أثار النائب في البرلمان الأردني، عبد الرؤوف الربيحات، جدلاً بعد انتقاده تعاقد الحكومة الأردنية مع شركة “بريسايت” (Presight) لتنفيذ مشروع التحوّل الرقمي في وزارة الصحة.
تعتبر “بريسايت” ثمرة مشروعٍ مشترك بين شركة إماراتيّة وأخرى تابعة للاحتلال الإسرائيلي، وتعنى بأنظمة الدفاع. “من غير المقبول أن تقوم الحكومة بإتاحة قواعد بيانات القطاع الصحي لشركةٍ تابعة للكيان الاسرائيلي، لا سيما أن إتاحة هذه الإمكانية هي مسألة حساسة تتعلق بالبنية التحتية البشرية للدولة، وهي معلومات يمكن استثمارها في أيّ حالة حرب مقبلة”، تقول المذكرة الرسمية التي رفعها الربيحات لوزيرة التخطيط والتعاون الدولي زينة طوقان في 13 تشرين الأول/نوفمبر الجاري والتي تطالب الحكومة بتوضيح بنود العقد والانسحاب منه فوراً.
تفاعل الأردنيون مع القضية بشكلٍ لافت، لأنّها أثارت مخاوفهم بشأن مدى أمن بياناتهم/ن الصحية بعد مشاركتها مع شركةٍ مرتبطة بإسرائيل، خاصّة في أعقاب حادثة انفجار أجهزة النداء في لبنان التي وقعت في أيلول/سبتمبر الماضي. من ناحيتها، قالت وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة أنّ هذا التعاقد هو جزء من “منحة إماراتية كريمة” في إطار التعاون بين البلدين، وأن هذا العقد سيخضع إلى جميع المراحل القانونية بما ينسجم مع منظومة القوانين الأردنية، ناهيك عن الموافقات اللازمة من الجهات ذات العلاقة، بما فيها المعنيّة بالأمن السيبراني وبما ينسجم مع قانون حماية البيانات الشخصية الأردني.
ما هو مشروع رقمنة القطاع الصحي؟
أطلقت كلّ من وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة ووزارة الصحة، بداية أيلول/سبتمبر الماضي، مشروع تقييم واقع التحول الرقمي في المستشفيات والمراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة في المملكة. ويشمل المشروع تطوير الاستراتيجية التي توضع على أساسها خارطة الطريق للمشاريع المستقبليّة، ضمن الاتفاقية الموقعة بين وزارة الاقتصاد الرقمي وشركة “بريسايت” المتخصّصة بتحليل البيانات الضخمة بالذكاء الاصطناعي، والتي تتخذ من أبوظبي مقراً لها. يأتي هذا العقد ضمن مذكرة تفاهم مع صندوق أبوظبي للتنمية، تقدّر قيمتها بـ400 مليون دولار أميركي، خُصّص منها 100 مليون لمشروع التحوّل الرقمي.
احتفى وزير الصحة الدكتور فراس الهواري بهذا التعاقد، قائلاً إنّ الوزارة ستعمل على تنفيذ مشاريع رئيسية في إطار التحول الرقمي، في حين قال الرئيس التنفيذي للعمليات في شركة “بريسايت”، الدكتور عادل الشرجي، إنّ “هدفنا في هذا المشروع يتمثل بتمهيد الطريق لمستقبل أكثر صحّة في الأردن وغيرها من الدول، من خلال الجمع بين تقنيات الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية”.
كشف مسؤولٌ مطّلع على المشروع في وزارة الاقتصاد الرقمي لـ”سمكس” إنّ الخطة المبدئية تمتدّ لستة أشهر، سيتمّ العمل خلالها على تنفيذ مجموعةٍ من مشاريع التحول الرقمي في الأردن. ومن بين هذه المشاريع دراسة العمليات والإجراءات، وتحديد الفجوات، وتحسين مخرجات منظومة الرعاية الصحية في البلاد، وتطوير استراتيجية لإنشاء منصّة لتبادل البيانات الصحية، كما تشمل خططاً لتوفير عددٍ من الخدمات الصحية عن بُعد عبر مستشفى افتراضي، وإنشاء نظام لفوترة المرضى في المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية.
ربّما تساهم رقمنة القطاع الصحي في تعزيز وتحسين جودة الخدمات الصحية مثل المراجعات الطبية وأرشفة الفحوصات ودراسة سجلّات المرضى، إلا أنّ هناك الكثير من المخاوف المرتبطة بفكرة دمج الذكاء الاصطناعي في معالجة بيانات القطاع الصحي، مثل احتمالية حدوث خروقاتٍ للبيانات، والهجمات الإلكترونيّة التي قد تتعرض لها خوارزميات الذكاء الاصطناعي. وتتضاعف هذه المخاوف عندما تكون الجهات القائمة على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي متورطة في قمع حريات التعبير وتمكين الجهات الرسمية من التجسس والمراقبة أو حتى المشاركة العسكرية في حروب الإبادة.
أطلق مشروع “بريسايت”، وهي شركة إماراتية إسرائيلية، عام 2021 في إطار ما عرف باتفاقيات التطبيع “أبراهام” بين الاحتلال الإسرائيلي وعددٍ من الدول العربية. وهو مشروعٌ مشترك بين شركة “جي42” (G42) الإماراتية وشركة “رافائيل” (Rafael) العسكرية الإسرائيلية. يهدف هذا المشروع إلى تسويق تقنيات وحلول البيانات الضخمة، ومن المقرر إنشاء مركزٍ للبحث والتطوير في الأراضي المحتلّة لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاعات متعددة مثل الرعاية الصحية والسلامة العامة والمصارف وغيرها.
تُعرف شركة “رفائيل” المملوكة للحكومة الإسرائيلية بتورطها في حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية على غزة ولبنان، إذ طوّرت الشركة أنظمة صاروخية متقدّمة مثل صاروخ “سبايك” الموجه والمضاد للدبابات ونظام “بوباي” الصاروخي “جو-أرض”، ونظام الشعاع الحديدي الموجه بالليزر، وهو نظام دفاع جوي لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى المعروفة باسم القبة الحديدية. تأسست رفائيل عام 1948 بتوجيه من ديفيد بن غوريون بهدف إجراء أبحاث علمية لأغراض عسكرية وكمختبر لتطوير الأسلحة والتكنولوجيا في وزارة الحرب الإسرائيلية، قبل أن تصبح “شركة حكومية مستقلة” عام 2002، تهتمّ بتطوير وإنتاج الأسلحة والتقنيات العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، بالتوازي مع سعيها لتصدير منتجاتها العسكرية إلى الخارج.
تؤكّد الناشطة في مجال الحقوق الرقمية راية شاربين لـ”سمكس” إنّ شركة “جي42″، إلى جانب تعاملها مع الشركات الإسرائيليّة، متورّطة بشراكات وعمليات تمويل مشبوهة استهدفت ناشطين/ات وحقوقيين/ات. كما اتُهِمت الشركة بتمويل تطبيق “توتوك” (Totok) الذي ارتبطت باسمه حادثة تسليم بيانات المستخدمين للأجهزة الأمنيّة الإماراتية، وبارتباطها بمؤسسة “دارك ماتر” (Dark Matter) التي تصنّع برمجيات التجسس، بما فيها تلك المستخدمة لاستهداف الناشطين في منطقة الخليج”.
هل يكفي قانون حماية البيانات الشخصية؟
يستحيل تجاهل المخاوف الحقوقية المتعلقة بأمن البيانات في هذا المشروع، على الرغم من أنّ الإعلان الرسمي حول الاتفاق زعم أنّ لـ”بريسايت دورٌ محدّد في إنشاء مشروعات معيّنة، على أن ينتهي عملها بعد إنجاز هذه المشروعات”. وتضيف شاربين في هذا الخصوص أنّ هذا التعاقد يتّسم بكثير من الغموض، إذ أنّه لا يوضح ماهيّة الهدف من تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي على كميات ضخمة من بيانات الأردنيين الصحية، ولا نوعية البيانات الصحية التي ستتم مشاركتها مع الشركاء، ولا طبيعة الصلاحيات التي تمكّن الأطراف من الوصول إليها.
بحسب محامٍ مختصٍّ فضّل عدم الكشف عن اسمه، فإنّ “بريسايت”، بذراعيها الإماراتي والإسرائيلي، لها تاريخ عنيف ينطوي على القتل والتجسس والمراقبة والسيطرة، مما يجعل مسألة معالجتها لبياناتٍ حساسة مثل البيانات الصحية للأردنيين يبقى أمراً غير منطقيّ مهما ادّعت الاستقلاليّة عن القطاع الحكومي أو مركزيّة أنشطتها المدنية عن أنشطتها العسكرية. كما يشير إلى أنّ “قانون حماية البيانات الشخصية لعام 2023، والذي يعمل إلى جانب الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي في وزارة الصحة كإطار تنظيمي لهذا المشروع، غير كافٍ لضمان حماية بيانات الأردنيين”.
أقر مجلس النواب النسخة المعدلة من “قانون حماية البيانات الشخصية لسنة 2021” آب/أغسطس العام الماضي، بعد أن كانت وزارة الاقتصاد الرقمي قد اقترحت أول مسودة للقانون عام 2014. يشكّل هذا القانون الناظم الحقيقي لعمل الجهات التي تجمع بيانات الأفراد ويمنع استغلالها من قبل الجهات المختلفة. وقد حظيت نسخته الأخيرة بترحيب واسع من المنظمات الحقوقية لتوافقه مع مجمل المبادئ الأساسية لـ”اللائحة العامة لحماية البيانات” (GDPR)، إلا أنّه ينطوي على مخاوف حقوقية حقيقيّة.
يقول المحامي إنّ أخطر التعديلات التي أجريت على القانون هي منح الجهات الخاضعة لرقابة وإشراف البنك المركزي، صلاحية معالجة البيانات الشخصية بما في ذلك نقل وتبادل البيانات داخل المملكة أو خارجها، دون إعلام الشخص الطبيعي الذي تتم معالجة بياناته، واعتبار ذلك الإجراء “قانونياً وشرعياً”. بحسب قوله، فإنّ هذه الاستثناءات، بالإضافة إلى بنية مجلس حماية البيانات الحكومية والمسؤول عن الفصل في جميع الشكاوى المقدمة، تنسف جوهر مبادئ الخصوصية وحماية البيانات.
يرفض رئيس قسم كهرباء القلب في مستشفى العبدلي، الدكتور محمد الحجيري، “رفضاً تاماً وقاطعاً” مشاركة أيّ من بيانات مرضاه أو التعامل مع المشروع الجديد، داعياً زملاءه في النقابة وخارجها لاتخاذ الموقف نفسه من المشروع، الذي يعتقد الحجيري أنّه يسعى إلى سرقة البيانات والتحكم بالقطاع الصحي. “يتمتّع الأردن بالكفاءة الكاملة لحوسبة البيانات بأيادٍ أردنية، خاصة أنّ وزارة الصحة الأردنية سبق وأن أطلقت المبادرة الوطنية الأولى لحوسبة القطاع الصحي في الأردن عام 2009″.
يرى النائب الربيحات أن مشاركة البيانات الصحيّة مع شركةٍ لها ارتباطات مع الاحتلال قد يمثل تهديداً للأمن القوميّ الأردني، لا سيما في حال حدوث أي تصعيدٍ مستقبلي. أمّا شاربين، فتلفت إلى أنّ سيناريوهات استغلال هذه البيانات للإضرار بالأردنيين كثيرة، وبهذا المشروع، قد يكون الأردن قد سلّم واحدة من أكثر البيانات والقطاعات حساسية إلى جهات متورطة في ارتكاب إبادة. وحتى قبل الحرب الجارية في فلسطين ولبنان، فإنّ رفض مشروعٍ من هذا النوع يصبّ في مصلحة السيادة الوطنية على البيانات والتي يفترض عدم مشاركتها أو معالجتها خارج الحدود الاردنية مع أيّ جهة كانت.
حتى الآن، لم تتخذ الحكومة أيّ إجراءات لتجميد أو إلغاء تنفيذ هذا المشروع، في حين لم ينفّذ مجلس النواب تحركاتٍ تطالب بذلك، على الرغم من دعوة بعضهم/ن إلى إلغاء التعاقد عبر صفحاتهم على مواقع التواصل.
لم يحلّف النواب المنتخبون حديثاً اليمين الدستورية بعد، وقد أرجأ الملك عبد الله الثاني موعد افتتاح مجلس النواب الجديد إلى 18 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. وإلى حين صدور قرارٍ يقضي بإلغاء المشروع كلياً، لن تزول المخاوف من وقوع بيانات الأردنيين الحساسة في أيدٍ إسرائيلية ثبُت استغلالها للبيانات لارتكاب إباداتٍ وجرائم حرب ما زالت مستمرّة حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
الصورة الرئيسية من AFP.