أعدّ هذا المقال بالتعاون مع شبكة “إنسم” للحقوق الرقميّة
أعلنت الحكومة العراقيّّة، ممثّلة بالشركة العامة للبريد والاتصالات، نيّتها حظر استخدام خوادم “غوغل” دي إن إس” Google DNS (8.8.8.8) في البلاد.
بعد موجةٍ من الانتقادات التي طالت القرار، أصدرت وزارة الاتصالات بياناً قالت فيه إنّها “لا تقوم بحجب أي موقع بناءً على أمزجة أو اجتهادات شخصية، إنّما تنفيذاً لما يردها رسمياً من مؤسسات الدولة المعنية وتنفيذاً لما ورد في قرار المحكمة الاتحادية العليا وقرار مجلس النواب”.
“إنّ الهجمة التي تتعرض لها الوزارة من المتصيّدين بالماء العكر لن تثنيها عن أداء واجبها الوظيفي والأخلاقي إزاء هذا الترويج الممنهج الذي يستهدف المنظومة الاخلاقيّة والنسيج المجتمعي العراقي […]” بحسب ما جاء في البيان.
ليس جديداً على دول المنطقة، والعراقُ منها، استخدام ضرورة حماية “المنظومة الأخلاقيّة” و”النسيج المجتمعي” كذرائع تتلطّى خلفها لاتخاذ قراراتٍ تنطوي على انتهاكاتٍ كبيرة لحقوق الإنسان.
ما هي خوادم نظام أسماء النطاقات؟ وكيف تُحظر؟
يُعدّ نظام أسماء النطاقات (DNS) جوهر عمل الإنترنت، فهو الذي يقوم بترجمة العناوين مثل example.com إلى موقعٍ فعليّ للخادم، يُمثّل بعنوان IPv4 أو IPv6. ويُستخدم النظام كخدمة افتراضية على معظم الأجهزة، وعادةً ما يتمّ توفيره من قبل مزودي خدمة الإنترنت (ISPs) لربط المودم المنزلي وأجهزة الهاتف عبر مشغّل الشبكة بالإنترنت.
ونظراً لكونه ركيزة أساسية في عمل الإنترنت، يغيّر غياب نظام أسماء النطاقات مفهوم الإنترنت نفسه، إذ يصبح الوصول إليه ممكناً فقط من خلال عنوان بروتوكول الإنترنت IP مباشرة. وبما أنّ استخدام النظام ضروريّ ولا غنى عنه، يشكّل حجبه شكلاً من أشكال الرقابة الحكوميّة الخطرة على الإنترنت.
يُستخدم حجب نظام أسماء النطاقات كأداة للرقابة والتحكم بالمحتوى على المستوى الوطني، كما يتم تطبيقه كإجراء أمني من قبل بعض الشركات والمؤسسات لمنع الوصول إلى الخدمات الضارة وتجنب عمليات الاختراق وانتشار البرمجيات الخبيثة.
يترجم نظام أسماء النطاقات اسم نطاق مقروء مثل smex.org إلى عنوان بروتوكول IP مثل 9.9.9.9. يُستخدم للتواصل بين أجهزة الكمبيوتر، تماماً كأنّه دفترٌ يحتوي على جهات اتصال. وفي كلّ مرة تكتبون فيها duckduckgo.com في المتصفّح الذي تستخدمونه، يرسل جهازكم في الخلفية استعلاماً إلى خادم DNS، مثل دفتر العناوين الذي ذكرناه، ليترجمه إلى عنوان بروتوكول IP ويتمكّن من الاتصال به.
في العراق، تعتزم السلطات حظر نظام أسماء النطاقات الخاص بـ”غوغل” الذي يستخدم العنوان 8.8.8.8. ويعني هذا أنّ وزارة الاتصالات العراقية ستستخدم نظاماً خاصاً بها لجميع مزوّدي الإنترنت في البلاد. ويُرجّح أن يُنشأ هذا النظام بغرض حظر المواقع، حيث سيتحقق الخادم من قائمةٍ سوداء للمواقع المحظورة أو المواقع الممنوعة قبل زيارتها. ويشبه الأمر في هذه الحالة دفتراً يتضمّن الأشخاص الذين يجب تجنّب الاتصال بهم.
لنفترض أنّ الموقع الذي قرّرت الحكومة العراقية حظره هو smex.org. إذا كان النطاق smex.org موجوداً في القائمة السوداء، فسيقوم خادم النظام الجديد بما يلي:
- إظهر إشعار بأنّ الموقع “محظور”، وكأنّ عنوان بروتوكول IP غير موجود.
- إعادة توجيهكم إلى عنوان بروتوكول IP مختلف، مثل صفحة تحذير تشير إلى أن هذا الموقع محظور للأسباب الفلانيّة.
- إلغاء طلب النظام تماماً، مما يؤدي إلى عدم الوصول إلى smex.org. ولن يظهر لكم الموقع الذي تبحثون عنه.
باختصار، سوف تتحكّم السلطات بالخدمات المستندة إلى النطاقات، وتحديد ما يمكن الوصول إليه وعدم الوصول إليه. وبدون قانونٍ سيبرانيّ وإجراءات حكوميّة واضحة بشأن كيفية تنفيذ هذا الحظر، قد يُستخدم نظام أسماء النطاقات في بعض المواقع لنشر المحتوى الضار.
وسوف تتمكّن الحكومة من استهداف الأفراد بسهولة، مثل أولئك الذين يزورون مواقع المنظمات غير الحكومية، وذلك عن طريق حظر النظام الأصليّ وإعادة توجيه اسم النطاق إلى موقع ويب آخر لا يمتّ لما كان مرتبطاً به بصلة، كما يشرح الرسمي البيانيّ أدناه.
لا يُعتبر حظر نظام أسماء النطاقات ممارسة غير شائعة. وتختلف طرق تطبيقه، أبرزها الحظر على مستوى مزود خدمة الإنترنت (ISP)، حيث تذهب جميع طلبات النظام الخاصة بكم إلى مُحلّل النظام الخاصّ بهم، سواء بتكوينه على المودم/الراوتر المملوك للشركة في منزلكم، أو من خلال مشغّل الهاتف المحمول. وغالباً ما يتمّ ذلك امتثالاً للقرارات الحكوميّة، تماماً كما هو الحال في العراق اليوم.
من جهة أخرى، يمكن أن يتمّ الحظر بواسطة خدمات الأنظمة المعروفة مثل “غوغل”، أو “كلاودفلير”، أو “أوبن دي إن إس” (OpenDNS)، وهو خيارٌ متاح في المبدأ لحماية سلامة المستخدمين على الإنترنت، عن طريق حظر المواقع التي قد تفسح مجالاً لهجمات التصيّد الاحتيالي أو المحتوى الضار الذي قد يعرضهم للخطر.
كيف سيؤثّر الحظر على المستخدمين/ات في العراق؟
يوفّر حظر استخدام نظام أسماء النطاقات التابع لـ”غوغل” أرضيّة خصبة للمخترقين والهجمات السيبرانية، خاصة في حال توظيف إجراءات حماية ضعيفة واستخدام نظام أسماء النطاقات غير مشفّر، لأنّه سيمنع تشفير بيانات الاستعلام ويسمح بتتبّع الأفراد وبياناتهم، على عكس نظام أسماء النطاقات التابع لـ”غوغل” الذي لا يحتفظ بهذه المعلومات عند استخدامه، بحسب منظّمة “إنسم” المعنيّة بمتابعة قضايا الحقوق الرقميّة في العراق، في تصريحٍ لـ”سمكس”.
علاوة على ذلك، سوف تتأثر جودة خدمات الإنترنت بسبب هذا القرار تضيف “إنسم”، إذ يحتاج نظام أسماء النطاقات البطيء وقتاً أطول في ترجمة أسماء النطاقات إلى عناوين بروتوكول IP، مع زيادة في زمن الاستجابة (Latency). كما سيواجه مستخدمو ألعاب الفيديو مثلاً مشاكل في اللعب والتنزيل بسبب بطء الخوادم وبعدها الجغرافي، فضلاً عن احتمال فشل المصادقة المرتبطة بنظام أسماء النطاقات التي تطلبها بعض الألعاب.
وأخيراً، قد يؤثّر القرار على القطاعات المتّصلة بالإنترنت بسبب تغيّر استجابة الخوادم الحكومية. على سبيل المثال، لهذه الخطوة انعكاسات سلبيّة محتملة على القطاع المالي والمصرفي وأنظمة الدفع الإلكتروني، وقد يكون السبب متمثلاً بالمشاكل المرتبطة بتخلّف النظام المحلي عن الأنظمة الحديثة، ورفضه لعمليات البطاقات الالكترونية التي تحتاج إلى خوادم سريعة ومتخصّصة.
للدستور والمواثيق الدوليّة
من ناحية قانونيّة، يتعارض أصل القرار مع الدستور العراقي بمواده التي تنصّ على حماية حرية الاتصالات والمراسلات الإلكترونيّة وغيرها.
تنصّ المادة 40 من الدستور العراقي على أنّ “حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والالكترونية وغيرها مكفولة، ولا يجوز مراقبتها أو التنصّت عليها، أو الكشف عنها، إلا لضرورةٍ قانونيةٍ وأمنية، وبقرارٍ قضائي”.
وعلى الرغم من أنّ المادة تحمل نوعاَ من الضبابيّة لذكرها أسباباً فضفاضة وغير معرّفة، مثل الضرورة القانونية والأمنية، إلا أنّها واضحة بشأن ضمان حرية الاتصالات وخصوصيّتها.
أمّا المادة 46، فتنصّ على أنّ “تقييد ممارسة أيّ من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها لا يكون إلا بقانون أو بناءً عليه، على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية”. وهو أمرٌ يخالفه القرار الجديد، كونه ليس قانوناً أولاً، ويمسّ بالحريات الأساسية للأفراد ثانياً، بدءاً بحرية التعبير وصولاً انتهاك خصوصية المراسلات والبيانات.
تعليقاً على ذلك، يشير المحامي محمّد جمعة في حديثٍ مع “سمكس” إلى أنّ ما تقوم به الحكومة العراقية من فرض قيود على الفضاء الرقمي وما يؤدي ذلك من حجبٍ لمواقع على الإنترنت يخالف الدستور العراقي، وأضاف أنّه “لا يحق لأيّ جهة حجب مواقع إلكترونيّة بحجّة الحفاظ على القيم، وحتى لو كانت هذه الحجة حقيقية، فلماذا إذاً ليست كلّ المواقع المواقع المحجوبة إباحيّة بطبيعتها حصراً، وتتضمّن مواقع تقييم الأفلام والمواقع التي تنشر البحوث مثلاً؟”
“لقد أقمنا دعوى أمام محكمة القضاء الإداري من أجل إيقاف قرار الحجب. وقد أجابت وزارة الاتصالات بأنّ هذه المواقع تقدّم محتوى إباحياً وأنّها تستند إلى قرارات المحكمة الاتحادية. ولكنّ قرار المحكمة الاتحاديّة العليا نفسه مخالف للدستور، لأنّها وجّهت أمراً لوزارة الاتصالات لفرض الحظر، مع العلم أنها لا تملك صلاحية توجيه قرارات ملزمة للوزارات. سوف نتصدّى لهذا القرار قضائياً لإنصاف حرية التعبير والدستور، لأنّه إذا ترك الأمر على ما هو عليه، فسنكون بصدد نشوء دكتاتورية تُبنى على قرارات كهذه وتتوسّع شيئاً فشيئاً”، وفقاً لجمعة.
وأخيراً، وبسبب نتائجه التي تؤثّر على جودة الإنترنت وتنتهك حرية التعبير، يشكّل القرار انتهاكاً للحقّ للمادّة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية على حدٍّ سواء، واللذان يضمنان حرية التعبير والتماس المعلومات من خلال أيّ وسيلة يختارها الفرد.
تاريخ حافل بقوننة محاربة الفضاء الإلكترونيّ الحرّ
في آب/أغسطس 2023، تسبّب مشروع قانون جرائم المعلوماتيّة العراقي بجدلٍ كبير بين أعضاء مجلس النواب، لما يحتويه من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان. وقد تضمّن القانون أحكاماً بالسجن المؤبّد ضدّ كل من يستخدم عمداً “أجهزة الحاسوب وشبكة المعلومات بهدف المساس باستقلال البلاد ووحدتها وسلامتها أو مصالحها”، بالإضافة إلى غراماتٍ وعقوباتٍ لا توازن بينها وبين حجم الفعل، ومصطلحاتٍ فضفاضة لا تفتقر إلى تعريفاتٍ واضحة وقانونيّة.
من جهة أخرى، ما زالت السلطات العراقيّة تصرّ على الإمعان بقمع المحتوى الإلكترونيّ من خلال منصّة “بلّغ” التي أطلقتها في كانون الثاني/يناير 2023. تهدف المنصّة إلى تمكين الأفراد من الإبلاغ عن المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يُعتبر “مسيئاً” أو “غير لائق”، الأمر الذي أثار مخاوف حقوقية من إمكانية استخدامها لقمع حرية التعبير وترهيب المدونين المنتقدين للسياسات الحكومية. خلال الفترة بين شباط/فبراير وآب/أغسطس 2024، جرى تقديم نحو 152 ألف شكوى، مما يعكس الاستخدام المستمر للمنصة كأداة قمعية مع استمرار الاعتقالات والملاحقات القضائية طوال عامين.
بوتيرة سنويّة، تقطع السلطات العراقيّة الإنترنت خلال أوقات الإمتحانات بحجة “منع عمليات الغشّ أو التسريب أثناء الامتحانات المدرسيّة. وقد خسر العراق أكثر من 209 ملايين دولار أميركي في النمو الاقتصادي بسبب عمليات قطع الإنترنت في البلاد، ما يثبت أنّ هذا الإجراء، ولو اتُّخذ لفترة وجيزة، يتسبّب بعواقب بعيدة المدى على الاقتصاد الوطني العراقي ويؤدّي إلى تضرّر الناس في جميع أنحاء البلاد بشكل غير مبرّر. كما يُشكّل التدخّل في الاتّصال بالإنترنت للحدّ من قدرة الأشخاص على التواصل والتعبير عن نفسهم والوصول إلى المعلومات الضرورية في أثناء حالات الطوارئ والأزمات انتهاكًا للحقّ الأساسي في حريّة التعبير.
وأخيراً، تعدّدت الممارسات المتفرّقة التي أقدمت عليها الحكومة العراقية خلال السنوات الأخيرة الماضية، مثل حجب مواقع نهائياً من دون أيّ أسبابٍ واضحة، والتلويح بحجب “تيك توك” بناءً على طلب تقدّمت به وزيرة الاتصالات العراقية، هيام الياسري لمجلس الوزراء لحجب تطبيق “تيك توك”، كونه يساهم في “تفكك النسيج المجتمعي العراقي”.
المشترك بين كلّ هذه الممارسات وقرار حظر استخدام خوادم “غوغل” دي إن إس”، و الضبابيّة في المصطلحات، وغياب المسوّغات القانونيّة والمنطقيّة، النتيجة المتمثّلة بإحكام السيطرة الحكوميّة على الفضاء الإلكترونيّ.
ولكن، ألا تتعارض كلّ هذه الممارسات مع المقاربة الحديثة التي أعلنت السلطات العراقية تبنّيها في ما يخصّ موضوع التحوّل الرقمي؟ وكيف تتوقّع الحكومة تحقيق أهدافها هذه فيما تتخذ نقيضها من القرارات بشكلٍ دوريّ؟
ماذا يجب أن تعرفوا عن الحظر؟ وكيف يمكننا تخطّيه؟
الجيّد في الإنترنت هو أنّه يمكّنكم/ن من ربط أجهزتكم/ن (اللابتوب أو الهاتف المحمول أو حتى جهاز التوجيه المنزلي) بأي دائرة حلّ DNS تختارونها. أحد الأمثلة على ذلك هو استخدام خوادم DNS البديلة، وهي طريقة تمكّن المستخدمين/ات من تجاوز الحظر عن طريق تهيئة أجهزتهم محلياً لاستخدام خادم DNS مختلف لا يفرض الحظر، على غرار Quad9، وهي خدمة مجانيّة تستبدل مزوّد الإنترنت الخاص لكم (ISP) بهدف حظر تهديداتٍ وعمليات ضارّة قد تهدّد نشاطكم/ن.
لا يمكن كشف موقعكم/ن في حال كنتم/ن تستخدمون شبكة افتراضيّة خاصة (VPN) موثوقة. عادةً ما تكوّن الشبكات الافتراضيّة خوادم DNS خاصّة بها، وبما أنّها تشفّر حركة مروركم/ن عبر الإنترنت، والتي تشمل طلبات DNS، يمكن إذاً تجاوز الحظر المفروض من مزوّد خدمة الإنترنت المحلي بفضلها.
أمّا الخيار الثالث، فهو فرض واستخدام DNS عبر (HTTPS (DoH أو DNS عبر TLS (DoT). تقوم هذه البروتوكولات بتشفير استعلامات DNS، مما يصعّب على مزودي خدمة الإنترنت أو مديري الشبكات حظر أو مراقبة طلبات DNS. يمكن تفعيل هذا الخيار لأنه مدمج بشكل افتراضي على أجهزة أندرويد (أندرويد 11 أو أحدث) بالإضافة إلى أجهزة iOS الجديدة.
الصورة الرئيسية من AFP.