أصدر قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان في 29 أيار/مايو الماضي مرسوماً يقضي برفع حالة الطوارئ في كافة أنحاء البلاد. بالرغم من أنّ المرسوم جاء لتهيئة المناخ مع بدء مرحلة حوار جديدة لحل الأزمة السياسية في البلاد، إلا أنّه يتزامن مع عمليات قمع واعتقال ضد المتظاهرين بسبب سيطرة العسكر على فضاءات التعبير وقطاعات حيوية من بينها قطاع الاتصالات.
يأتي مرسوم البرهان برفع حالة الطوارئ بعد مضي أكثر من 7 أشهر على قرارات 25 تشرين الأول/أكتوبر تزامناً مع الانقلاب العسكري على السلطة وإقصاء المكون المدني. كان للطوارئ تأثير كبير على قطاعات حيوية في البلاد مثل قطاع الاتصالات الذي يقبع تحت سيطرة المكوّن العسكري بحكم تبعية جهاز تنظيم الاتصالات والبريد لمجلس السيادة بحسب قرار رسمي صدر عن مجلس السيادة في عام 2019.
وقد ظهر ذلك جلياً في قرار المدير العام للجهاز، اللواء مهندس الصادق جمال الدين، الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 والذي أعلن فيه رفضه إعادة خدمة الإنترنت رغم وجود أمر قضائي يطلب ذلك. برّر جمال الدين موقفه آنذاك بأنّ حجب الخدمة جاء “بأمر سيادي” ووفقاً “لإعلان حالة الطوارئ”، بالإضافة إلى أن حجب الخدمة مرتبط “بحماية الأمن القومي”، وهو ما كان موضع استنكار في ذلك الوقت.
انقلاب 25 أكتوبر: انتهاكات رقمية جديدة
شهدت فترة ما بعد 25 اكتوبر انتهاكات تجاوزت مرحلة حرمان ملايين السودانيين من خدمة الإنترنت وحرية التعبير عن رأيهم إلى انتهاك للخصوصية ومراقبة الهواتف الشخصية، حيث كشفت لجنة “محامو الطوارئ”، وهي لجنة تعمل على تقديم العون القانوني ورصد انتهاكات حقوق الإنسان بعد انقلاب 25 أكتوبر، في تصريح خاص لـ”سمكس”، أنّ السلطات “تراقب هواتف عدد من الناشطين والسياسيين الذين اعتقلوا في وقت سابق”. وتشرح اللجنة وفقاً لما ورد في شهادات وثقتها أنّ “بعضهم يشير إلى أنّ السلطات تمكّنت من اعتقالهم عبر تتبع هواتفهم الشخصية، بالإضافة إلى كشف سجل مكالماتهم خلال التحقيق معهم”.
وفيما يتعلق بإمكانية حجب شركات الاتصالات للإنترنت من جديد، ذكرت لجنة “محامو الطوارئ” أنّها تستند حالياً إلى قرار قضائي، صدر في 10 أيار/مايو الماضي، “يثبت إخلال جميع شركات الاتّصالات العاملة في السودان بالعقد المبرم بين الشركات والمشتركين”. وقد أكّد ذلك رئيس “جمعية حماية المستهلك” في السودان، ياسر ميرغني، مؤكّداً على حقّ “من يرغب من المستهلكين في المطالبة بالتعويض، كلّ حسب ضرره وحجمه” من حجب الخدمة سابقاً.
من جهة ثانية، أدّت قرارات 25 أكتوبر إلى توقّف عدد كبير من المشاريع التي تهدف إلى تطوير قطاع الاتصالات والتحول الرقمي في البلاد، وفقاً لما يكشفه لـ”سمكس” مصدرٌ في مكتب وزير الاتصالات الأسبق، هاشم حسب الرسول. يشرح المصدر أنّ هذه المشاريع “كانت ستسهم في استدامة تنمية قطاع الاتصالات في المناطق المتضررة من الحرب ومناطق الإنتاج والتعدين، وتحسين بنيته التحتية”، مقدّراً قيمة هذه المشاريع “بأكثر من مليار دولار أميركي حصل عليها السودان من جهات دولية مختلفة من بينها المؤسسة الدولية للتنمية (إحدى مؤسسات البنك الدولي) وبنك التنمية الأفريقي، بالإضافة إلى دول مانحة”.
يؤكّد المصدر كذلك أنّ الاضطرابات في البلاد أدّت إلى إبعاد كفاءات سودانية كان يُفترَض أن تسهم في إنجاز هذه المشاريع وتطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
العوائد المالية الضخمة لقطاع الاتصالات والتي تتضمّن “صندوق الخدمة الشاملة”، وهو صندوق مستقل يندرج تحت جهاز تنظيم الاتصالات والبريد وتودع فيه نسبة سنوية من أرباح شركات الاتصالات في السودان، قد يكون بحسب المصدر “أحد أسباب قيام العسكر بخطوة السيطرة على قطاع الاتصالات بالاضافة إلى إمكانية جمع الكثير من البيانات من الاتّصالات”.
مستقبل الاتصالات في حال التوصل إلى تسوية جديدة بين المدنيين والعسكريين
انطلق في الثامن من يونيو الجاري حوار سوداني مباشر بين أطراف الازمة السياسية في البلاد برعاية من الآلية الثلاثية التي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان “يونيتامس” والهيئة الحكومية للتنمية “إيقاد” والإتحاد الأفريقي وذلك بهدف إيجاد حلول للأزمة، كما أطلقت كل من المملكة العربية والسعودية والولايات المتحدة مبادرة لعقد لقاء ثنائي بين المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، طالبت فيه قوى الحرية والتغيير التي تمثل جزءا مهما من المكون المدني، بإنهاء الانقلاب وتأسيس سلطة مدنية كاملة والنأي بالمؤسسة العسكرية عن السياسية أو المشاركة في السلطة، وهو ما قد يمنح السلطة التنفيذية التي من المفترض أن تشرف على قطاع الاتصالات المزيد من الاستقلالية وعودة هذا القطاع إلى وضعه الطبيعي تحت إدارة حكومة جديدة، إلا أن نتائج هذه المفاوضات ما زالت غائبة في وقت يسيطر فيه المكون العسكري على السلطة، وإعادة حجب الإنترنت من جديد في تظاهرات ذكرى 30 يونيو التي حجب فيها الإنترنت وقتل خلالها نحو 8 أشخاص وفقاً لـ”رويترز”.
أثبتت التجربة السابقة منذ توقيع الاتفاق بين المكونين المدني والعسكري على الوثيقة الدستورية في آب/أغسطس من العام 2019، “تغوّل العسكر على الكثير من الصلاحيات ومؤسسات الدولة”، وفقاً لما ذكرته عضو مجلس السيادة السابقة السيدة عائشة موسى السعيد خلال تقديمها استقالتها في أيار/مايو من العام 2021. كما أكّد بيان “المجلس المركزي للحرية والتغيير” في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي بعد انقلاب 25 أكتوبر، “فشل المدنيين في وقف هذا التغوّل مما زاد من سيطرة العسكريين على مقاليد الأمور”. وتظهر كذلك المساعي المتكررة لإخضاع الشركات التي يسيطر عليها الجيش السوداني ومحاولة ضمّها إلى وزارة المالية خلال الفترة الانتقالية الماضية أنّ أيّ محاولة لاستعادة الشراكة في السلطة قد تفتح الباب واسعاً لحدوث تسويات علنية أو سرية تحول دون استقلالية بعض أجهزة الدولة، بخاصة مع ترويج البعض لهذه الفكرة ومن بينهم وزير المالية الأسبق إبراهيم البدوي الذي كان ضمن طاقم الحكومة الأولى للثورة السودانية، حيث يرى البدوي ضرورة وجود تسوية بخصوص الشركات التي يسيطر عليها الجيش حسبما ذكر في مقابلة سابقة له.
في ظلّ هذه المعطيات، يظلّ مستقبل قطاع الاتّصالات في السودان غامضاً حتى انجلاء الأزمة السياسية ومرهوناً بما ستؤول إليه الأمور في الفترة القادمة في البلاد مع استمرار سيطرة العسكر على هذا القطاع في الوقت الراهن.