أسئلة كثيرة تحوم حول الحماسة الّتي أعرب عنها وزيرُ الاتصالات اللبناني جوني القرم، ومن بعده رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لإتمام صفقة مع شركة “سبيس أكس” (SpaceX) الأميركية لتأمين خدمة الإنترنت عبر الاتصال الفضائي “ستارلينك” (Starlink) في لبنان كخطّة طوارىء (Plan B) في حال اندلاع أيّ حرب. أوّل هذه الشكوك تسأل عمّا إذا كان الإنترنت سيتوفّر للشعب اللبناني، أم لبعض الفئات المحظية في البلاد فقط، وليس آخرها سيادة لبنان على الإنترنت وبيانات مواطنيه.
كشفَ مدير عام وزارة الاتصالات باسل الأيوبي عبر وسائل إعلام عدّة أنّ جهة مانحة قدّمت 150 جهاز “ستارلينك” كهبةٍ لتُوزّع على الهيئات الرئاسية والحكومية والإغاثية. وشركة “ستارلينك” التي يملكها الملياردير الأميركي إيلون ماسك، تعمل على وصول المستخدمين/ات إلى الإنترنت بواسطة الأقمار الاصطناعية الخاصّة بالشركة، عبر لواقط صغيرة الحجم إنّما مرتفعة السعر وكلفة التشغيل. بالإضافة إلى ذلك، يتحكّم ماسك في تشغيل هذه الخدمة وإيقافها بناءً على سياسات يضعها بنفسه، كأنْ يطلب الإذن الأمني من الحكومتين الأميركية والإسرائيلية حتّى للمنظّمات الإنسانية، كما سبق أن فعل بعد الحملة الكبيرة لمطالبته بتأمين الإنترنت في غزة. فهل الحال سيكون مختلفاً في لبنان؟
النواب يسألون وزيرَ الاتصالات
اتّهم عدد من النواب هذه الخطّة بأنّها “مشبوهة من حيث الجهة المجهزة والأمد الزمني لها”، في سؤال وجّهوه الأسبوع الماضي إلى “حكومة تصريف الأعمال ووزير الاتصالات. وبالإضافة إلى غياب المنفعة العامة من هذه الصفقة، أشار النوّاب إلى أنّ “الاستعانة بشركة إنترنت فضائي مثل ’ستارلينك‘ هو بمثابة إدخال منافس لقطاع الاتصالات اللبناني، وهو ما يجب أن يمر عبر القوانين المعمول بها في الدولة اللبنانية، لأنّ الإجراءات التي يقوم بها وزير الاتصالات حالياً مخالفة لقانون الاتصالات اللبناني رقم 431”.
يعترض النائب ياسين ياسين الذي كان من بين النواب الموجّهين للسؤال (نجاة صليبا، وبولا يعقوبيان، وملحم خلف، وإبراهيم منيمنة، وفراس حمدان) على آلية السرعة في تقديم “الخطّة ب”، واصفاً إياها بأنّها “يجب أن تكون آخر الحلول البديلة لتوفير الاتصالات والإنترنت في لبنان”. يشرح ياسين لـ”سمكس” أنّ ثمّة “تخوّفاً واضحاً من تمرير صفقة لتزويد الإنترنت الفضائي في لبنان وحصره بيد جهة معيّنة من خارج الآلية القانونية، لا سيما القانون 431 الذي يعطي حصرية الإنترنت للدولة اللبنانية”.
واقترح النوّاب في سؤالهم أساسيات لخطّة الطوارئ، إذ لفتوا إلى أنّ “خطة الطوارئ يجب أن تأخذ بعين الاعتبار جميع الأنظمة والتقنيات المتاحة السلكية واللاسلكية الأرضية والفضائية”، مشيرين كذلك إلى ضرورة استخدام أيّ وسيلة لتأمين الاتصالات الدولية والاتصالات بين الجهات الرسمية وتلك المعنية بالطوارئ حتى الفضائية منها وصولاً إلى أجهزة الهواة وغيرها من الشبكات السلكية واللاسلكية، وليس حصرها فقط بالإنترنت الفضائي.
قُدّمَت خطّة الطوارئ شفوياً إلى اللجان النيابية، ومن المفترض أن تُناقشَ الأسبوع المقبل في جلسة مجلس الوزراء، فيما لم يتسنَّ للنواب الاطلاع على المضمون، وهذا ما يصفه النائب ياسين “بالدكتاتورية التي يمارسها وزير الاتصالات في اتخاذ القرار، وتحريك دُمى في موضع ستارلينك”.
ينتقد وزير الاتصالات، جوني القرم، كلَّ ردود الأفعال المحاطة بخطة طوارىء، نافياً في حديث لـ”سمكس”، “تقديم أيّة خدمة مجانية في المستقبل لستارلينك من أجل تمرير أيّة حصرية لشركة إنترنت في المستقبل، من دون أيّة صفة قانونية أو ترخيص تحت حجة الطوارىء”، واضعاً ملف “ستارلينك” بإطاره التجريبي “الذي لم يكلّفِ الدولة اللبنانية مبالغَ مالية”.
يشرح خبير اتصالات فضّل عدم الكشف عن اسمه في حديث مع “سمكس” أنّ “الفترة التجريبية التي وضعها وزير الاتصالات مع “ستارلينك” لا يلزمها موافقة مجلس الوزراء”، ولكنّ التجارب اللبنانية تشير إلى أنّ الاستثنائي، ولو لمرة واحدة، يصبح واقعاً. وهذا ما “يثير تخوّفاً من ترخيص ستارلينك بحجّة الطوارئ بطريقة غير قانونية، بحيث تُحرَم الدولة من إيراداتها في وقتٍ تقدّم فيه خدمة مجانية لستارلينك وتحرم الخزينة مئات ملايين الدولارات”، وفق خبير الاتصالات.
بالإضافة إلى ذلك، يسأل الخبير عن فعالية “الخطة ب” في حال قطع الاتصالات والإنترنت عن عامة الناس في حال استهدفت إسرائيل الكوابل البحرية. “كيف ستؤمّن أجهزة ستارلينك الاتصالات والإنترنت للبنانيين في مثل هذه الحالة، وهل ستنتظر الحكومة اللبنانية إذناً من الحكومتين الأميركية والإسرائيلية لتزويد مواطنيها بالإنترنت والاتصالات وحرمان آخرين منها؟”.
بالنسبة إلى “الخطة ب” ككلّ، يعتبر النائب ياسين أنّ وزير الاتصالات يتحجّج بخطة طوارىء لعدم أخذ إذن مجلس الوزراء، “لكنّنا كنوّاب نرفض الشواذ الذي يقدّمه وزير الاتصالات بقضية ستارلينك ليصبح قاعدة من دون قوننة، والأمثلة كثيرة في لبنان”. أمّا في حال لم يحصلوا على أجوبة من مجلس الوزراء ووزير الاتّصالات، يؤكّد ياسين أنّ النواب سيلجأون إلى السلطات القضائية كالنيابة العامة ومجلس شورى الدولة لبتّ الموضوع.
حلول بديلة ممكنة مثل VSAT: لماذا التغاضي عنها؟
تبدأ كلفة الاشتراك الشهري بـ”ستارلينك” للاستخدام المنزلي للمشترك الواحد من 72 يورو في حين يبدأ سعر الجهاز اللاقط من 450 يورو، بحسب الموقع الرسمي للشركة. وبالتالي،”هذا رقم خيالي على المستخدمين العاديين في لبنان ولا يمكن سوى للطبقة الميسورة أو الشركات الخاصّة أن تقدر على دفعه”، وفق الخبير في قطاع الإتصالات.
على سبيل المثال، من الحلول المتوافرة أصلاً في لبنان هي تقنية “المحطات الطرفية ذات الفتحات الصغيرة جداً” (VSAT)، وهي خدمة مرخّصة في لبنان منذ العام 2007، وتعمل عبر أقمار إقليمية مثل “عرب سات”.
يردُّ القرم بأنّه عقد اجتماعات مع شركة “عرب سات”، لافتاً إلى أنّ “القدرات التشغيلية لهذه الخدمة محصورة، ولا يمكن توزيعها على أكبر عدد من المشتركين”.
يثير جواب الوزير هنا تساؤلاً آخر لدى خبير الاتّصالات، فعلى عكس خدمات “ستارلينك”، يمكن الاستفادة من خدمات (VSAT) عن طريق تمديد “ستالايت على أكثر من سنترال واستخدام شبكة البنى التحتية للاتصالات في لبنان لإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من المشتركين، وهو عمل غير فردي باستطاعة الدولة المباشرة به”، بحسب الخبير. “هذه الخطوة قد تمكّن الدولة اللبنانية من التقاط الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في حال تضرّر الكابلات البحرية، وذلك من دون الحاجة إلى إذن خارجي أو حصر خدمة الإنترنت الفضائي بمن يستطيع الدفع فقط”.
شركة “تاتش” من جهتها ردّت على سؤال “سمكس” حول تقنية VSAT، مشيرةً إلى أنّ ” هذه الخدمة لا تتطلّب وقتاً فور تأمين الأنظمة اللازمة، وأنّ هناك كوادر تقنية محلية يمكنها تشغيل هذه الخدمة رغم كلفتها التشغيلية”. وأضاف ممثّل “تاتش” أنّهم علموا أنّ “أوجيرو تعمل على تأمين خدمة VSAT بهدف تأمين الاتصال لبعض المراكز الأساسية في الدولة”.
ويعلٌّ خبير الاتّصالات على هذا التباين بين الوزير وشركات الاتّصالات بأنّه يدلّ على ضرورة التنسيق بين الجميع للعمل على خطّة واحدة تضمن تأمين الاتصال والتواصل لعامة الشعب والمراكز الرئيسية في الدولة ومنظمات الإغاثة، وليس الاكتفاء بالإنترنت أو التركيز عليه ونسف جميع الحلول الأخرى.
التجوال المحلي بين الشبكات: لتأمين الاتصال الصوتي على الأقلّ
من بين الحلول التي تتجاهلها وزارة الاتصالات تفعيل تقنية التجوال المحلّي بين الشبكات (National Roaming)، أي تمكين مستخدمي الشبكتين الخلويتين “تاتش” و”ألفا” من الاستفادة من إرسال محطاتهما. على سبيل المثال، “في حال تعطّل إرسال شبكة “ألفا”، أو جرى استهداف إسرائيلي لأيّة محطّة، يمكن تفعيل الخاصية لتمكّن مستخدميها من الاستعانة بخدمات “تاتش”، بحسب الخبير.
في المقابل، يتحجّج الوزير القرم باستحالة تفعيل هذه الخاصية “لكونها لا تعمل في أماكن الاكتظاظ وتعرّض الشبكات إلى ضعف في حال زيادة الضغط على الشبكات، وهي فقط يجب أن تكون محصورة في المناطق النائية”.
أمّا الحديث عن تركيب محطات الـمحطّات المتنقلة (Mobile Switches)، يقول القرم إنّ هذه “المحطات يلزمها توفر عامل الأمان لتأمين وضعها في أماكن تحتاج تقوية الإرسال والإنترنت، وهي مخصّصة للمهرجانات والاحتفالات السياسية الحاشدة”، مشيراً إلى أنّ هذه المحطات في حال استهدافها أو تعطّلها قد يصعب إجراء إصلاحات من قِبل الموظفين.
يشرح مصدر في إحدى شركتي الخليوي لـ”سمكس” أنّ تفعيل التجوال المحلي بين الشبكات (National Roaming) يحتاج إلى تأمين سعة أكبر في كابلات الداتا. على سبيل المثال، “تتوفّر الشبكة لمليوني مشترك، فهل لديها قدرة مثلاً على تحمل ازدياد مستخدميها أقلّه 100 ألف مستخدم من شبكة أخرى؟ لن تستطيع الشبكة استيعاب الضغط المحتمل، وستكون الخدمة معرّضة للتوقّف أو البطء في الإنترنت بالدرجة الأولى”.
كما يُشير المصدر إلى أنّ “شبكتي القطاع ليس محدثة من العام 2019 بسبب غياب الاعتمادات المالية، فالمعدّات بحاجة إلى مواكبة التطور بشكل دوري، لا سيما أنّ العديد من المشاريع توقّفت في الأزمة الاقتصادية، وكلّ الحلول التي صدرت في الآونة الأخيرة هي”حلول ترقيعيّة على الطريقة اللبنانية”.
ومع ذلك، يعود خبير الاتّصالات ليؤكّد أنّ الأولوية الآن في تأمين الاتصالات الصوتية بالدرجة الأولى، “وهو أكثر ما تحتاجه الهيئات الإغاثية كالصليب الأحمر والدفاع المدني، وغيرها، إضافة إلى حاجة المواطنين للاتصالات الصوتية للخطوط الثابتة والمتحركة”، فلماذا التركيز على الإنترنت فقط والتذرّع به للوقف بوجه مثل هذه الحلول؟ يسأل الخبير.
تركيز على خطّة الطوارئ وإهمال واقع الاتصالات
خلال الأسبوعين الماضيين، شهدت منطقة جنوب لبنان توقفاً لخدمات الاتصال والإنترنت، حتى البعيدة نسبياً عن الحدود مثل منطقة صور، بسبب نفاذ مادة المازوت للمحطة وفق ما أعلنت شركة “ألفا”، مشيرةً إلى أنّ “فرق الصيانة لم تتمكّن من الوصول إلى المحطة إلا بعد تأمين إذن أمنيّ من الجيش اللبناني”. أكّدت كذلك “تاتش” في جوابها على أسئلة “سمكس” على التعاون مع الجيش اللبناني، ولكنّها كانت أوضح فيما يتعلّق “بصيانة شبكات تاتش على الحدود وملء خزانات المولّدات بالمازوت”.
في هذا السياق، لم يُجِبِ وزير الاتصالات عن السؤال حول أهمية تفعيل خطة الطوارئ في المناطق النائية والجنوبية كي لا تعزل عن العالم والتواصل والإنترنت، مكتفياً بالقول إنّ “الخطّة تحتاج إلى استثمارات بملايين الدولارات غبر المتوفرة في الوقت الحالي”.
يطرح هذا تساؤلاتٍ حول سبب التركيز على “ستارلينك” في وقت لم تتجهّز فيه وزارة الاتصالات وشركتا الخليوي وهيئة “أوجيرو” -وهي أعمدة الاتصالات المملوكة من قبل الدولة في لبنان- لأصغر الأمور اللوجستية مثل تأمين المازوت اللازم لتشغيل مولّدات الكهرباء، لا سيما وأنّ الوزير نفسه كشف لـ”سمكس” أنّ خطة الطوارئ من الوزارة و”أوجيرو” و”ألفا” و”تاتش” تلحظ تأمين المحروقات واستمرارية عمل محطّات الإرسال.
جميع شركات الاتّصالات في لبنان مملوكة للدولة، من “أوجيرو” للهاتف الثابت والإنترنت، إلى “ألفا” و”تاتش” للاتصالات الخليوية، “وفي حال الطوارئ ينبغي لكلّ الاتصالات أن نكون في غرفة عمليات واحدة”، وفقاً لخبير الاتصالات، الذي يختم متسائلاً عن السبب الذي يمنع هذه الشركات وجميع أجهزة الدولة من العمل سوياً على تأمين الاتّصالات والتواصل في أوقات الحرب والطوارئ!