في تموز/يوليو الماضي، زارتني سيّدة تعاني من انقطاع الدورة الشهريّة منذ ستة أشهر. لم أفهم بدايةً سبب تأخّرها في زيارة طبيب/ة لمعالجة المشكلة، خاصّة وأنّ السيدة في مطلع الثلاثينات، وليس بالأمر الطبيعي أن تمرّ بعارض كهذا
أثناء المعاينة، كان السؤال الأول الذي طرحته على المريضة:”لماذا انتظرتِ ثلاثة أشهرٍ حتى تزوري الطبيب”؟ وكانت الإجابة أكثر من صادمة بالنسبة إليّ.
شرحت لي الأمر بشيءٍ من التردّد، وقالت:”عندما لاحظت تأخّر الدورة الشهرية أوّل مرة لم أعرف كيف أتصرّف، ولم أكن أملك المال الكافي لزيارة طبيبة نسائيّة. فتحت هاتفي ودخلت إلى مجموعة نسائيّة مغلقة على فيسبوك، وكتبت مشكلتي في منشور أملاً بتلقّي حلولٍ من السيدات في التعليقات، وهذا ما حدث بالفعل”.
“عندما رأيت كمّ التعليقات التي تلقّيتها، والتطمينات والحلول التي أعطينني إياها، شعرت بشيءٍ من الراحة. نصحتني سيّدة بشرب كوبٍ من القرفة كلّ ساعة خلال النهار إلى أن تُحلّ المشكلة، ونصحتني أخرى بإدخال قطعة زنجبيلٍ في المهبل، بالإضافة إلى سلسلة من الأدوية ووسائل منع الحمل الهرمونيّة التي كنّ يكتبن اسماءها في التعليقات. وقد جرّبت بعضاً منها، ولكنني الآن في الشهر السادس وأشعر أنّ الأمر يزداد سوءاً”، أضافت السيدة.
ليست مشكلة اجتهاد البعض في وصف الأدوية والعقاقير انطلاقاً من تجارب شخصيّة بالأمر الجديد، فهي للأسف شائعةٌ ولها نتائج كارثيّة شهدناها في المستشفيات وأقسام الطوارئ. إلّا أنّه ومنذ نحو 10 سنوات وأكثر، كانت المشكلة محصورة بالدوائر الضيّقة للأفراد، أي الأسرة والأصدقاء. لا يعني ذلك أنّ المشكلة كانت أقلّ خطراً، لكنّها كانت أقلّ انتشاراً، وكان يمكن احتواؤها نوعاً ما. ولكن اليوم، مع تحوّل وسائل التواصل إلى بُعدٍ حياتي قائمٍ بحدّ ذاته، أو عالم موازٍ يعكس الواقع الذي نعيشه، بات الخطر أكثر شدّة بالتوازي مع تقلّص قدرتنا على السيطرة عليه.
ولكن في هذه الحالة، من المُلام هنا؟ هل هي السيّدة؟ أم النساء اللواتي قدّمن لها تلك الحلول؟ أم الأطباء الذين يطلبون مبالغ طائلة مقابل الكشف الطبي؟ أم السلطات العاجزة عن تأمين خدماتٍ جيدة ومتساوية بين المناطق؟ أم شركات وسائل التواصل التي تسمح بانتشار المعلومات الكاذبة وتحارب المحتوى الطبّي الموثوق؟
بحسب ما أخبرتني به المريضة، التي اضطررت إلى تحويلها إلى زميلة مختصّة بالطبّ النسائيّ، تنتمي السيدات اللواتي تركن تلك التعليقات إلى فئة عمريّة يُلاحظ انتقادها المتكرّر للعادات التقليديّة والموروثات المنتشرة، وإن دلّ ذلك على شيء، فهو يدلّ على أنّ تأثير وسائل التواصل كبيرٌ جداً ويصعب كبحه، بغض النظر عن أعمار المستخدمين/ات وخلفياتهم/ن العلميّة والثقافية.
ولذلك، بعد التأكيد طبعاً على أنّ جزءاً من المسؤولية يقع على المستخدمين/ات، لا بدّ من تسليط الضوء على المسؤول عن تأمين هذه المساحة الحاضنة لهذه المشكلة.
مسؤوليّة من؟
بدايةً، لا تملك منصات التواصل، مثل “فيسبوك”، و”إنستغرام”، و”يوتيوب”، و”تيكتوك”، سياساتٍ خاصّة بالصحّة والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة، فتضيع الأحكام المتعلّقة بها بين مختلف السياسات، لا سيّما إرشادات المجتمع وسياسات الإعلانات. وغالباً ما تندرج هذه القوانين تحت مًسمى محتوى “للبالغين/ات” أو “جنسي”، ما يفتح الطريق أمام القوانين الرديئة والمسّرعة. كما تُقيّد المنشورات والإعلانات والحسابات وتُزال على أسس غير واضحة في معظم الأحيان، ترافقها تبريرات غير منطقية أو لا صلة لها أحياناً، علماً أن المحتوى لا يكون ضاراً أو إباحياً بأي شكلٍ من الأشكال.
عدا عن ذلك، لاحظت الأبحاث أنّ هذا النوع من المحتوى، عندما يكون منشوراً باللغة العربيّة، هو أكثر عرضةً للإزالة مقارنةً بالمحتوى الإنكليزي نفسه. ويدخلنا هذا في دوّامة أخرى متعلّقة بتحيّز تلك الشركات ضدّ اللغة العربية، وهو مبحثٌ آخر لسنا بصدد الحديث عنه الآن.
بعد تلك الحادثة بأسبوعين تماماً، استقبلتُ أخرى كانت تعاني ألماً حاداً في الفكّ، والمشكلة هنا كانت مزدوجة. كانت السيدة ملتزمة بأخذ مضادٍ للالتهاب ومسكنٍ للألم بناء على نصيحة أخذتها من مؤثّرٍ يدّعي الخبرة الطبيّة، ويفتح فيديوهات البثّ المباشر عبر منصّة “تيكتوك” ليجيب عن أسئلة المعلّقين/ات مقابل المال. ولكن الأمر لا ينتهي هنا. فبعد أن سمّت لي الأدوية التي كانت تأخذها، سألتها مباشرة عمّا إذا كانت تُرضع حالياً، ومع الأسف، أجابت بـ”نعم”.
تشكل بعض الأدوية خطراً كبيراً على الحوامل والمرضعات، لذلك يُمنع بتاتاً على أيّ سيدة تنطبق عليها إحدى الحالتين تناول أيّ دواءٍ من دون الرّجوع إلى طبيبتها أو طبيبها المعالج/ة. ففي حالة المرأة المرضعة، قد تؤثّر بعض الأدوية على الحليب الذي ترضعه الأم للطفل، مما يؤدّي إلى مشاكل ذات أثرٍ جدّي كتأخّر نموّ العظام والأسنان والمشاكل في التنفّس.
صادفت هاتين الحالتين خلال شهرٍ واحد، وآثرت الحديث عنهما بالتحديد لأنهما توضحان حجم الضرر والخطر اللذان يفرضهما التفلّت الذي تعيشه مساحات التواصل الإلكترونية، والمترافق مع قمعٍ لمحاولات نشر المحتوى الطبّي الصحيح من قبل المختصّين/ات والخبراء الموثوقين/ات. هذا ولم نأتِ بعد على ذكر المشاكل التي تتسبّب بها “خلطات تبييض المناطق الحسّاسة وتعطيرها” المتاحة عبر “يوتيوب”، والأعشاب التي يتعيّن على الرجال استخدامها لـ”زيادة المتعة أثناء العلاقة الجنسيّة”.
تندرج الصحة والحقوق الإنجابيّة تحت عنوان حقوق الإنسان، ويعدّ الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بها حقاً من حقوق الإنسان. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بمادّته 19، يؤكّد على أنّ “لكلّ شخصٍ حقّ التمتّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”. أي بمعنى آخر، تضمن شرعة حقوق الإنسان حقّ الأفراد في الوصول إلى المعلومة. فما بالك إذا كانت متعلّقة بحقّ من حقوقهم/ن الأساسيّة؟ ألا يعدّ حجب هذه المعلومات إذاً انتهاكاً لحقوق الإنسان؟
آثار على المدى الطويل
لا يقتصر تأثير هذا الواقع على الحاضر ولا على المستوى الفرديّ، أي أنّه لا يضرّ بالفرد الذي وقع ضحيّة المحتوى المضلّل فحسب، بل بالمجتمع بأكمله.
يؤدّي تقييد الوصول إلى المحتوى الموثوق، وأشدّد على مصلح “موثوق”، المتعلّق بالصحة الجنسية والإنجابية على الإنترنت إلى تنشئة جيلٍ أقلّ وعياً بقضايا الصحة الجنسية والإنجابية، وثقافة عامّة تقوم على معلوماتٍ خاطئة. ونكون هكذا في طور بناء أساسات مصدّعة لمجتمعٍ لن يُستغرب أن ترتفع فيه معدّلات الأمراض، خاصّة تلك المنقولة جنسياً، وحالات الحمل غير المرغوب فيه، والإجهاض غير الآمن، وغيرها من الآفات.
على صعيدٍ آخر، قد يؤدّي هذا الواقع إلى تعميق الفجوة الصحية بين الفئات الاجتماعية، كما رأينا أعلاه. سوف نلحظ مدى تأثّر الفئات المهمّشة ذات القدرة المحدودة على زيارة الطبيب/ة والوصول إلى المعلومات الموثوقة، بالمعلومات الكاذبة التي تجدها “مجاناً” عبر وسائل التواصل ومواقع الويب.
طالما تصرّ منصّات التواصل على اعتبار محتوى الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية على أنّه محتوى “منافٍ للأخلاق”، ومعاملته معاملة المحتوى البورنوغرافيّ، فلن تُحلّ المشكلة. كلّ هذا، يقابله تساهلٌ كبير مع المحتوى المضلّل الذي يقف وراء كوارث صحيّة. ولكن إن كانت هذه المنصّات قادرة على إحكام قبضتها وفرض إشرافٍ مبالغ فيه على مختلف أنواع المحتوى المنشور في مساحاتها، صحياً كان أم سياسياً أم ثقافياً، فما الذي يعيقها عن تنظيم محتوى الحقوق والصحة الجنسيّة والإنجابيّة؟
الصورة الرئيسية من أ ف ب.