نشرت هذه المقالة أولّاً على موقع “أنير”
مقدمة
أصدر مجلس النواب الليبي الكائن بمدينة البيضاء يوم الثلاثاء الموافق 27-09-2022 القانون رقم 5 لسنة 2022 بشأن “مكافحة الجرائم الإلكترونية”. يأتي هذا القانون في ظل تعثر الاتفاق السياسي الموقع في جنيف 2020، وفشل حكومة الوحدة الوطنية في الإيفاء بعهودها بإجراء انتخابات عامة في كانون الأول/ديسمبر العام الفائت وانبثاق حكومة موازية بالشرق الليبي.
تعتبر النسخة الأخيرة الصادرة من مجلس النواب نتيجة لجهود بعض النواب الرامية لمكافحة الحملات المستمرة ضد أعضاء المجلس التي بدأت سنة 2017 في تبني وتطوير القانون الخاص بالجرائم الإلكترونية بالتوازي مع مشروع قانون المعاملات الرقمية، لتتوج أخيراً بنشر نسخة القانون الآخيرة رسمياً كنسخة منقحة على النسخة المصوت عليها بغالبية المجلس بجلسة يوم الثلاثاء 26-10-2021.
السياق العام الليبي
تمر البلاد هذه الفترة بحالة من الجمود السياسي، عقب فترة من الاستقرار المؤقت التي عاشتها بعد مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي بقيادة المبعوث العام للأمم المتحدة بشهر نوفمبر لسنة 2020، والتي أدت إلى انتخاب مجلس رئاسي بنائبين ورئيس وزراء من قبل ملتقى الحوار (لجنة 75)، حيث شكلت حكومة الوحدة الوطنية بقيادة “عبد الحميد الدبيبه” وتم منحه الثقة من قبل مجلس النواب بشهر فبراير لسنة 2021، لتكون المهمة الرئيسية لهذه الحكومة التجهيز للانتخابات البرلمانية والرئاسية التي كان من المفترض إقامتها خلال كانون الأول/ديسمبر الماضي، لتؤجل فيما بعد إلى أجل غير مسمى بداعي الظروف القاهرة المتمثلة في رأي المحللين بجدلية بعض الأسماء المترشحة للإنتخابات الرئاسية.
أدت هذه الأحداث إلى انبثاق حكومة جديدة من قبل مجلس النواب تحت مسمى “الحكومة الليبية” بقيادة “فتحي باشاغا”، مما فتح باب الصراع على السلطة على مصراعيه في محاولة لإثبات قوة كل حكومة على الأرض لفرض حالة جديدة من الانقسام سياسي مماثل لما كان عليه الوضع قُبيل حوار جنيف سنة 2020، لينعكس في حالة صراع مسلح على الأرض كان نتاجه انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان وأضرار عامة على المواطنين.
بالتوازي مع الصراع السياسي والمسلح، تستمرّ انتهاكات حقوق الإنسان والمضايقات داخل الفضاء الرقمي، مستهدفة كل الناشطين في المجال العام من سياسيين ونشطاء بالإضافة لإزدياد ملحوظ في وتيرة خطاب الكراهية والتحريض والتحرش ضد النشطاء، المناطق، الأقليات العرقية والنساء، تعود في مجملها لجهات تتبع المؤسسات الحكومية وممولة من قبل الخزينة العامة للدولة.
مشروع القانون
يرجع العمل على قانون الجرائم الالكترونية لسنة 2017 كنتيجة مقترح من قبل أكاديميين من جامعة بنغازي تماشياً مع السياق العام بالمنطقة من موجة تشريعات لقوانين تنظم الفضاء الإلكتروني والجرائم الإلكترونية، المتوازية بدورها مع حملات إلكترونية عدة تستهدف رئاسة المجلس وأعضاءه، ليرتكز المشروع في نسخته السابقة وحتى الأخيرة المعتمدة من قبل مجلس النواب على خدمة أعضاء المجلس والشخصيات العاملة في القطاعات الحكومية بشكل عام، لتحصينهم من أي نقد أو سخرية!
تعود أول نسخ مشروع القانون لسنة 2018، حيث سربت للعامة خريف العام الماضي ضمن جهود بعض أعضاء مجلس النواب لجمع بعض آراء خبراء التقنية، ليُعتمد مؤخّراً دون الأخذ بعين الاعتبار أياً من هذه الأراء أو التحفظات التي قدمتها كل من المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية بالخصوص.
أدى تسريب مشروع القانون العام الماضي إلى حالة من الامتعاض وعدم الرضى داخل الوسط الحقوقي والتقني على صعيدي النشطاء و المؤسسات المحلية والدولية ذات العلاقة. ولعل من أبرز الردود على مشروع القانون ما صدر في بيان مشترك نشرته منظمة أكسس ناو عبر موقعها الرسمي “منظمات حقوقية تطالب السلطات الليبية بسحب قانون الجرائم الإلكترونية الجديد” مطالبين مجلس النواب بضرورة تعديل هذا القانون أو العدول عنه، أيضًا مقال من قبل منظمة سمكس بعنوان “قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الليبي الجديد: تشريع القمع“، وما تم نشره سابقاً عبر منصة أنير من مقال للزميل أمجد بدر موضحًا فيها أبرز المواد التي تمس سلامة المواطن وتنتهك خصوصيته “قانون الجرائم الإلكترونية – بعبع جديد لتكميم الأفواه“.
عُرف هذا القانون بنسخته الأخيرة ومسوداته السابقة بضبابية المفاهيم وعموم التعريفات وركاكة الصياغة، تاركاً بذلك المجال لصاحب السلطة التنفيذية ومن بعد القضائية المساحة الكافية لتطويعه وتأويل نصوصه وفق أهواء أصحاب المصلحة ليكون سلاحاً موجهاً ضد المواطن لا سلاحاً ليحميه.
الانتهاكات الحقوقية
بعد تسريب مشروع القانون الصيف الماضي، تهافتت المؤسسات العاملة في مجال التقنية وحقوق الإنسان لدراسة المشروع ومخاطبة البرلمان بالانتهاكات الحقوقية والنقاط الفنية التي تعيب المشروع، إلا أن ما تم اعتماده مؤخرا من قبل مجلس النواب لم يكثرت لتلك المطالبات انما غلض بعض العقوبات، ليغلب مصلحة مجلس النواب وأعضائه على مصلحة المواطنين. حيث توضح المواد الآتية الانتهاكات الحقوقية التي شرعها القانون:
- المادة 4 الاستخدام المشروع لوسائل التقنية: حيث جاء في نص هذه المادة أن “استخدام شبكة المعلومات الدولية ووسائل التقنية الحديثة مشروع ما لم يترتب عليه مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة أو الإساءة إلى الآخرين أو الإضرار بهم” ليعود بنا لنفس الإشكال المستمر في تعريف النظام العام والآداب العامة ومن المسؤول عن تأطيرها، ليمنح السلطة التقديرية للجهات الأمنية لتحديدها.
- المادة رقم 7 مراقبة ما يُنشر عبر وسائل التقنية الحديثة: تتنافى هذه المادة مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مادته 19 حيث تنص على “لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”٫ ليتيح القانون الرقابة على ما ينشر داخل الفضاء الرقمي وحجب ما لا يتماشى مع أهواء أصحاب المصلحة٫ مع هذا يحسب للقانون ضرورة صدور أمر قضائي لمراقبة “الرسائل الإلكترونية أو المحادثات”.
- -المادة رقم 8 حجب المواقع الإباحية أو المخلة بالآداب العامة: تنص هذه المادة على وجوب حجب الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات المواقع الإباحية أو المخلة بالآداب العامة إذ لم تحدد هذه المادة آلية تنفيذ هذا الحجب وذلك باللجوء إلى القضاء أو الحصول على إذن قضائي مما قد يترتب عليه حجب بعض المواقع والمنصات الأخرى بناءً على تقدير الجهة المنفذة مثل “نتفيلكس، تيك توك” أو أي منصات ومواقع أخرى.
- المادة رقم 9 حيازة وسائل التشفير: من خلال نص المادة لا يجوز لأي شخص أو جهة حيازة وسائل التشفير، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات والتي منها ماذا لو قام المواطن بتشفير بياناته الشخصية أو أعماله التي يقوم بها، ليصل الأمر إلى إمكانية استخدام وسائل التراسل التي تستخدم نظام التشفير الثنائي.
- المادة 14 حيازة برامج فك الترميز واستعمالها: جاء في نصها أن يعاقب كل من كسر الحجب “بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد على عشرة آلاف دينار”، ما يتنافى مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إذ تنص على أن “لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”.
- المادة 35 الامتناع عن التبليغ: تنص هذه المادة على معاقبة كل من ارتكب أي نوع من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون رغم المعنى العام والفضفاض للعديد من مواده وعباراته لتترك التقدير للجهة المسؤولة عن تنفيذ القانون مما يسبب عديد المخالفات للمعايير والحقوق الدولية.
- المادة 37 تهديد الأمن أو السلامة العامة: يمكن أن يؤدي تفسيرها إلى استهداف النشطاء والصحافيين والمدافعين عن الحقوق والحريات المدنية والسياسية وتجريم نشر محتواهم وتقاريرهم لأي انتهاك يحدث.
- المادة 47 التنصت غير المشروع: تتناقض هذه المادة مع المادة 14 بالإعلان الدستوري لدولة ليبيا الضامنة لحرية الرأي وحرية التعبير الفردي والجماعي، وحرية الاتصال، والمادة 7 من ذات الإعلان حيث “تصون الدولة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتسعى إلى الانضمام للإعلانات والمواثيق الدولية والإقليمية التي تحمي هذه الحقوق والحريات، وتعمل على إصدار مواثيق جديدة تكرم الإنسان كخليفة الله في الأرض”، بالإضافة لتعارضها مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
نلاحظ أن جميع ما ورد في هذه المواد مخالف للقوانين العامة للحقوق والحريات وما تم إعلانه في الإعلان الدستوري، وكأن مجلس النواب لا يبالي بأي من هذه القوانين، إنما هدفه الأسمى صياغة قانون يضمن له الحرية في التصرف وتحصين ذاته من النقد.
بين المسودة والقانون
بعد الاطلاع على القانون، يتضح للعيان وجود بعض التعديلات الطفيفة على مسودة المشروع المسربة خريف العام الماضي تتمحور حول تعديل بعض العقوبات وتعديل بعض التعريفات التي ينص عليها القانون، كالتالي:
- تعديل المادة رقم 3 في التعريفات ليكون تعريف القرصنة الإلكترونية وفق الآتي:
القرصنة الإلكترونية: “الاستخدام أو النسخ غير المشروع لنظم التشغيل أو البرامج الحاسوبية المختلفة في نظام الحماية الخاصة”، حيث نص المشروع على تعريف القرصنة الإلكترونية على أنها “الاستخدام أو النسخ غير المشروع لنظم التشغيل أو البرامج الحاسوبية المختلفة والاستفادة منها شخصياً أو تجارياً”.
- إضافة تعريف جديد خاص بالهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات المنشأة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 28 لسنة 2013 بصفتها المسؤولة عن تنفيذ القانون.
- تغيير عنوان المادة 6 لتكون “الأعمال الأدبية أو الفنية أو العملية” بدلاً عن “الأعمال الأدبية أو الفنية أو العملية الرقمية”.
- تعديل نص المادة 7 في فقرته الثانية المتعلقة بضبط صلاحيات الحجب والمراقبة، لتستمر يد الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات نافذة دون قيد في مراقبة الفضاء الرقمي وحجب ما تراه يمس بالسلم الاجتماعي وتقييدها بأمر قضائي مطلق في حالة مراقبة “الرسائل الإلكترونية أو المحادثات”.
- زيادة مدة الحبس في المادة 13 المعنية باختراق نظام معلوماتية بقصد الحصول على بيانات رقمية لتصبح لا تقل عن سنة بدل ستة أشهر.
- تعديل نص المادة 21 بإزالة تخصيص العقوبة بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات لكل من يقوم بمزج أو تركيب الصور أو الأصوات الاباحية ونشرها عبر الفضاء الرقمي، لتظل العقوبة عامة بالحبس مدة لا تقل عن سنة لكل من مزج أو ركب صوت أو صورة ونشرها من دون تصريح مكتوب أو إلكتروني من صاحب الشأن.
- تعديل نص المادة 45 المتعلقة بشأن مساعدة الجماعات الإرهابية من الحبس المؤبد إلى السجن.
ماذا بعد
هذا القانون ما هو إلا بمثابة تشريع للسلوك الممنهج والمستمر من أجهزة الدولة الأمنية في قمع حرية التعبير والحد منها لما يعطيه من سماحية للتأويل للجهات المختصة. وعلى رغم العديد من الجهود التي بذلت للضغط على مجلس النواب لتعديل مشروع القانون إلا أن المجلس أبى النظر في هذه المقترحات ليتلخص القانون حول تقييد الحريات وكتم الأصوات ليكون كل من في الفضاء الرقمي مذنب بما لم يقترف.