تعيش سوريا وضعاً معقّداً في ما يخصّ شبكة الإنترنت والاتصالات، يقابلها غيابٌ لجهودٍ ملموسة (أو إعلان على الأقل) من وزارة الاتصالات ضمن الحكومة الانتقاليّة السوريَّة الجديدة في الإصلاح، التي أعطت الأولوية للعمل السياسي على حساب الخدمات في الوقت الحالي.
كشف مؤخراً وزير الاتصالات السوري حسين المصري عن عدّة إجراءات لتحسين بنية الاتصالات الرّاهنة في سوريا، كان منها: ترخيص 5 شركات مزوِّدة لخدمات الانترنت، ومن المقرر منح تراخيص لـ 20 شركة أخرى خلال أسبوعين”لتسريع عمليَّات الاستثمار، في حين كان الترخيص يستغرق أكثر من سنة في عهد الحكومة السوريَّة السابقة. يحتاج ذلك إلى تقنيات استثماريّة ضخمة تقدّر بملايين الدولارات لإعادة إعمار وتهيئة بنية الاتصالات التي تحتاج، وفقاً لتصريحات الوزير نفسه، إلى “قيمة تقديرية تصل إلى 200 مليار دولار”، بالإضافة إلى تدخّلات خبراتيَّة غير سوريَّة واستجلاب المعدّات والتقنيّات اللازمة.
في الوقت نفسه، نفذت الوزارة بعض الخطوات التقنيَّة، كان على رأسها رفع الحجب عن مواقع إلكترونية كانت محظورة في عهد النظام السابق، إضافةً إلى إلغاء تقييد سرعة الشبكة في محافظتي درعا والقنيطرة، ورفع الحجب عن المواقع التي كانت داعمةً للثورة السوريّة.
في حديثٍ مع “سمكس”، يقول أحد العاملين في وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات ضمن الحكومة السوريَّة الجديدة (رفض الكشف عن هويَّته في الوقت الرّاهن)، إنّ الوزير يجول حالياً في المحافظات السوريَّة للوقوف على واقع خدمات الانترنت والاتصالات وسبل إيجاد حلولٍ لها، ومناقشة مواضيع لها علاقة بتطوير البنية التحتيَّة للاتصالات، وتقوية الخدمات وتحسين الجودة التي تعرَّضت للإنهاك والتدمير خلال فترة الحرب السوريّة”،
شبكة الاتصالات في سوريا ما قبل 2011
شهد قطاع الاتصالات في سوريا تطوراً ملحوظاً منذ بداية استلام الرئيس السوري السابق بشّار الأسد زمام السلطة خلال العام 2000، على عكس أبيه حافظ الأسد الذي جعل من بينة الاتصالات ذات طابعٍ أمنيٍّ بحت، حيث كانت الاتصالات مكتفية بالهواتف الأرضيَّة الثابتة، دون أي وجود لشبكة الانترنت في عموم البلاد.
في آب/أغسطس 2000، أي بعد مرور شهرٍ أو أكثر بقليل على تسلَّم بشار الأسد مقاليد السلطة في البلاد، أُسّس SCS-NET، والذي كان عبارةً عن مزوِّد خدمة الانترنت عبر الجمعيَّة العلمية السورية للمعلوماتية، التي رغم أنَّها تأسست خلال عام 1989، لم تقدّم أيّ إضافة فيما يخص قطاع الاتصال والمعلوماتيّة في عموم سوريا.
يحدّثنا موظف سابق في مديرية الاتصالات بدمشق (فضّل عدم الكشف عن اسمه) عن تلك الفترة قائلاً: “تمَّ إيفادنا في يوليو عام 2010 إلى ألمانيا، عبر الشركة السوريَّة – الألمانيَّة، إلى مدينة نورمبورغ، حيث خضعنا لورشة تدريبيّة مكثّفة استغرقت شهرين كاملين، تمحورت حول التعلّم على مجموعة من التجهيزات الشبيهة بالشبكات الخليويَّة، المستخدمة في الأرياف النائية التي تتطلّب تكلفة عالية في مدّ خطوط الهواتف الأرضية الثابتة، حيث يتم الاستعانة وتعويض التكاليف بوضع المُستقبلات في الأرياف لاستقبال الإشارة من الأبراج الرئيسيَّة الموضوعة في المدن بهدف استخدام الهواتف الأرضية الثابتة في تلك القرى البعيدة”.
كما وأوعز الأسد آنذاك للجمعية العلمية السورية للمعلوماتية، التي كان يتولى إدارتها بشكلٍ شخصيّ تقريباً، بتأسيس “حاضنة تقانة المعلومات” ضمن الجمعية، إضافةً إلى تأسيس الجامعة الافتراضيَّة السوريَّة، وهي الجامعة الافتراضيَّة الوحيدة التي اعتمدت التعلّم عن بُعد حصراً.
عندما ننظر إلى الوضع الراهن، يتبادر إلى الذهن سؤالٌ يطرح نفسه: ماذا حقّقت كلّ هذه الإجراءات طالما ظلّ واقع الإنترنت في البلاد مزرياً؟
مبادرات محلّية للتخفيف من حدّة الأزمة
شكّل غياب الإنترنت وضعف جودته سبباً لزيادة معاناة المقيمين في سوريا، وما زالت هذه مشكلةً موجودة في مختلف المحافظات السوريّة دون استثناء، منذ بدء الحرب حتى يومنا هذا.
في مقابلة مع “سمكس”، يخبرنا غيث القصير المقيم في مدينة حمص، عن تجربته قائلاً إنّ “الانترنت في حمص سيئ، وأحياناً يكون مقطوعاً، ولا سيما الانترنت في المنازل بسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر، الأمر الذي يربك الأعمال الخاصة بالشركات أو المؤسسات أو حتَّى الأفراد”.
أمّا لارا (اسم مستعار)، وهي شابة مقيمة في دمشق، فتتشارك المعاناة نفسها مع غيث: “هناك أحياء في دمشق العاصمة محرومة من خدمة الانترنت بسبب سوء البنية التحتيّة التي خلّفها النظام السوري السابق، وسط انعدام الحلول من الحكومة الجديدة”.
الآن وبعد سقوط النظام السوري وتأسيس الحكومة الانتقاليَّة في سوريا، بدأ المغتربون السوريون بالعودة إلى وطنهم، بعد أن كانوا ممنوعين من ذلك، للمساهمة في تطوير البنية التحتية وتوظيف خبراتهم المُكتسبة خلال سنوات الهجرة.
ومن بين هذه المبادرات المبادرة الحالية التي يقودها المهندس السوري فؤاد المسدي، والمتخصص في مجال الاتصالات وإدارة مشاريعها، الذي عاد بعد 12 سنة قضاها في الخارج. وتنطوي المبادرة، كما يحدِّثنا المهندس في حديثٍ خاص لـ”سمكس”، على: “تطوير قطاع الاتصالات والبنية التحتية التكنولوجية في سوريا، كما تهدف المبادرة إلى المساهمة في إعادة إعمار قطاع الاتصالات في سوريا باستخدام الخبرات المكتسبة في السويد، مع التركيز على إدخال تقنيات مثل 5G وتحسين خدمات الإنترنت والاتصال في سوريا”.
وحول آليّة تنفيذ المبادرة، فيشير المهندس السوريّ إلى ضرورة البدء بتحليل الوضع الحالي من خلال دراسة شاملة للبنية التحتية وتحديد مكامن الضعف، إضافةً إلى التعاون مع الجهات المحلية والدولية والتنسيق مع الشركات المحلية والحكومة، وتدريب الكوادر المحلية على إدارة المشاريع وإتقان التقنيات الحديثة.
من جهة أخرى، لا يُخفي المسدي تخوّفه من بعض التحديات التي قد يلمسها، لا سيما في الوقت الراهن من تاريخ سوريا، والتي لخصّها بـنقص الموارد المالية، وضعف التنسيق بين الجهات المحلية والخارجية، إضافةً إلى الوضع الأمني وتأثيره على التنفيذ في بعض المناطق. ويكمل: “نفّذت عدّة لقاءات مع وزراء ضمن الحكومة السوريَّة الجديدة وكانت إيجابيّة، لكنّها تحتاج إلى المزيد من التنسيق والتنفيذ الصادق من المبادرين، وقد قمت بطرح مبادرتي عبر سنوات خبرتي مع شركات أوروبيَّة تعمل في المجال نفسه، وتواصلتُ مع عدَّة جهات وشركات في الاتحاد الأوروبي، والبوصلة تتجه بشكلٍ جيد ومناسب، إلَّا أنَّنا نسعى للحصول على شركاء في هذه المبادرة للتنفيذ.وقد طرحتُ المبادرة على وزارة الاتصالات، وما زال العمل جارباً على إيجاد استراتيجيَّة عمل وتأمين الميزانيَّة اللازمة”.
غياب الإحصاءات والبيانات الدقيقة
مع بدايات العام 2011 تدهورت أوضاع قطاع الاتصالات وشبكات الانترنت، ووصلت إلى درجة أنَّها توقفت في المناطق السورية التي شهدت نزاعاتٍ عسكريَّة، أو خرجت بالكامل عن سيطرة الحكومة السوريَّة. كما وأدَّى ضعف الاستثمار بعد اندلاع الحرب إلى وجود نقص في الموارد اللازمة لتحديث الشبكات الموجودة ضمن بنية الاتصالات التي تعرَّضت لتحديَّاتٍ كبيرة ومصاعب لم تقوَ الحكومة ووزارة الاتصالات من التصرّف إزاءها، إذ تعرَّضت الشبكات والمراكز المغذيَّة الرئيسة الموزَّعة في كامل أنحاء سوريا إلى القصف والتدمير والسرقة ونهب أبراج الاتصالات وحرق مراكز البريد والاتصالات، والتي أدَّت إلى خسارات وتعدّيات قُدِّرَت بمليارات الليرات السوريَّة.
وتراجعت جودة خدمة الهواتف المحمولة على إثر تعرّض المستقبلات والمُرسلات والأبراج وبطارياتها الموزَّعة على كامل سوريا في فتراتٍ زمنيَّة سابقة إلى السرقة والنهب وانعدام توفّر الصيانة التي أصبحت مستحيلةً في المناطق التي تشهد نزاعاتٍ عسكريَّة، وانقطاع التيار الكهربائي بشكلٍ عام، ما أدَّى لخروج كل تلك الأبراج عن الخدمة بشكل كليّ.
ما زال الوضع كما هو عليه حتى يومنا هذا، وهو أمرٌ كانت إحدى أسبابه المباشرة فصل أغلب العاملين ذوي الخبرة في مديريات الاتصالات في مختلف المحافظات السوريَّة لأسباب تتعلَّق بالسياسة أو المشاركة بالاحتجاجات الشعبيَّة أو غيرها من الأسباب المجهولة.
نجَت البنية التحتيَة للاتصالات في بعض المناطق التي بقيت تحت سيطرة الحكومة السوريّة، كالعاصمة دمشق ومحافظات مثل حمص وحماة، إلَّا أنَّها وفي السياق نفسه شهدت تدهوراً مرعباً من ناحية الخدمات، وانتشار الفساد المالي في الشركات المزوِّدة للانترنت والاتصالات، وارتفاع الأسعار بما لا يتماشى مع الأوضاع الاقتصاديَّة التي عصفت بالبلاد ترافقاً مع بدء الحرب السوريَّة.
علاوة على ذلك، اشتدّت القبضة الأمنيّة على قطاع الاتصالات وجرى العمل على تقييد حرية الوصول وانعدام الأمن والخصوصيَّة، الأمر الذي أجبر المقيمين في تلك المناطق على تقليص استخدام الانترنت بشكلٍ كبير للغاية، كما وأنَّ انعدام وجود ورشات صيانة دوريّة أدَّى إلى سوء الخدمات المقدَّمة في هذا القطاع. كما ساهمت العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضةً على سوريا بشكل كبيرٍ للغاية في التأثير على قدرة الحكومة فيما يخصّ استيراد المعدات التكنولوجية الحديثة المتعلقة بأجهزة الاتصالات التي تحتاجها لتطوير وتحسين شبكة الإنترنت، الـأمر الذي جعل من بنية الاتصالات والشبكة السوريَّة قديمةً وذات كفاءة متدنيَّة للغاية.
من ناحية أخرى، شكّل اعتماد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السوريّة (وهي مساحة تقدّر بثلث مساحة سوريا) لمدّة أربعة عشر سنة متواصلة، دافعاً لاتماد طرقٍ بديلة للحصول على خدمات الانترنت والاتصالات، سواء بالاعتماد على الانترنت الفضائي أو الشبكات التركيَّة. أثَّر ذلك بشكلٍ مباشر على الاقتصاد ومحاولات حكومة بشار الأسد على الاستثمار المالي في هذا القطاع.
وفقاً لتصريحاتٍ سابقة منشورة في صحف رسمية تابعة للحكومة السوريَّة، كان المدير العام للشركة السوريَّة للاتصالات في عهد الأسد قد أعلن بأنَّ أطوال الكوابل المسلَّحة وغير المسلَّحة المسروقة خلال العام 2024 بلغت 23996 متراً وبكلفة تعادل 6.9 مليارات ليرة سوريّة، فيما بلغت أطوال الكوابل المعلقة التي سُرِقَت حوالي 50253 وبكلفة تُعادل 3.2 مليار ليرة سوريَّة. أمَّا في العام 2023 فقد بلغت أطوال الكابلات المسلَّحة وغير المسلَّحة المسروقة 57079 متراً بكلفة وصلت نحو 13.7 مليار ليرة سوريَّة، فيما بلغت أطوال الكابلات المعلقة المسروقة وصلت 209922 متراً بكلفة نحو 10.5 مليار ليرة سورية.
كنتيجةٍ مقارِنة ما بين العام 2011 وصولاً إلى العام 2024، يمكن القول إنّ البنية التحتية للاتصالات في أغلب المناطق السورية ما زالت على حالها لناحية الدمار والإهمال والنهب، ولا سيما الأبراج في الأرياف البعيدة التي لا يمكن الوصول إليها، وقد ساهمت الاختلافات العسكريّة والسياسية الحالية في زيادة صعوبة الموقف. أمّا لناحية الإنترنت، فجودة الخدمة سيئة وأحياناً تكون مقطوعة في أغلب المناطق.
والأمر سيَّان بالنسبة إلى المناطق التي كانت خارجةً عن سيطرة الحكومة السوريَّة السابقة، مثل شمال شرق وشمال غرب سوريا، التي انهارت فيها البنية التحتيَّة للاتصالات بشكلٍ كامل، واضطرار سكَّان تلك المناطق إلى ابتكار وسائل بديلة.
تحاول الحكومة السورية الجديدة بكافة الوزارات، العمل على ترميم إرث الخراب الذي تركه النظام السوري السابق، ومحاولة العمل على إعادة هيكلة البنية التحتية لسوريا، والمنهارة بشكل شبه كامل، لكن هذا الأمر يحتاج إلى أفق وخطط استراتيجية مُتقَنة، ترتكز إلى إحصائيات وبيانات تحليليّة دقيقة لأجل العمل على تطبيق خطط البناء وإعادة الهيكلة بأسلوبٍ سليمٍ ومنهجيّ.
الصورة الرئيسية من AFP.