مقال للمدون رامي رؤوف:
عندما نكون جالسين في مقهى أو مكان عمومي نتبادل الحديث حول مسألة عائلية أو مشكلة شخصية، ويقترب نحونا شخص لا نعرفه نبدأ تدريجيا في خفض أصواتنا -المنخفضة- إلى أن نشعر بخصوصية وراحة لاستكمال الحديث مرة أخرى. وإذا لاحظنا أن ثمة شخصا يجلس بجوارنا ويستمع لحديثنا نشعر بالغرابة وأحيانا بالغضب من التطفل.
على صعيد تفاعلنا وسلوكياتنا الاجتماعية نمارس بدون تردد درجات مختلفة من خصوصية وعلانية المعلومات. قد ندخل إلى مقر العمل ونصيح بصوت مرتفع معلنين شأنا شخصيا سعيدا، وقد نتحدث في الهاتف بنفس المقر في مكان معزول لأسباب “شخصية”. وعند زيارتنا لطبيب نختار مشاركة أشخاص محدودين لاطلاعهم بحالتنا الصحية، وقد نفضل الاحتفاظ بالمعلومة ﻷنفسنا فقط.
الخصوصية أمر جوهري وميسرة لقدرتنا على الممارسة الفعلية لسائر الحقوق والحريات. إذا سلبت منا الخصوصية لن نكون أحرارا في الوصول للمعرفة، ولن نكون أحرارا في مقابلة من نتفق أو نختلف معهم في التفكير، ولن نكون أحرارا في تنظيم مجموعة قراءة كتب أو مبادرة ما. الخصوصية تجعل من قدرتنا على الاعتراض والتفكير والنقد والإبداع أمرا ممكنا. فقدرتنا على التعبير بحرية وتشاركنا في الأفكار يصب في تطورنا الفكري على المستوى الفردي وتراكم المعرفة على المستوى الجمعي. اكتشاف أنفسنا والآخرين من حولنا بحرية، مسألة ضرورية وخطوة أصيلة نحو بناء مجتمع ديمقراطي صحي بدون قلق من الاختلاف وخوف من المعرفة – وهو أمر غير ممكن بدون خصوصية.
الاختلاف والمعرفة عدوان للسلطة والأنظمة القمعية. تجتهد أجهزة الدولة في مكافحة الاختلاف والقضاء على المعرفة. تهتم السلطة القمعية بتعميم وجهة نظر واحدة وسرد يحتكر العقول ومعرفة ذات بعد واحد. التنوع ممنوع والاختلاف مجرم.
فساد سياسي-اقتصادي
في سبيل السيطرة والتحكم تبرز ضرورة المراقبة حتى يكون حراس السلطة على دراية بأفكار ومعارف الناس ولمعاقبتهم وقت الضرورة على التجرؤ للمعرفة وجرم الاختلاف – وذلك عند شعور الحراس بالتهديد. ينفق حراس السلطة المال لجلب أجهزة وبرمجيات المراقبة والتحكم في البنية التحتية لشبكة المعلومات والاتصالات بشكل مركزي. ويبنون علاقات وطيدة مع شركات المحمول ومقدمي خدمات الإنترنت، كما يخلقون إحساسا عاما لدى الناس بضرورة مراقبة بعضهم البعض. نواة العلاقة بين السلطة وقطاع الاتصالات تتمركز حول النفاذ لبيانات خاصة بالمواطنين خارج إطار الضرورة والمشروعية لإشباع فضول حراس السلطة وحب السيطرة – إلى جانب الانتفاع المادي بالطبع. وتلك النواة تتغذى على فيض من مبررات المصالح العليا والسيادة الوطنية والأمن القومي والشئون العسكرية والآداب العامة.
يزداد قلق الحراس من تنوع الآراء وثراء الصحف المستقلة بموضوعات تساهم في اطلاع الناس على معارف وأخبار مختلفة، وتنتابهم الريبة من أي تنظيم اجتماعي حتى لو كان تنظيما شبابيا لتحسين المرور أو لممارسة الرياضة.
تشويه التعريفات والتلاعب بالكلمات
ينطلق حراس السلطة في نشر مبررات مكافحة الإرهاب واستهداف المجرمين والخارجين عن القانون – قانون الحراس. ويقولون ليس لدى المواطن ما يخفيه ويخشاه، لنجد أنفسنا أمام اتهام السرية الذي يعصف بمبدأ الخصوصية. فهم لا يعترفون إلا بخصوصية السلطة وسرية بياناتها ونفقاتها ولا يرون منطق الخصوصية للناس.
يقتل الفضول حراس السلطة وينطلقون بقوة للسيطرة تدريجيا على المجال الخاص والمجال العام لأنهم يعتقدون أن الخصوصية للإجرام فقط والكل متهم حتى يثبت الولاء.
شغف المعرفة ليس جرما. وشغف تحرير البيانات وإتاحة المعلومات ليس إرهابا. الاختلاف إثراء لنا ونقمة على السلطة وحراسها.
* تم نشر هذا المقال على موقع هنا صوتك بتاريخ 23 سبتبمر 2015.