“إنْ خسرتُ هاتفي المحمول، سأفقد بصري للمرة الثانية”؛ حقيقة مؤلمة قد لا يعي مرارتها إلّا من سَرقَتْ الحياةُ جزءاً من روحه، كما هو حال ممدوح ديبو (55 عاماً) الذي شاءت الأقدار أن يُسلَب بصره.
صعوبات يعيشها هو وأمثاله من الأشخاص ذوي الإعاقة بعد أكثر من عقد على الحرب في سوريا، لم يكن ينقصها سوى خدمات وتشريعات طارئة وغير مدروسة تزيد من وعورة طريق التحوّل الرقمي الذي يحاول الجميع اللحاق بركبه.
تقنيات غير فعّالة
وجد ممدوح، أستاذ اللغة العربية، طريقاً لتعزيز بصيرته باستخدام التكنولوجيا للتغلّب على صعوبات الحياة، ويعتبر أنّ استخدام الإترنت والتقنيات الحديثة أمر يسير إلى حدٍّ ما بالنسبة له. ويقول لـ”سمكس”: “لديّ هاتف ذكي وجهاز كمبيوتر مخصّصين لحالتي يعتمدان على الصوت، بحيث أستطيع عبر تطبيق قارئ الشاشة إتمام عملي وتواصلي مع الآخرين”.
لكنّ التكنولوجيا التي استطاع ممدوح تطويعها بما يخدمه كانت لعنةً على غيره من الأشخاص، مثل العم عامر، وهو في العقد السادس من عمره ولديه إعاقة بصرية. يؤكدّ عامر أنّ استخدام البرمجيات الحديثة صعب بالنسبة له ولمن هم في عمره لما تتطلّبه من تقنيات خاصة بالمكفوفين. ويضيف متنهداً: “أنا لا أعرف كيف أستخدم هذه التقنيات وعندما ذهبت إلى مركز ‘تكامل’ اعتذروا عن مساعدتي وقالوا لي: ما منقدر نعملك شي، هيك التطبيق!”.
تطبيق “وين” التابع لشركة “تكامل” السورية، هو أحد البرمجيات التي اعتمدتها الحكومة لإبلاغ العائلات عبر الموبايل عن توفر المواد التموينية المدعومة المخصصة لهم وأوقات الحصول عليها. هذه الخدمة يصفها العم الستيني بصوتٍ مبحوح بأنّها “ذُلّ” إذ يضطر يومياً إلى الاستعانة بجاره أبو إلياس لمعرفة إشعارات التطبيق. وعند سؤاله عن إمكانية ربط التطبيق بقارئ الشاشة، أجاب مستهزئاً: “هذا التطبيق لا يدعم قارئ الشاشة ولم يضعوا في حسبانهم حساسية متطلّباتنا عند برمجته، علماً أنّ لدي عشرات الحلول للتخلّص من المشكلة وقد قدّمتها لأحد مدراء الشركة قبل عامين ووعدني بحل تلك المعضلة، ولكن حتى اليوم لم يحرّك أحدٌ ساكناً، فأيقنتُ بعدها أنّ صوتنا لن يصل ولو وصلنا إلى المريخ”.
في السياق نفسه، يؤكّد ممدوح لـ”سمكس” أنّ “استخدام تطبيق ’وين‘ ليس سهلاً على المكفوفين، كما أنّ قارئ الشاشة يتطلّب وجود أجهزة موبايل حديثة بمواصفات عالية”، مشيراً إلى أنّه يحاول “تقديم المساعدة لمن يريد استعمال التطبيق سواء في إدخال البيانات أو معرفة دور كلّ شخص في استلام مخصّصاته”.
مئات الآلاف من المكفوفين والصم وغيرهم محرومون من الوصول إلى المواد المدعومة وغيرها من الخدمات الأساسية بسبب عدم ملاءمة هذه التطبيقات لاحتياجات ذوي الإعاقة، وهم إن حاولوا شراء هاتف جديد يدعم تطبيقات خاصة، سيقف قرار التعرفة الجمركية عثرة إضافية في تحقيق ذلك.
الهاتف يساعد… من استطاع إليه سبيلاً
بعد منتصف عام 2021، أصدرت “الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد” تعديلات جديدة على رسوم جمركة الهواتف الخليوية، بعد ربطها بسعر الصرف الرسمي للدولار، ما جعل امتلاك موبايل حديث نوعاً من الرفاهية لمن يعيش داخل سوريا. ومع ذلك، ما قد يراه البعض كماليات يمكن الاستغناء عنها، يعتبر لدى آخرين حاجات أساسية لا يمكن المساومة عليها.
“أحتاج إلى هاتف متطوّر يمكّنني من تحميل بعض التطبيقات المساعدة لحالتي، لذا اقتنيتُ هاتفَ سامسونغ جديداً، وعند تفعيله وصلتني رسالة لدفع رسم جمركي، وهنا كانت الصدمة عندما عرفت أن رسم التفعيل يبلغ 80% من سعر الموبايل!”، كما يقول ج.ل. (47 عاماً)، وهو مواطن كفيف.
أما وسيم (42 عاماً) مدّرس اللغة العربية، فقد تعرض منزلهُ مطلع عام 2012 لقذيفة هاون أدت إلى بتر قدمه اليسرى، فيلفت إلى حصوله “بعد مشقة على بطاقة معوق من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تخوّلني الحصول على عدد من المزايا كالإعفاء من الرسوم وأجور النقل والطوابع وغيرها”.ولكنّ “هذه المزايا اسميو فقط”، يتابع ساخراً، “فقد اشتريتُ بمساعدة بعض المحبين هاتفاً بمبلغ 320 دولاراً أميركياً تقريباً، وعند تفعيله وصلتني رسالة لدفع رسم جمركي بقيمة 280 دولاراً أي أكثر من 85% من سعر الهاتف!”. عندما ذهب للاعتراض محتمياً ببطاقة المعوق التي يمتلكها، يشير وسيم إلى أنّه لقي معاملة سيئة حيث “طردتُ من مركز الخدمات وأنا على كرسي متحرّك، بعدما أكّدوا أنّ البطاقة لا تنفع وأنّه ينبغي لي دفع المبلغ وإلا لن يعمل الهاتف”.
مساعدات في غير محلها
لا يقف الأمر عند القرارات والقوانين وإنّما يصل إلى إجحاف بعض المؤسسات والجمعيات بحق ذوي الإعاقة واعتبار السلة الغذائية “التي لا تكفي لبضعة أيام” أكثر أهمية من تأمين المستلزمات الطبية أو الأجهزة التقنية. السيدة الخمسينية أم علي، كما تعرّف نفسها، وهي كاتبة أدبية، تعرب عن سخطها من عدم اهتمام وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وكذلك الجمعيات الخيرية بتوفير سماعات أذن أو تحمّل جزء من تكاليفها العالية. وتضيف غاضبة أنّها لا تريد سلة غذائية، بل “أريد بعضاً من البطاريات اللازمة لتشغيل سماعتي المهترئة، وأريد من وزارة الداخلية وشرطة المرور وضع إشارات مرور مخصّصة تساعدنا على عبور الشارع من دون خوف؛ فهذه ليست طلبات وإنّما أمور بديهية موجودة في أي بلد حول العالم”.
عادل محمود (57 عاماً)، وهو شخص أصمّ، معاشه يعمل في إحدى محطات الوقود في مدينة حمص ومعاشه لا يتخطّى 30 دولاراً، يصرف جلّ ما يتقاضاه على تربية أطفاله الخمسة بدلاً من شراء بطارية لسماعات الأذن. أمّا الجمعيات الخيرية، كما كتب في إجابته عن سؤالنا، “فلم تعد تستورد الأجهزة التي نحتاجها برغم تضاعف أعداد المعوقين، ويعطوننا بدلاً منها علبة رب البندورة وعلبة زيت زيتون أخر الشهر؛ إنها صدمة لكل معوق ألا تعرف الجمعيات المعنية بنا ما هي احتياجاتنا الأهم!”.
من جهته، يؤكّد منير، أحد مدراء الجمعيات الناشطة في هذا المجال في ريف مدينة حماة (شمال شرق سوريا)، أنّ ضعف الواردات الحالية وقلة الدعم الحكومي هي المشكلة التي تؤثر سلباً على توفير الأجهزة المتطوّرة مثل الهواتف الذكية، والحواسيب الشخصية، وطباعة البرايل، وسماعات الأذن وغيرها. ولذلك، يعتبر أنّ “هذه الطلبات أصبحت اليوم تعجيزية” في بلد باتت فيه المواد الأساسية شحيحة نتيجة العقوبات وعدم توفّر القطع الأجنبي اللازم لتأمين التجهيزات.
في المقابل، يشير علي أكريم، مدير “جمعية إيماء لتعليم الصم”، إلى غياب تعليم الصمّ وعدم إلمامهم بالقراءة والكتابة هو أحد المعوقات الأساسية التي تحول دون وصولهم إلى فضاء الإنترنت واستخدام التكنولوجيا الرقمية بيسر. لهذا السبب، يعتمد غالبيتهم على مكالمات الفيديو التي تكون باهظة التكلفة مقارنة بالمكالمات الصوتية أو الرسائل المكتوبة، ويتساءل “لماذا لا تُخصّص باقات اتصال أو حسومات لهؤلاء الأشخاص؟”.
في حين أصبحت الأجهزة الرقمية أدوات أساسية في الحياة اليومية، يتعرّض الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة في سوريا للإقصاء والتهميش والحرمان من الحقوق المتاحة لغيرهم، على الرغم من أنّ “منظمة الصحة العالمية” تقدّر نسبتهم اليوم بحوالي 27% من تعداد السكان في سوريا، أي بزيادة أربعة أضعاف عن فترة ما قبل الحرب. ولذلك، مسؤوليتنا جميعاً أن نسمع ما يقوله ذوو الإعاقة وأن نبصر ما يعانون منه لكي نسير وإيّاهم في الطريق نحو مجتمع يحترم أفراده دونما أيّ تمييز.