في سابقة جديدة من نوعها في لبنان، طلب النائب العام التمييزي/ يوم أمس 1 تموز/يوليو، من مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، ملاحقة ناشر الصورة التي عرضت رجلاً يحمل ابنه مطالباً بالكهرباء لتشغيل آلة الأوكسيجين، في مدينة طرابلس اللبنانية، وتبيّن لاحقاً أنّها من بلد آخر (سوريا) ونُشرت قبل عدة سنوات، بحجة “زعزعة الأمن وإضعاف الشعور الأمني”.
لا شكّ أنّ هذا الطلب يشكّل سابقةً في لبنان لناحية ملاحقة “الأخبار الكاذبة” التي تنتشر عبر الويب، ولكن هل تصبح هذه الخطوة حجة جديدة للسلطات من زيادة قمع المستضعفين في لبنان، وسط تجاهل شبه تام لما يحصل في البلاد من انهيار اقتصادي وعدم توقيف أو مساءلة أيّ شخص في موقع المسؤولية؟
المستند القانوني
لم يوضح النائب العام في طلبه من مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية القانون الذي استند إليه، وقد يعود ذلك إلى أنّ القاضي عندما يطلب أمراً من الضابطة العدلية “ليس ملزماً بذكر القوانين في النص، خصوصاً في الأمور المرتبطة بالسلامة العامة والأمن القومي وكذلك كيلا يحصر نفسه بنصّ قانوني”، وفقاً لما قاله خبير قانوني لـ”سمكس”.
ولكن وفقاً للأسباب التي ذكرها النائب العام في طلبه، يتبيّن أنّه اعتمد على النبذة 5 من قانون العقوبات اللبناني التي تتحدّث عن “النيل من هيبة الدولة وإضعاف الشعور القومي”، لا سيما المواد 295 التي تعاقب بالاعتقال المؤقت من ينشر “دعاية التي ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إلى إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية”؛ و296 التي تعاقب “من نقل أنباء يعرف أنّها كاذبة و مبالغ فيها من شأنها أو توهن نفسية الأمة”؛ و297 التي تعاقب بالحبس والغرامة من “يذيع في الخارج وهو على بينة من الأمر أنباء كاذبة مبالغاً فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة”.
هذه المواد، كما مواد القدح والذم، مع ما تنطوي عليه من تعابير فضفاضة، يمكن أن تُستغلّ من أجل زيادة التضييق على المساحات الرقمية واستدعاء كلّ من ينشر باعتبار ما نشره “خبراً كاذباً” وصولاً إلى سجنه كما ينصّ القانون. على سبيل المثال، لم تعرّف المادة 297 الأخبار الكاذبة أو تُحدَّدها، ممّا يسمح للنيابة العامة وغيرها من السلطات القضائية باستخدام هذه المواد الفضفاضة لغايات خاصّة قد ينطوي الكثير منها على تقييد حرية التعبير على الويب. وبالمثل، لم يحدّد المشرّع في المادة 295 الشروط المتعلقة بـ”إضعاف الشعور القومي” أو “إيقاظ النعرات الطائفية” كما لم يفسّرها ولم يشرح كيف يُضعف الشعور القومي أو تُثار النعرات الطائفية.
وكان بدأ تطبيق قانون العقوبات على وسائل النشر الإلكترونية بعد صدور قانون المعاملات الالكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي رقم 81/2018، ونصّ المادة 118 منه على تعديل المادة 209 من قانون العقوبات وأضافت إليها “الوسائل الإلكترونية” كأحد وسائل النشر العام.
وعن التحرّك ضدّ الأخبار الكاذبة والمفبركة في لبنان، يقول الصحافي محمود غزيل، المتخصّص في تقصّي الأخبار الكاذبة والحقائق، في حديث مع “سمكس”، إنّه “من الجيّد أن يتحرّك القضاء في لبنان لمحاربة الأخبار الكاذبة، ولكنّ هذا القرار لا يعني انطلاق ورشة محاربة الأخبار الكاذبة، بل قد تكون خلفيته سياسية لوضع اللوم في تحريك الشارع على هذا الشخص وليس على المآسي التي تحيط بالمدينة”، معتبراً أنّ أمام النيابة العامة “قضايا أهمّ وأوضح يجب أن تضطلع بها”.
إلقاء اللوم على الطرف الأضعف؟
شهدت مدينة طرابلس شمال لبنان، قبل أيام، احتجاجات واسعة وصلت إلى إطلاق النار من قبل البعض، وعزت بعض الأخبار شرارة الاحتجاجات إلى الصورة التي انتشرت على وسائل التواصل بتاريخ 13 حزيران/يونيو، والتي تظهر الرجل الذي يحمل ابنه.
وبعد ذلك، بدلاً من تحديد أسباب الفقر وتردّي الخدمات التي تعصف بالبلاد وخصوصاً في مدينة طرابلس، طلب النائب العام “إجراء التحقيقات والاستقصاءات اللازمة لتحديد كامل هوية الشخص الذي أقدم على تعديل الصورة” وكذلك “العمل على إحضاره واستجوابه حول أسباب وظروف إقدامه على ذلك وتحديد هوية مموليه”.
في المقابل، وبصورة تدحض الأسباب التي اعتمدها النائب العام في طلبه، قال وزير الداخلية اللبناني، محمد فهمي، اليوم الجمعة 2 تموز/يوليو، في تصريح صحافي، إنّ “ما يحصل في طرابلس هو ردّ فعل متوقّع، على تردّي الوضع الاقتصادي وانقطاع الكهرباء والدواء والكثير من المواد الغذائية”.
لم تكن هوية الشخص الذي نشر الصورة مجهولة منذ البداية، وهو لم يخفِ ذلك بل أوضح مراراً الأسباب التي دفعته إلى نشرها. فقبل أن يطلب النائب العام التحرّي عن ناشر الصورة في 1 تموز/يوليو، كان الشاب مفيد عريس، قد أوضح على صفحته على “فيسبوك” في 30 حزيران/يونيو أنّه هو من رسم الصورة باستخدام “فوتوشوب”، مؤكّداً أنّها صورة “تعبيرية […] ليست صحيحة ولكنّ مضمونها صحيح”.
يؤكّد غزيّل لـ”سمكس” أنّ هذه الصورة مفبركة ومنشورة في سوريا قبل أعوام، مشيراً إلى أنّ الشخص الذي نشرها لا شكّ “بذل جهداً لفبركتها، ولكنّنا لا نبحث في نواياه هنا، بل إنّ ما فعله كان نتيجة لما تعانيه منطقته ولم يكن هو سببها بطبيعة الحال”.
يواجه المستخدمون/ات في لبنان تضييق السلطات على حرية التعبير على الويب منذ فترة، وتزداد حالات استدعاء النشطاء إلى التحقيق بسبب منشوراتهم/ن عند كلّ حدثٍ يعصف بالبلاد، مثل الاحتجاجات والتظاهرات والانتخابات وغيرها. فمنذ اندلاع الاحتجاجات في لبنان في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، والاستدعاءات بحقّ المستخدِمين/ات تتزايد بسبب منشوراتهم/ن على الويب. وقد رصدت منصّة “مُحال” في عامي 2019 و2020 أنّ أصحاب النفوذ هم أكثر المدّعين ضدّ المواطنين بسبب منشورات على الويب، في حين كان أكثر المستدعين من الذين يعملون في مجال الصحافة أو ينشطون في الشأن العام.
وتظهر بعض الأمثلة في لبنان كيف يتعامل القضاء مع أصحاب النفوذ ويتحرّك لقضاياهم ضدّ المواطنين/ات الذين لا يجدون وسيلة للتعبير عن غضبهم ومطالبهم بتطبيق القانون سوى على وسائل التواصل. ومن هذه الأمثلة، ما حصل في عام 2018 ضدّ أحد الفنادق الذي اعتبر نشطاء أنّه يتعدّى على المال العام ودعوا إلى حملة لتخفيض تقييماته على المنصّات الرقمية، فما كان من القضاء إلّا أن لاحق النشطاء متغاضياً عن قضية الفندق وما ألحقه من أضرار بالبنية التحتية فيما بعد.
فهل يبدأ مع هذا الطلب عصرٌ جديد عنوانه محاربة الأخبار الكاذبة على الويب وفقاً لقانون العقوبات وقانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي؟ أم هل يكون بداية لاستدعاء المزيد من المعترضين/ات والنشطاء بحجة نشر أخبار كاذبة؟ الأجوبة برسم النيابة العامة والنائب العام.