يشهد مجال الصحة الجنسية والإنجابية تطوراتٍ هائلة بفضل التقدم التكنولوجيّ بشكلٍ عام، وتقنيات الذكاء الاصطناعيّ بشكلٍ خاص. أعطت هذه التقنيات أملاً للأزواج الذين يعانون العقم، ولامست الحياة الجنسية والإنجابية للأفراد فارضة سلسلة من الفرص والتحديات على حدٍ سواء.
يُعدّ الذكاء الاصطناعي اليوم نقطة تحوّل في الحياة البشريّة، لما وفّره من أدواتٍ تساهم في تعزيز سبل الرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الوصول إلى المعلومات، وإيجاد حلول لمشاكل كانت مستعصية يوماَ ما. فمن منّا كان يتوقّع يوماً أن يسمع مثلاً عن روبوتٍ يجري عمليات تلقيحٍ اصطناعيّ بدلاً من طبيب؟
تملأ هذا العالم تحدياتٌ ومحاذير قد يتغاضى عنها كثيرون/ات بسبب حالة الذهول التي يعيشونها عندما يتعلّق الأمر بالذكاء الاصطناعيّ وإنجازاته. لكن هناك قلقٌ عميق حيال الطرق التي استخدمت وما زالت تُستخدم لتحقيق كلّ هذه الإنجازات، أبرزها أساليب معالجة وحفظ البيانات الشخصية التي تتعذّى عليها أنظمة الذكاء الاصطناعيّ، بدءاً بتلك الموجودة على أجهزتنا، وصولاً إلى الأنظمة الموجودة في المنشآت الاستشفائيّة الضخمة.
الذكاء الاصطناعيّ والصحّة الإنجابية
يستطيع الذكاء الاصطناعيّ تحليل الصور الطبية والبيانات الصحية، بما في ذلك التاريخ الطبي ومستويات الهرمونات والمعلومات الجينيّة، مما يساعد في تشخيص الأمراض الجنسية والإنجابية في مراحلها المبكرة، وزيادة فرص الشفاء منها. كما تساهم تقنياته في تسريع عملية تطوير الأدوية والعلاجات الجديدة للأمراض المنقولة جنسياً وغيرها.
كما تعمل الخوارزميات الذكاء الاصطناعيّ تحليل مجموعات كبيرة من البيانات والمعلومات لتحديد الاتجاهات والأنماط والثغرات المتعلقة بالصحة الجنسية، وبالتالي بناء استراتيجيات فعّالة تساهم في ترشيد العمل الطبي وتقليل هامش الخطأ.
وبرز دورٌ هام لتطوير تطبيقاتٍ تفاعليّة تصل المستخدمين/ات بأطباء متخصصين، وتسمح لهم/ن بإنشاء روزنامات لمتابعة دوراتهم/ن الشهرية، وتقدّم محتوى مخصّص حول الصحة الجنسية والإنجابية. يمكن لهذه التطبيقات، عن طريق المعلومات التي تتلقاها من المستخدمين/ات، تحديد تفضيلاتهم/ن وتنبيههم/ن من أيّ مشاكل متوقّعة بناءً على تحليل البيانات الذي تجريه.
تتعدّد فوائد الذكاء الاصطناعيّ إلى عمليات التلقيح الاصطناعيّ، وتساهم برفع نسب النجاح، وتقديم خطط علاج مخصصة لكلّ مريض/ة، وخفض التكاليف وتوفير الوقت. وبعد أن كان يقيّم المختصّون الأجنة يدوياً، باتت الأنظمة الحديثة التي تعمل بالذكاء الاصطناعيّ قادرة على تحليل آلاف الأجنة وتحديد فرص نجاتها بوقتٍ وجهدٍ أقلّ.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه وعلى الرغم من سهولة استخدامها، وتوفّرها بلغاتٍ متعدّدة، إلا أنّ الوصول إلى العديد من خدماتها يتطلّب اشتراكاً شهرياً أو سنوياً، يعجز كثيرون/ات عن تحمّل كلفته، مما يحرمهم/ن من حقّهم/ن في الوصول إلى المعلومة، ويزيد من الشرخ الاجتماعيّ الآخذ في التوسّع داخل المجتمعات.
وقد ساهم تطور المشهد التكنولوجيّ السريع بتوسّع الفجوة الرقمية، والتي يتوقّع المراهنون على قدرات الذكاء الاصطناعيّ أن تستطيع سدّها. ولضمان التنفيذ الأخلاقي والفعال للذكاء الاصطناعيّ في مجال الصحة الجنسية والإنجابية، برزت ضرورة معالجة المخاوف المتعلّقة بالبيانات وخصوصيتها، والسعي وراء تحقيق المساواة في الوصول إلى المعلومات والخدمات، ومواصلة الجهود البحثية.
انتهاكٌ للخصوصية وخرقٌ للبيانات
في 22 آذار/مارس 2024، نقل تقريرٌ صادر عن كلّ من “منظمة الصحة العالمية”، و“برنامج الأمم المتحدة الخاص للإنجاب البشري” (Human Reproduction Programme) قول الدكتورة باسكال ألوتي، مديرة قسم الصحة الجنسية والإنجابية في المنظمة، إنّ “الذكاء الاصطناعي يعمل بالفعل على تحويل التكنولوجيا الخاصة بالصحة الجنسية والإنجابية. وإذا كنّا على دراية بالمخاطر المحتملة، وحذّرنا بشأن التنفيذ، ونظرنا إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة وليس حلاً، فسنحظى بفرصة عظيمة لجعل الخدمات والمعلومات الجنسيّة والإنجابيّة أكثر سهولة في الوصول إلى الجميع”.
يثير استخدام الذكاء الاصطناعيّ في مجال الصحة الجنسية والإنجابية مخاوف بشأن خصوصية البيانات وأمنها، إذ يمكن أن تُستغلّ هذه البيانات بشكل غير قانونيّ أو بأساليب لم يوافق عليها أًصحابها. وإذا أردنا تقييم الفرص والمخاطر المترتّبة على هذه التكنولوجيا، قد نجد نفسنا أمام معضلة تقع على عاتق الشركات والمؤسسات مسؤولية توضيحها وحلّها.
قد يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعيّ إلى مخاطر محتملة، ويرجع ذلك جزئياً إلى الطرق الغامضة التي قد تتمّ بها مشاركة البيانات ومعالجتها، وما يتخلّل ذلك من انتهاكاتٍ تؤدي إلى الكشف عن معلومات حساسة تعود إلى المستخدمين/ات.
في حديثٍ مع “سمكس”، يؤكّد الدكتور محمد الكيالي، رئيس “الإتحاد الدولي للتكنولوجيا والاتصالات” (IFGICT)، وهي منظمة غير ربحية تابعة تعمل على تطوير المقاييس والمعايير العالمية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومقرّها فلوريدا، أنّه “يمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي أن تتبع سلوك الأفراد عبر الإنترنت، مما يسمح بإنشاء ملفات تعريف مفصّلة للغاية حول اهتماماتهم وسلوكهم الجنسي. وقد تتسرب هذه البيانات الحساسة إلى أطرافٍ خارجيّة”. ويحذّر الكيالي من أنّه “يمكن استخدام هذه البيانات للابتزاز أو التهديد، ممّا يعرّض الأفراد للخطر. كما ويمكن استغلالها لعرض الإعلانات المستهدفة التي تروّج لمنتجات أو خدماتٍ جنسية، ممّا قد يؤثر على قرارات الأفراد. لذلك، لا بدّ من وضع قوانين صارمة لحماية البيانات الشخصية، وتحديد المسؤوليات الواجب اتباعها عند جمعها واستخدامها”.
من جهةٍ أخرى، نواجه افتقاراً للشفافية في ما يخصّ كيفية تطوير الأنظمة أو تطبيقها، وتحيزاً، ونقصاً في التمثيل العادل لجميع الفئات والأعراق والأنواع الجندريّة. يؤدّي هذا الواقع بطبيعة الحال إلى تعميق الفجوة الاجتماعية وتعزيز الصور النمطيّة.
يعدّ ذوو الاحتياجات الخاصة، على سبيل المثال، من بين الفئات التي تتأثر بهذه التحيّزات. وقد شدّد بالفعل المقرر الخاص المعني بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الأمم المتحدة، على ضرورة زيادة الوعي حول تأثير التحيزات الخوارزمية على المجتمعات المهمشة، وضرورة معالجة هذه القضايا وضمان عدم تسبب التقدم التكنولوجي في مزيد من التحيز لأفراد الفئة المعنية.
مسؤولية الحكومات وشركات التكنولوجيا
للتخفيف من المخاطر المحددة للذكاء الاصطناعيّ في الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية، تبرز الحاجة القوننة وإعادة النظر في قوانين حماية البيانات والخصوصية، ومعالجة الخروقات والثغرات، وضمان كيفية مشاركة المؤسسات المعنيّة للبيانات واستخدامها من قبل أطراف ثالثة.
بحسب تقرير منظمة الصحة العالميّة، ينبغي أن تكون بيانات التدريب متنوّعة وتمثيلية قدر الإمكان. كما يتوجّب توظيف مطورين متنوعين لبناء هذه الأنظمة مع الاهتمام باحتياجات الفئات المهمشة، وزيادة التركيز على معالجة المعلومات المضللة المستهدفة بين المستخدمين.
وفي هذا الخصوص، يرى الدكتور ألان لابريك، مدير قسم الصحة الرقمية والابتكار في منظمة الصحة العالمية، أنّه “من المهم أن يفهم المطوّرون والجهات التنظيمية أنّ المساواة لها أهمية قصوى عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي”. ويضيف: “يجب تصميم الأنظمة مع إشراك جميع أصحاب المصلحة، ولا ينبغي ترك أي شخص مهمشاً”.
في المحصّلة، أصبحت تأثيرات تقنيّات التكنولوجيا الذكيّة، سلبية كانت أم إيجابيّة، جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا. وفي حين يفتح الذكاء الاصطناعيّ آفاقاً جديدة في مجال الصحة الجنسيّة، إلا أنّه يتطلّب حذراً منا في التعامل، وتبنّي نهجٍ متوازن يجمع بين كسب الفوائد ومواجهة التحديات. متى ستتحمّل إذاً الحكومات والشركات مسؤوليتها في تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي، بما يضمن حماية بيانات الأفراد وفرصهم/ن المتساوية في الوصول إلى المعلومات؟
الصورة الرئيسية من AFP.