يشغل مهدي جوغي، وهو شاب جزائري يعمل في مجال التسويق عبر الانترنت، همّ اقتراب امتحانات الثانوية العامة في الجزائر، التي تُجرى في الفترة الممتدة من 9 إلى 13 حزيران/يونيو 2024، والتي تقطع خلالها السلطات خدمات الإنترنت عن البلاد بهدف “منع الغش”.
“يُشلّ عملنا تماماً بسبب قطع الإنترنت خلال فترة الامتحانات، خاصة أننا نتواصل مع الزبائن عبر منصات التواصل الاجتماعي والإيميل. كما أنّ عملنا في مجال التجارة الإلكترونية يقوم على إدارة العديد من المتاجر الافتراضية التي تملكها عدّة علاماتٍ تجارية، ما يكبّدنا خسارةً كبيرة عندما ينقطع الإنترنت”، يقول جوغي لـ”سمكس”.
منذ ثماني سنوات، تعتمد السلطات الجزائرية هذه السياسة بهدف “منع الغش” خلال امتحانات الثانوية العامة في البلاد، حيث بدأت الحكومة في تقييد الوصول إلى شبكة الإنترنت بعد حادثة تسريب أسئلة الامتحانات في عام 2016، التي صُوّرت خلالها الأسئلة، ونشرت عبر منصات التواصل بعد دقائق من توزيعها على الطلاب.
هذه السنة، لم يصدر بيانٌ عن أيّ جهة رسميّة يوضح أوقات قطع الإنترنت على الأقل، لكي يحاول المواطنون/ات، ولو بصعوبة، التأقلم مع هذا الواقع.
تأثير قطع الإنترنت على الصحافيين/ات
يؤثّر الحجب على جميع فئات المجتمع الجزائري التي تستخدم الإنترنت للتواصل، والعمل، والتوثيق، والبحث، والترفيه حتى، إذ بات عنصراً مرتبطاً بالمهام الحياتيّة اليومية.
ويتأثر الصحافيون/ات تحديداً بشكلٍ كبير بقطع الإنترنت، الذي يعيق عملهم/ن القائم بشكلٍ أساسي على البحث، والكتابة، والتواصل مع المصادر، وإرسال المواد، وكلّها غير ممكنة التنفيذ مع غياب الإنترنت.
تعمل زهرة رحموني، وهي صحافية جزائريّة، مع عددٍ من المنصات الرقمية لكسب رزقها. في حديثٍ مع “سمكس”، تقول رحموني إنّ “فترة قطع الإنترنت خلال الامتحانات هي الأصعب خلال السنة. في السابق، كنّا نستطيع الولوج عبر الشبكة الافتراضية الخاصة (VPN)، إلا أنَ هذا لم يعد ممكناً بعد الآن”؛ ففي تشرين الأول/أكتوبر 2019، صدر قرار بمنع استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية في الجزائر إلا بعد المرور بنظام تنظيم وتحقق وضعته “سلطة ضبط البريد والاتصالات الإلكترونية”.
اضطرت رحموني وكثرٌ من زملائها إلى تغيير نمط العمل الذي يتّبعونه وساعاته، بما يتناسب مع أوقات قطع الإنترنت التي تفرضها الدولة خلال أيام الامتحانات. وتضيف لـ”سمكس”: “أنجز في الصباح الباكر المهام التي لا تتطلّب توفّر الإنترنت والنشر على مواقع التواصل والويب، أمّا في الليل، فأحاول إنهاء أكبر قدرٍ ممكن من عملي الصحافي، والذي أحتاج إلى الإنترنت لإتمامه، إذ أنّ كماً كبيراً من المعلومات في الجزائر موجودٌ على مواقع التواصل حصراً مثل فيسبوك وإكس”.
ولا ترى الصحافية الجزائرية في قرار قطع الإنترنت إلا “امتداداً لما يحدث طيلة السنة، إذ يتعرّض الكثير من المواقع الإخبارية إلى الحظر بسبب عدم انصياع خطّها التحريري للسلطة مثل “إذاعة إم” (Radio M)، وموقع “كل شيء عن الجزائر” (TSA)، بالإضافة إلى “مغرب ايمرجون” (Maghreb Emergent) التي تعدّ مصدراَ مهماَ وشائعاً للأخبار والمعلومات”.
صنّاع المحتوى بلا إنترنت
وصل عدد مستخدمي/ات الإنترنت في الجزائر إلى 33.49 مليون مستخدم/ة مع بداية شهر كانون الثاني/يناير 2024، بحسب دراسة نشرها “داتا ريبورتال” (DataReportal)، وهو موقع يُعنى بتقديم تقارير وبيانات شاملة حول استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والاتجاهات الرقمية في جميع أنحاء العالم. وفقاً للدراسة، يتربّع “فيسبوك” على عرش الشبكات بـ 24.85 مليون مستخدم/ة، يليه “يوتيوب” مع 22.80 مليون مستخدم/ة، ثم “إنستغرام” مع 11.40 مليون مستخدم/ة.
يترك الحجب تأثيراً كبيراً على صنّاع المحتوى، ومن بينهم منصف آيت قاسي، الناشط على منصة “إنستغرام”. في مقابلة مع “سمكس”، يقول قاسي: “إنّه أسبوع لا يُطاق. قطع الإنترنت خلال امتحانات البكالوريا يؤثر سلباً على صنّاع المحتوى بشكلٍ خاص وعلى كلّ الجزائريين بوجهٍ عام. ينخفض عدد المشاهدات والمتابعين لصفحتي الشخصية في كلّ مرة يُحجب فيها الإنترنت بسبب عجزي عن النشر”.
أما رونق ناصري، وهي شابة جزائرية تعمل كمستشارة في مجال الاتصالات، فتقول لـ”سمكس” إنّ فترة قطع الإنترنت “كارثية” بالنسبة إليها، وتكمل: “يجبرني هذا الواقع على إعادة تنظيم جدول أعمالي بالكامل وفقاً للتدفقات غير المستقرة للإنترنت وإبلاغ عملائي بالجدول الجديد، فضلاً عن تحويل مقابلاتي واجتماعاتي عبر الإنترنت إلى مقابلات هاتفية أقلّ فعالية”.
“تستمرّ هذه الانقطاعات عملياً طوال اليوم، ولا سيما خلال ساعات العمل العادية. وحتى بعد الاتصال مجدداً بالشبكة، يكون قد فات الأوان بالنسبة إليّ لأتمكّن من التخطيط والتنظيم للمشاريع التي غالباً ما ترتبط بمواعيد تسليمٍ صارمة وضيّقة”، تضيف ناصري.
سياسات تضرّ بمصالح المواطنين/ات
تثير سياسة حجب الإنترنت التي تُطبّق سنوياً سخط الكثير من الجزائريين/ات، إذ يرون أنّ هذا القطع يفقد البلاد مصداقيتها أمام المجتمع الدولي، ويضعهم في حرجٍ دائم، تشير رحموني لـ”سمكس”.
وقد أثّرت هذه النظرة على عمل رحموني، التي عملت مع جهات عالميّة لم تتفهّم سبب انقطاع الإنترنت الذي أثّر بدوره على التزام الصحافية بمواعيد التسليم والعمل المتفق عليها. وتقول الصحافية الجزائريّة إنّها وجدت نفسها في مواقف محرجة للغاية ضرّت بسمعتها المهنيّة، خاصة عند وجوب حضور اجتماعات أو ورود أخبارٍ عاجلة: “لم تنفع هذه السياسة غير الموفقة أحداً، لا بل آذت الجميع، ولم تمنع الغش. عجز الدولة عن إيجاد حلول بديلة يدفعها إلى اتخاذ قراراتٍ تعسفيّة”.
“هذه السياسة تستهر بمصالح الجزائريين ولا تحترمهم، ويجب استبدالها في أقرب وقتٍ ممكن بمقاربة مدروسة لا تضرّ بالاقتصاد واستقلالية المهنيين في الجزائر”ـ تكمل ناصري لـ”سمكس”.
أضرار وانتقادات
تتعرض الجزائر سنوياً لسيلٍ من الانتقادات بسبب سياسة حجب الإنترنت التي تعتمدها، من قبل المواطنين/ات، ومنظماتٍ إقليميّة وعالمية تُعنى بتغطية قضايا الحقوق الرقمية على حدٍّ سواء، منها كلّ من “سمكس” و“أكسس ناو”.
في هذا السياق، يقول مسؤول حملات المناصرة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة “أكسس ناو”، قسّام المنجة لـ”سمكس”: “عندما تحجب السلطات الجزائريّة الإنترنت، فإنّها تفشل في احترام حقوق الإنسان”. وعن أضرار حجب الإنترنت، يضيف: “تتسبّب عمليات حجب الإنترنت بأضرارٍ غير قابلة للقياس. وقد أجريت بالفعل أبحاثٌ قدّرت مدى نسبة الخسائر، التي وصلت عام 2016 إلى نحو 20 مليون دولار في الجزائر وحدها بحسب أحد التقاريرٍ، و388 مليون دولار أميركي من الضرر على الاقتصاد الوطني عام 2020″، يضيف المنجة.
وعلى الرغم من التحديات التي تعيق الخروج بأرقامٍ دقيقة توثّق حجم الضرر، إلا أنّها موجودة، ولا شكّ في تعاظم الأثر السلبيّ الذي يتركه قطع الإنترنت على الاقتصادي الوطني، والذي تدفع ثمنه الشركات الناشئة والمواطنون/ات، بحسب المنجة.
في الواقع، لن يضع قطع الإنترنت حداً للغش. عام 2021، اتّهمت السلطات الجزائرية 77 طالباً بالغش على الرغم من القطع، مما يؤكّد أنّ تسريبات الامتحانات قد تحدث في أيّ وقت وتحت أيّ ظرف.
على الرغم من مطالبة منظمات المجتمع المدني إلى جانب نشطاء وأصوات كثيرة من الجزائر بإيقاف هذه الممارسة، إلا أنها تستمر سنوياً منذ ثمانية أعوام، متسبّبة بخسائر كبيرة لا يمكن إحصاؤها، وتضرّ بمختلف فئات المجتمع الجزائري.
وفيما أثبتت الوقائع عدم فعالية إجراء قطع الإنترنت، لا بل الضرر الذي يحدثه، يتعيّن على السلطات الجزائرية كما غيرها من حكومات المنطقة البحث عن بدائل أكثر فعالية وأقل ضرراً بنشاط وحقوق المواطنين/ات، مثل تحسين إجراءات الرقابة داخل قاعات الامتحانات، والحدّ من عدد الأفراد القادرين على الوصول إلى أسئلة الامتحانات قبل إجرائها.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.