قبل أسابيع من انطلاق محاكمته بعدة تهم في ديسمبر/كانون الأوّل على خلفية شكاية لوزير الداخلية المغربي الذي اتهمه بـ”إهانة هيئة منظمة وموظفين عموميين”، تعرّض نقيب المحامين الأسبق محمّد زيان البالغ من العمر 79 سنة، لحملة تشهير مكثّفة من قبل مئات الحسابات المجهولة على موقع “فيسبوك” تدّعي “الدفاع عن القصر الملكي والأجهزة الأمنية“، إذ نشرت هذه الحسابات صوراً جنسية نُسبت لزيّان بهدف ابتزازه والضغط عليه، تزامنًا مع تهديده بالاعتقال ما لم يتوقف عن مساندة المعتقلين السياسيين.
تكرّر الأمر نفسه مع المؤرخ والصحفي المعارض معطي منجب، الذي تلقى عدة تهديدات بالاعتقال من قبل نفس الحسابات المجهولة التي تُهاجم زيّان، قبل اعتقاله الفعلي في كانون الأول/ديسمبر 2020 كما يقول منجب لـ”سمكس”. والغريب في الأمر أنّ هذه الحسابات المجهولة قد لمحت إلى التهم الملفقة التي اعتقل منجب على خلفيتها في كانون الثاني/يناير 2020، أي قبل 9 أشهر من فتح النيابة العامة بحثاً مع منجب بتهمة “غسيل الأموال”.
أصبحت حسابات “الذباب الإلكتروني”، وهو وصف يُطلَق على الحسابات والصفحات التي تستهدف فئة معيّنة من الأشخاص، كمن يتنبّأ بمصير عدد من المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان، إذ يكفي أن تستهدف شخصاً ما ليكون ضحية الاعتقال التالية أو ليسكت من تلقاء نفسه ويمتنع عن التعبير عن أي مسألة أو قضية. أصبحت خلود المختاري متخوفة على حياتها بعد التهديدات التي تلقّتها من لدن حسابات الذباب الالكتروني على “فيسبوك” و”تويتر” “بالسجن والاغتصاب وإذابة جسدها في حمض النتريك”، ما لم تتوقف عن مساندة زوجها المعتقل الصحفي سليمان الريسوني. تقول لـ”سمكس” إنّ عدداً كبيراً من المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان، لا سيما النساء، توقّفوا عن التدوين على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما أصبح الذباب يستهدفهم بالتهديد وينشر صوراً ورسومات كاريكاتورية تظهرهنّ عاريات أو في أوضاع جنسية مفبركة”.
محنة يومية
المؤرخ والصحفي منجب، سبق أن تعرّض لحملة تشهيرية واسعة في بعض وسائل الإعلام المقربة من السلطة في السنوات الأخيرة تزامناً مع سجنه والحكم عليه بالسجن لسنة كاملة بتهمة “تهديد أمن الدولة” واختراق هاتفه ببرمجية “بيغاسوس” التي تنتجها شركة “إن إس أو” الإسرائيلية. يعتبر منجب، وهو رئيس جمعية “الحرية الآن“، أنّ هجمات الذباب الإلكتروني على شخصه صارت تشكّل له محنة يومية منذ سنوات. ويشرح لـ”سمكس” أنّ تلك الهجمات “تذكّرني بالدور الذي أقوم به في سبيل الدفاع عن الحريّة والديمقراطية وتحرير المساجين السياسيين، لكنّها في الآن نفسه تجعل الكثير من الأصدقاء يبتعدون عنيّ ويتفادون التواصل معي، بسبب الخوف من أن يطالهم التشهير الإعلامي بنفس الأساليب التي يستعملها الذباب الإلكتروني ضدي، بما فيه فبركة الصور ونشر معلومات كاذبة ووقائع مختلقة عن شخصي بهدف تشويه سمعتي”.
يلاحظ منجب أنّ الذباب الإلكتروني الذي تعوّد على التعليق على أغلب تدويناته على “فيسبوك” بشكل شبه يومي قد لا يُحرّك ساكنًا عندما ينشغل الرأي العام بحدث معين مرتبط مثلاً باحتمالية ارتكاب عناصر الأمن لبعض التجاوزات في حق المواطنين، إذ “يتركّز كلّ جهد الذباب في الدعاية لأجهزة الأمن والردّ على كلّ من يشكك في مدى احترامها للقانون ولحقوق الإنسان”.
تقدّم منجب بعدة شكاوى لإدارة شركة “فيسبوك” بخصوص المنشورات التي تستهدفه أو الهجمات التي يتعرّض لها حسابه كلّما نشر تدوينة تنتقد النظام، لكنّ الشركة ولحدود الساعة لم تحذف تلك المنشورات أو تقفل الحسابات الوهمية التي تنشرها.
ويلاحظ منجب أنّ الذباب الإلكتروني حاضر بقوة على تطبيق “فيسبوك” مقارنة مع تطبيق “تويتر”، وربّما يعود ذلك إلى الانتشار الواسع لتطبيق “فيسبوك” في المغرب، إذ يستعمله %76 من مستخدمي/ات مواقع التواصل الاجتماعي الذين يقدرون بـ17 مليون شخص، مقابل %17 من لـ”تويتر”، وفق إحصائيات منصة “هوتسويت” (Hootsuite) لعام 2019.
ما علاقة السلطة؟
تتفاخر حسابات الذباب الإلكتروني علانيةً بتبعيتها للنظام المغربي، إذ تعمل على تمجيد سياسات كلّ من مدير الأمن والمخابرات عبد اللطيف الحموشي الذي ارتبط اسمه بفضيحة “بيغاسوس” والملك محمّد السادس. يسعى الذباب الإلكتروني إلى تقديم نفسه كمدافع عن “مقدسات المملكة” في مواجهة ما يسميه “خونة الوطن“، ويهدف بذلك إلى بثّ الرعب وسط الناشطين والناشطات المستهدفين/ات، من خلال تهديدهم/ن بالاعتقال أو حتى التصفية الجسدية، أو تحذيرهم/ن من الاستمرار في نفس النهج الذي قد يكون معارضاً لتوجهات النظام السياسي، بالإضافة إلى إغراق المنشورات والتدوينات بتعليقات مسيئة ومفبركة تحمل أحياناً خطاباً يحضّ على الكراهية، كما تتضمّن فيديوهات قصيرة وصور كاريكاتورية تُسفّه الناشطين والناشطات أخلاقياً وجنسياً.
في السياق نفسه، كشف تحقيق نشره موقع “ميدل إيست آي” (Middle East Eye) في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 أنّ عناصر من الأمن المغربي والجزائري قد تلقّوا تدريبات من قبل خبراء في الاتحاد الأوروبي حول إنشاء هويات مزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف نشر معلومات مضللة تصب في مصلحة الدعاية لنظام الحكم، إضافة إلى جمع معلومات استخباراتية عن بعض مستخدمي/ات تطبيق “فيسبوك”.
وكَشف تقرير لشركة “فيسبوك” في شباط/فبراير 2021 عن حذف الشركة لـ385 حساباً وهمياً و6 صفحات على منصّاتها و40 حساباً على تطبيق “إنستغرام”، وكلّها تروّج لمقالات موالية للسلطات المغربية. ويُعدّ موقع “شوف تفي” (Chouftv.ma) التشهيري أبرز مصادر هذه الأخبار، وهو يتفاخر بولائه لجهاز الأمن المغربي، كما يهاجم المعارضين/ات والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان ويمجّد شخص الملك محمّد السادس ومدير الأمن والمخابرات عبد اللطيف الحموشي، وفق التقرير.
تواطؤ القضاء مع الذباب الإلكتروني
تعتقد سعاد البراهمة، المحامية وعضو المكتب المركزي لـ”الجمعية المغربية لحقوق الإنسان“، أنّ السلطات المغربية تشجّع انتشار ظاهرة الذباب الإلكتروني “الذي أصبح يستهدف المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان بشكل دوري ومكثّف منذ 2018″. وتشرح لـ”سمكس” أنّه “لم يسبق للنيابة العامة أن فتحت بحثاً أو تحقيقاً حول التهديدات الخطيرة والصور المفبركة والأحداث المختلقة التي يُروَّج لها من قبل الذباب الإلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي بهدف التشهير ببعض المعارضين/ات والصحفيين/ات المستقلين عن السلطة”. في المقابل، “قد تتحرّك النيابة العامة بمجرّد نشر أيّ فرد لتدوينةٍ ما تنتقد سياسات النظام، كما حدث في الأيام الأخيرة”.
ترى البراهمة أنّ أغلب ما يُنشر على صفحات الذباب الإلكتروني لا علاقة له بحرية الرأي والتعبير، وتتأسف لأنّ القضاء “لا يعالج الشكايات التي يرفعها بعض ضحايا الذباب، بدعوى أنّ المُهاجم مجهول وأنّ الحساب وهمي، ليصل الأمر في النهاية إلى حفظ القضية”. يحصل ذلك في وقتٍ “يجب أن الشرطة العلمية في خدمة القضاء، لا سيما أنّها تمتلك ما يكفي من المؤهلات والتقنيات للحد من هذه الظاهرة وكشف المسؤولين عنها”، وفق البراهمة.
وإذا تقدّم الشخص المتضرّر بنفسه بشكوى ضدّ هؤلاء، قد يتعرّض للتهديد بالقتل مثلما حصل مغ الحقوقي والمهندس أحمد بن الصديق الذي سبق أن تقدّم بشكوى للقضاء في عام 2014. وصلت للصديق تهديدات علنية في فيديو نُشر على حسابات حركة “الشباب الملكي” في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنّ القضاء لم يتفاعل مع القضية حتّى الساعة، وفق قوله.
في النهاية، وفي ظلّ تجاهل القضاء وعدم تحرّك شركات التواصل الاجتماعي بفعالية للحدّ من النشاط المكثّف للذباب الإلكتروني في المغرب، لم يجد الأشخاص المتضرّرون من حملات التشهير والأخبار المفبركة سوى إطلاق حملات لحظر حسابات الذباب الإلكتروني. وقد أطلق البعض ، مثل فؤاد عبد المومني والمهدي المحمدي وآمنة التراس، حملة “بلوكي الذبان (الذباب)” على موقعي “فيسبوك” و”تويتر” بهدف التحذير من هذه الظاهرة وحث المتضررين منها على حظر حسابات الذباب الإلكتروني.