسس منظمة “إنسم” (INSM) للحقوق الرقمية في العراق، في حديثٍ مع “سمكس”، إلى أنّ رقم الهوية الدولية للأجهزة المتنقّلة هو رقمٌ فريد مكوّن من 15 رقماً يُمنح لكلّ جهاز هاتف محمول أو جهاز متصل بالشبكة الخلوية. وتصدر الشركة المصنعة هذا الرقم ويسجل في قاعدة بيانات عالمية، بحسب حمزوز، ولا يتكرّر ولا يمكن تغييره بسهولة إلا بطرق غير قانونية.
وتستخدم شركات تشغيل الاتصالات رقم IMEI لتحديد الأجهزة الشرعية وكذلك الهواتف المسروقة، وعندما تحدد إحدى شركات التشغيل أنّ الهاتف مسروق، يمكنها منعه من العمل على شبكة الهاتف المحمول عن طريق وضع رقم IMEI ضمن القائمة السوداء في إحدى قواعد البيانات، مثل “سجل هوية المعدات” (Equipment Identity Register (EIR)، يضيف حمزوز. وإذا وضعت إحدى الشبكات رقم الهوية الدولية للأجهزة المتنقّلة لهاتف ما ضمن القائمة السوداء، فلن یعمل الھاتف حتى لو قام صاحب الهاتف بتغيير شريحة الاتصال (SIM).
وعلى الرغم من فوائد معرفة هذا الرقم، إلا أنّ المخاطر التي من الممكن أن تثار تتعلّق بالخصوصية، وفقاً لحمزوز، إذ يمكن أن تُستخدم هذه التقنيّة لتعقّب موقع الجهاز والمستخدم، والتجسس حتى إذا حصلت عليه جهة غير موثوقة، وسوء الاستخدام من قبل بعض المؤسسات التي قد تراقب موظفيها دون موافقتهم/ن.
السياسة الجديدة التي تشرّع الحكومة بناءً عليها عبر “هيئة الإعلام والاتصالات” تمنحها قدرة أكبر من مجرّد تعقّب تهريب الهواتف، إذ تسمح بربط أجهزة الاتصالات بهويات أصحابها، مما يسهل تتبعهم ويقلص قدرة الصحافيين/ات والناشطين/ات على حماية خصوصيتهم. كما يمكن استغلال أرقام IMEI في عمليات المراقبة الدقيقة أو استهداف الأجهزة.
وأخيراً، يحتوي الموقع المخصص للتحقق من أرقام الهوية الدولية للأجهزة المتنقّلة على ثغرات أمنية تتيح لطرف ثالث، بما في ذلك حكومات أخرى، الوصول إلى بيانات المستخدمين/ات واستخدامها في المراقبة أو التسويق دون موافقتهم.
ويمثّل سجل هوية الأجهزة (EIR) قاعدة بيانات مركزية تديرها شركات الاتصالات وتستخدم لتخزين أرقام الهوية الدولية للأجهزة المتنقلة (IMEI) وتصنيفها ضمن قوائم بيضاء أو سوداء أو رمادية، وذلك بهدف التحقق من صلاحية الأجهزة المتصلة بالشبكة ومنع استخدام الأجهزة المسروقة أو غير المصرح بها.
يحوّل فرض سياسات تسجيل الأجهزة المحمولة دون قانون واضح وخارج إطار رقابة مستقلة، البنية التقنية لشبكات الاتصالات من أداة حيادية إلى وسيلة رقابة ممنهجة، تنتهك الحق في الخصوصية، وتحدّ من حرية التعبير. ويزداد الخطر في حال جرى هذا دون إشراك المجتمع المدني ودون تقييم الأثر الحقوقي.
مخالفة لمبادئ الشرعية والضرورة والتناسب والاستناد إلى المعايير الدولية
ينص القانون الدولي، بما في ذلك المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادق عليه العراق بالقانون رقم 193 لسنة 1970، على أن أيّ تقييد للحق في الخصوصية يجب أن يكون محدداً بموجب قانونٍ واضح ومتاح للجمهور ويضع حدوداً دقيقة للسلطة التنفيذية، وهو ما يُعرف بمبدأ الشرعية.
كما تتطلب أيّ تدخلات في الخصوصية الالتزام بمبدأ الضرورة، أي أن تكون ضروريّة لتحقيق هدفٍ مشروع مثل حماية الأمن القومي أو النظام العام، مع تقديم أدلّة ملموسة على وجود تهديدٍ فعلي وعدم الاكتفاء بالمخاوف الأمنية العامة. ويرتبط هذان المبدآن بمبدأ التناسب الذي يشدّد على أنّ الوسيلة المستخدمة لتحقيق الهدف يجب ألا تتجاوز الضرورة، وألا تمسّ عدداً أكبر من الأفراد أو تجمع بيانات أكثر مما هو مطلوب.
بالنظر إلى أنّ سياسة تسجيل كافة أجهزة الهواتف بشكلٍ شامل تمسّ جميع السكان بغض النظر عن وجود شبهة أو خطرٍ محدد، فإنّها تعدّ غير متناسبة مع الهدف المزعوم. وقد أكّدت هذه المبادئ التعليقات العامة رقم 16 و34 للجنة حقوق الإنسان، ومبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، وتوصيات المقررين الخاصين لحرية التعبير والخصوصية. وعليه، فإنّ أي سياسة لتسجيل أجهزة الهواتف المحمولة دون أساسٍ قانوني واضح، أو دون إثبات الضرورة، وبشكلٍ جماعي يشمل الجميع، تشكّل انتهاكاً صريحاً لمبادئ الشرعية والضرورة والتناسب، وخرقاً لالتزامات العراق الدولية.
غياب الضمانات القانونية في البيئة التشريعية العراقية
رغم التوجهات الحكومية لتنظيم الفضاء الرقمي في العراق عبر بوابة (UR) التي تقدم خدمات للمواطنين والمقيمين، لا تزال البيئة التشريعية قاصرة عن توفير ضمانات قانونية حقيقية تحمي الأفراد من الانتهاكات الرقميّة، خاصة فيما يتعلق بالحق في الخصوصية والبيانات الشخصية، رغم نص المادة 40 من الدستور العراقي لسنة 2005 على حماية سرية المراسلات والاتصالات.
يفتقر العراق إلى قانونٍ نافذ لحماية البيانات الشخصية، مما يتيح جمعها ومعالجتها دون أيّ ضوابط ملزمة، ويترك المواطنين بلا حقوق واضحة للاطلاع أو الاعتراض أو التصحيح أو المحو. كما لا يوجد تعريفٌ قانوني للخصوصية الرقمية أو للمعلومات الحساسة أو للجهات المخولة بالوصول إليها، ما يعزّز الغموض القانوني ويسمح للسلطات بالتوسع في إجراءات المسح والمراقبة الرقمية دون رقابة قضائية أو برلمانية فعالة.
بحسب “سمكس”، “يفتح غياب القوانين الخاصة بحماية البيانات والشفافية في السياسات المتعلقة بكيفية استخدام البيانات ضمن سياسة تسجيل الهواتف المحمولة، الباب أمام مخاطر حقيقية تتمثل في المراقبة وانتهاك الخصوصية وسوء استخدام السلطة من قبل الحكومات. كما أنّ الأمر لا يقتصر على السلطات فحسب، بل يشمل أيضا الشركات المتعاقدة التي قد تتعامل مع هذه البيانات وتستغلها بطرق غير آمنة أو غير قانونية”.
إلى جانب ذلك، وبسبب كون السياسة غير معلنة، لا توجد هيئة مستقلة أو آليات قضائية فعالة للانتصاف والمساءلة، بما في ذلك تقديم شكاوى أو ملاحقة المسؤولين عن إساءة استخدام البيانات. وغالباً ما تستخدم مفاهيم فضفاضة مثل “الأمن القومي” لتبرير تدخلات واسعة دون تعريف قانوني دقيق، ما يمنح السلطة التنفيذية حرية واسعة في المراقبة والتدخل في الحياة الرقمية للمواطنين. وهو ما يتعارض مع المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة والتعليقات الصادرة عن لجان المعاهدات بشأن حماية الحقوق الرقمية.
يتناقض هذا مع ما نصت عليه المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة وتعليقات لجان المعاهدات، وخاصة التعليق العام رقم 31 للجنة حقوق الإنسان حول واجب الدولة في حماية الحقوق المكفولة بالعهد. إذ غالباً ما تستغل مفاهيم فضفاضة مثل “الأمن القومي” لتبرير تدخلات واسعة في السياسات الرقمية في العراق دون تعريف قانوني دقيق، ما يمنح السلطة التنفيذية حرية واسعة في مراقبة المواطنين/ات والتدخل في حياتهم الرقمية دون مبرر. ويشير المقررون الخاصون في تقاريرهم (مثل A/HRC/29/32) إلى أنّ “الأمن القومي لا يمكن أن يستخدم ذريعة لإلغاء أو تقييد الحقوق بشكل غير متناسب أو تعسفي”. وبذلك فإن غياب الإطار القانوني لحماية البيانات وتجاهل مبادئ الشرعية والرقابة والمساءلة، يجعل السياسات الرقمية الحالية بما فيها سياسة تسجيل أجهزة الهاتف، غير متوافقة مع المعايير الدولية وتشكل تهديدا مباشرا للحق في الخصوصية وحرية الرأي والتعبير.
حدود المشروعية في الفضاء الرقمي
تُعد المشروعية ضمانة أساسية لأي تدخل تمارسه الدولة في الحقوق الأساسية، سواء في الواقع المادي أو الرقمي، ولا يقتصر مفهومها على مجرد وجود قانون. وفقاً للتعليق العام رقم 16 للجنة حقوق الإنسان يجب أن يكون القانون واضحاً ودقيقاً وقابلاً للتنبؤ، مع تمكين الأفراد من الاطلاع عليه وتوقع نتائجه. لذلك يجب أن يصدر عن جهة تشريعية مختصة ويحدد أهداف جمع البيانات، مع مراعاة الشفافية والمساءلة وحق الطعن وخضوعه للرقابة القضائية أو الإدارية المستقلة.
عندما نتحدّث عن الفضاء الرقمي، تتطلب المشروعية معايير أعلى بسبب حساسية المعلومات وقدرة الدولة على التتبع والمراقبة، إضافة إلى خطورة إساءة استخدام البيانات، وأيّ تدخل في الخصوصية أو البيانات الرقمية يفتقر لهذه المعايير هو غير مشروع. فالربط الإجباري بين الهوية ومعلومات الهاتف دون ضمانات قانونية قد يقيد حرية التنقل الرقمي أو يفرض رقابة ذاتية، وهو ما يتعارض مع تطور الفضاء الرقمي كمجال للحوار والتعددية. كما أنّ السياسات الرقمية التي تمسّ الخصوصية تحتاج إلى إطارٍ قانوني متماسك يتوافق مع حقوق الإنسان الدولية ويخضع لمراجعة وتقييم مستمر بمشاركة المجتمع المدني والخبراء.
تمثّل سياسة تسجيل الهواتف النقالة في العراق، في ظلّ غياب الضمانات القانونية الكافية، إشكالاً خطيراً في احترام الدولة لحقوق الإنسان، لا سيما في البيئة الرقمية التي أصبحت امتداداً لمجال ممارسة الحقوق والحريات. فتنفيذ سياساتٍ تقنية إلزامية من دون إشراف قضائي أو برلماني أو مشاركة المجتمع المدني والخبراء أو إخطار المتأثرين بحقوقهم، يفتح الباب أمام تآكل الحقوق الرقمية ويعزز انتهاك الخصوصية والرقابة المفرطة ويكرس نهجاً يختزل المواطنة في الخضوع لإجراءات “السيادة الرقمية” دون مراعاة مبادئ الشرعية والتناسب.
وتخلو المنظومة القانونية العراقية، بما فيها مسودات مشاريع قوانين جرائم المعلوماتية وقانون حق الحصول على المعلومة وحرية التعبير عن الرأي التي هي في طور التشريع، من ضمانات جوهرية للحق في الخصوصية، ولا تحدد بدقة القيود على سلطة الدولة في جمع البيانات أو مراقبة المواطنين. يجعل هذا البيئة القانونية محفوفة بالمخاطر وغير متوافقة مع الالتزامات الدولية للعراق، وتضع المواطنين/ات في مواجهة مع مخاطر تهدّد أمنهم/ن وسلامتهم/ن.
الصورة الرئيسية من AFP.