لعلّ أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا عندما نسمع مصطلح “الذكاء الاصطناعي” هو جيشٌ من الروبوتات التي تتجهّز لغزو العالم والقضاء على البشريّة. ولكن ما نجهله حقاً، هو أن الذكاء الاصطناعي لا يختلف عن هاتف يمكن أن يُستخدم لتقديم الدعم لمن هم بحاجة إليه، أو قرصنة حسابات الناس على الإنترنت. بمعنى آخر، ليس الذكاء الاصطناعي سوى أداة تنصاع إلى مستخدميها، وهي بالمناسبة، متغلغلة بأبسط الأنظمة التي نعتمد عليها في حياتنا اليوميّة.
تندرج تحت عنوان الذكاء الاصطناعي مروحةٌ من التقنيات المختلفة، لكل منها نقاط قوتها وضعفها، وتعمل بقدرة الآلات والحواسيب الرقميّة على القيام بمهام تُحاكي القدرات البشرية إلى حد ما، كالتفكير أو التعلُم من التجارب السابقة، وغيرها من العمليات التي تتطلّب تطبيق درجة معينة من “الذكاء”. ويهدف هذا إلى تفسير البيانات وبناء علاقات ترابطيّة سببيّة ينتج عنها قرار ضمن عملية تكرارية، ليقوم الذكاء الاصطناعي بأكثر من مجرد التقاط وتخزين البيانات؛ فالكاميرا على سبيل المثال تستطيع التقاط صورة، لكنها لا تستطيع تحديد هوية من فيها لأنها لا تمتلك تقنيات الذكاء الاصطناعي.
يمكن فهم الوضع الحالي للذكاء الاصطناعي من خلال ما يُعرف بـ”مفارقة مورافيك” الذي يعتبر أنّ “ما هو سهل على الآلات صعب على الناس، والعكس صحيح”. بمعنى آخر، من السهل تدريب أجهزة الكمبيوتر على القيام بأشياء يصعب على البشر القيام بها مثل الرياضيات والمنطق، ولكن يصعب أيضاً تدريبهم على القيام بأشياء يجدها البشر سهلة مثل المشي والإحساس وتحليل المشاعر العاطفية.
فروع الذكاء الاصطناعي
انطلاقاً مما سبق، يمكننا التمييز بين نوعين من الذكاء الاصطناعي:
- الذكاء الاصطناعي البسيط/الضيق: وهو الأكثر توظيفاً في حياتنا اليومية، وينصبّ تدريبه واستخدامه على أداء مهام محددة تحت إشراف البشر. وتتفاوت نسبة الإشراف والتحكم أو المطلوبة بحسب مدى تطوّر التقنيّة. ولعلّ تقنيات “سيري” من آبل” (Apple’s Siri) و”آليكسا” من “أمازون” (Amazon’s Alexa) و”آي بي أم” (IBM Watson) و برامج التعرف على الوجه وأدوات ترجمة اللغات وروبوتات الدردشة بأنواعها هي خير مثال على هذا النوع.
- الذكاء الاصطناعي المعقد (AGI) (العام): وهو لا يتعدّى وصفاً نظرياً “حالماً” للذكاء الاصطناعي حتى اللحظة، تتمتع فيه الآلة والتقنية بذكاء مساوٍ لذكاء البشر، ووعي مدرك لذاتها، وقدرة على حلّ المشكلات والتعلم والتخطيط للمستقبل. وقد تتفوق تقينات هذا النوع على الدماغ البشري ذكاءً، ولكن مجدداً، لا يزال كل هذا نظرياً لعدم وجود أمثلة عملية مستخدمة حتى اللحظة.
يلعب عامل “المعرفة” دورا جوهرياً في طبيعة قوة واتساق تقنيات الذكاء الاصطناعي الذي يستطيع التفاعل وتكرار العمليات ضمن حدود المعرفة المتاحة لخوارزمياته. ولكن كما هو الحال مع البشر، تحتاج هذه التقنيات إلى معلومات وبيانات خارجية ذات صلة لتشكيل وجهة نظر وتنفيذ الأوامر على إثرها، مما يعني أن كل أنواع الذكاء الاصطناعي تعتمد على المعرفة بشكل أساسي، حيث يتم تدريب تقنية تعلم الآلة على البيانات التمثيلية لبناء حلول معينة، فتتحسن جودة النتائج مع مرور الوقت عبر تكرار التجارب وتلقّي المزيد من البيانات، مما يجعل الحلول والنتائج حساسة لنوع البيانات وتوافرها وجودتها والتغيرات التي تتطرأ عليها في العالم الحقيقي.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي
سواء أدركنا ذلك أم لا، يحيط الذكاء الاصطناعي بمختلف جوانب حياتنا اليوميّة. في كل مرة نتصفّح فيها آخر الأخبار عبر منصة فيسبوك، أو نجري بحثًا عبر شبكة الويب، أو نحصل على توصية بمنتج من أمازون، أو نحجز رحلة عبر الإنترنت، اعلموا/ن أنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي هي المسؤولة عن إظهار ما نراه أمامنا على الشاشة.
كما تدخل أنظمة الذكاء الاصطناعي في المجالات التي قد لا نكون على تماس مباشر مع طرق تطبيقها، ولكنها أساسيّة ولا يمكننا الاستغناء عنها، نذكر منها:
- الرعاية الصحية: يُستخدم الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية لتحسين دقة وسرعة التشخيص. على سبيل المثال، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل الصور الطبية لاكتشاف العلامات المبكرة لأمراض مثل السرطان، ومساعدة الأطباء على تطوير خطط علاج مخصصة بناءً على التاريخ الطبي للمريض وبياناته الخاصة.
- المعاملات المالية: يستخدم الذكاء الاصطناعي لاكتشاف الاحتيال والتنبؤ باتجاهات السوق وإدارة المخاطر. على سبيل المثال، تستخدم البنوك أنظمة الذكاء الاصطناعي للكشف عن المعاملات المشبوهة وتحليل كميات كبيرة من البيانات لتحديد الأنماط التي قد تشير إلى عمليات الاحتيال في سوق الأسهم، والحصول على استشارات وتحليل تاريخ وأداء السهم وتقييم العوامل التي تؤثر فيه مما جعل الأسواق تشهد إقبالا من المستثمرين الأقل ثراءً في جميع أنحاء العالم.
- الصناعة: تُوظّف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الصناعة لتحسين الكفاءة والإنتاجية. على سبيل المثال، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات من المستشعرات الموجودة على معدات وآلالات المصانع، للتنبؤ بوقت الحاجة إلى الصيانة وتقليل وقت التوقف عن العمل، مما يعكس زيادةً في الإنتاجية.
- التسويق والإعلان: يُستخدم الذكاء الاصطناعي في البيع بالتجزئة المباشرة لإضفاء الطابع الشخصي على تجارب التسوق عند العملاء. على سبيل المثال، يستخدم تجار التجزئة عبر الإنترنت خوارزميات التوصية لاقتراح المنتجات التي قد يهتم بها العملاء بناءً على سجل التصفح والشراء.
- النقل والمواصلات: يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً هاماً في تحسين السلامة والكفاءة في مجال النقل، إذ تستخدم السيارات ذاتية القيادة الذكاء الاصطناعي لاكتشاف التغيرات في ظروف الطريق والاستجابة لها واتخاذ قرارات حول كيفية التنقل وحركة المرور.
هذه بعض الأمثلة القليلة على كيفية اندماج الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، و مع استمرار تطور التكنولوجيا الحالي، يمكننا أن نتوقع رؤية المزيد من تطبيقات هذه التقنيات في المستقبل القريب. من دون شك، يلعب الذكاء الاصطناعي دورا أساسياً مغيراً لقواعد اللعبة في مواجهة التحديات المجتمعية الملحّة، ويساهم في خلق مستقبلٍ أفضل وأكثر سهولة إلى حدٍّ ما. ولعلّ معطيات منطقة الشرق الأوسط تشكل فرصة ذهبية يمكن من خلالها لمس التغيرات الجذرية التي قد يُحدثها، حيث يمكن أن يؤدي التبني المبكر لأدوات الذكاء الاصطناعي في مجالات الحياة المجتمعية مثل الزراعة والصحة والتعليم، إلى إدارة الموارد المتاحة بشكل أفضل ورفع مستوى القوى العاملة وتحقيق فوائد بيئية واقتصادية واجتماعية .
الذكاء الاصطناعي لتحسين الإنتاجية
في سياق متّصل، للتحولات الناجمة عن توظيف الذكاء الاصطناعي في مجتمعاتنا آثار اقتصادية وقانونية وسياسية وتنظيمية بعيدة المدى، بعضها إيجابي محمود وآخر سلبي.
أما عن الآثار الإيجابية التي يُطمح لتحقيقها من خلال ذكاء اصطناعي لصالح الخير وخدمة البشرية، وخلافاً لما يعتقده كثيرون/ات، سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تطوّر نوعي بطبيعة القوى العاملة التي يحتاجها سوق العمل. ربما تخلق الأخبار الشائعة حول حتمية سيطرة الآلات على الوظائف خوفاً لدى العمّال، ولكن آخر الدراسات تيدو مطمئنة في هذا الصدد. في تقرير حول مستقبل الوظائف، قدّر المنتدى الاقتصادي العالمي أن الذكاء الاصطناعي سيحلّ محل حوالي 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، ورغم ذلك، خَلُص التقرير إلى أنه سيتم إنشاء حوالي 97 مليون وظيفة جديدة في نفس الإطار الزمني بسبب توافر تقنيات الذكاء الاصطناعي.
يكمن التحدي الحقيقي إذاَ في أن يستطيع البشر توظيف شغفهم في وظائف جديدة تتطلّب تطوير مهاراتهم وقدراتهم، لتجمع بين المقومات التقنية والناعمة، والتي تعجز الآلات عن تعلّمها أو اكتسابها.
كما أن تولي تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي القيام بالمهام الروتينية أو الخطيرة يحسّن بشكل كبير من كفاءة أماكن العمل ويزيد من المساحات التي يبدع بها البشر فيها، محرراً القوى العاملة البشرية للقيام بمهام تنطوي على الإبداع والذكاء العاطفي.
وعلى صعيد الرعاية الصحية، سيكون للذكاء الاصطناعي أثراً إيجابياً وملحوظاً بفضل تطوير قدرات المراقبة والتشخيص، من خلال تحسين عمليات إدارة الرعاية الصحية والمؤسسات الطبية، وتقليل الأكلاف التشغيليّة، وتحسين احتمالية تنفيذ خطط العلاج الشخصية للمرضى، وتسهيل بروتوكولات تأمين الأدوية، بالإضافة إلى منح مقدمي/ات الخدمة وصولاً أفضل لمعلومات المرضى للمساعدة في رعايتهم/ن بأقل وقت وتكلفة ممكنة.
سيكتسب مجتمعنا ساعات إضافية من الإنتاجية بمجرد إدخال وسائل النقل المستقل عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما سيخفض من مشاكل الازدحام المروري تكاملاً مع تحسين الإنتاجية أثناء العمل كما جاء ذكر أعلاه.
في سياق منفصل، يساعد توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي على تعزيز الوسائل الفعّالة للتحقق من النشاط الإجرامي وحل قضايا الجرائم بوقت وجهد أقل، كما يساهم بخلق العديد من الفرص الجوهرية في قضايا العدالة والقانون لتحديد مدونات قانونية حول الاستخدام الفعال للتكنولوجيا دون تجاوز خصوصية الفرد .
وبقدر ما يزداد التطور التكنولوجي تعقيداً، يزداد التعقيد حول الإشكاليات الأخلاقية والمجتمعية التي تتجلى بالتوازي، لتكشف عن تداعيات الوجه الآخر والمظلم لهذه التقنيات، إذ تكمن المعضلة الأساسية في أن التطور التقني للذكاء الاصطناعي سريع بشكل لا يقارن مع التنظير الثقافي والنقاش الفلسفي والأخلاقي حوله.
أحد أهم أوجه القصور والتحديات التي تواجه أنظمة الذكاء الاصطناعي هي النتائج المنبثقة عن بيانات مجتزأة ومتحيّزة. وقد رُصد فعلاً العديد من التقنيات والبرمجيات التي تنتج أفكاراً عنصرية واضحة، فتحرم أصحاب البشرة الداكنة من الالتحاق بطلب التقدم للوظيفة فقط بسبب لون البشرة أو تحييد المرأة من القائمة بسبب الجنس.
هناك تحديات أخرى تتركز بانتهاك الخصوصية للأفراد واستغلال بياناتهم لأغراض غير مُعلنة، وآخرها كان تطبيق “لينسا” (Lensa). لقد سهلت تقنيات الذكاء الاصطناعي جمع البيانات الخاصة مثل (العمر، والموقع، والتفضيلات، وبصمات الوجوه، الخ..) لتقوم شركات التتبّع بجمعها وتحليلها ثمّ توظيفها لتخصيص تجربة المستخدم عبر الإنترنت أو بيعها إلى كياناتٍ أخرى دون علم أو موافقة أصحابها، مما يعرّض خصوصية الأفراد للخطر.
أبرز مثال على ما سبق هو حادثة شركة “ديب مايند” الشهيرة، وتعاطيها مع شركة تابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية لشراء قاعدة بيانات ومعلومات حساسة لأكثر من 1.6 مليون شخص، مما يعكس ذلك أن تكلفة بعض التقنيات لا تكمن بالمبلغ الذي يُدفع مقابلها بل بحجم ومدى حساسية البيانات التي يتم جمعها.
تبقى استقلالية الذكاء الاصطناعي من أخطر التحديات التي تواجه دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بحياتنا اليومية حيث أن معضلة إتخاذ الخوارزميات للقرارات الأخلاقية ما تزال قائمة، وهناك محاولاتٌ لإيجاد مخرجٍ يتناسب مع طبيعة عمل هذه التقنيات،؛ لو لم يكن بإمكان سيارة ذاتية القيادة تجنب قتل شخص من اثنين من المارة، فكيف تختار برمجية التحكم بالسيارة ضحيتها من الاثنين ووفقاً لأي معايير؟
علاوة على ما سبق، يسود نوعٌ من الاحتكار في ما يخصّ الانتفاع من هذه التقنيات، ففي حين يخطو الذكاء الاصطناعي خطواته الأولى في الدول النامية، يستثمر عددٌ قليل من الدول المتقدمة مليارات الدولارات في مجال البحوث، مما يحرم الكثير من دول العالم الثالث من المشاركة الفاعلة بتحديد مدونات استخدام هذه التقنيات، ويدعم استمرارية عدم التحكم بنفوذ هذه التقنيات وإمكانية حدوث اضطراب عالمي بسبب ديناميكية التسابق المتسارع باستخدام الذكاء الاصطناعي بين الدول الكبرى.
الشق القانوني
الاستمرار باستخدام الذكاء الاصطناعي دون سنّ قوانين وتشريعات ضابطة ومنظمة يمثل أحد أهم المعيقات الجوهرية التي تجعل من الذكاء الاصطناعي تهديداً وجودياً للبشرية. هنا تتجلى المشكلة البارزة في أوساط العاملين/ات في مجالات الذكاء الاصطناعي، وهي السباق إلى التسلح العسكري بمعدات وأجهزة تتمتع بتقنيات الذكاء الاصطناعي ذاتية التشغيل، مثل الطائرات المسيّرة كطائرة هاربي الإسرائيلية ( الدرون الانتحاري) التي تتمتع بقرار القتل المباشر بالكامل دون تدخل بشري أثناء القتال.
على الرغم من كافة المحاولات الخجولة التي كان آخرها قمة “الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري “ريآيم” REAIM بحضور أكثر من 80 ممثل/ة حكومي/ة لتوقيع بيان عالمي تنظيمي كمسودة أولية لدعم الاستخدام المسؤول لتقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، ورغم كل محاولات القوننة من خلال التشريعات واللوائح التنظيمية لإيجاد طرق تحدّ من مخاطر الذكاء الاصطناعي على البشر، إلّا أنّ هناك طريقاً طويلاً للوصول إلى عالم ذكاء اصطناعيٍ آمن يصبّ في منفعة البشرية ويحمي الفئات المهمشة الأكثر عرضة لمخاطر الاستخدام غير الأخلاقي له.
ختاماً، يتلخّص التحدي الأكبر خلال الفترة المقبلة بالقدرة على خلق حالة توازن بين حماية الحقوق الأساسية للمستخدمين/ات وتعزيز قدرتهم/ن على استيعاب التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وضبط استخدام الأنظمة المبنية على تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال اعتماد مدوّنات أخلاقيات موجّهة ومحددة، إضافة إلى إيجاد وسائل لمواجهة الجهات التي تحتكر منافع تقنيات الذكاء الاصطناعي.