استضافت دولة الإمارات العربيّة المتحدّة المنتدى الإقليمي للمحتوى الرقميّ العربي على مدى يومين في مدينة دبي حمل عنوان “المحتوى العربي في عصر التحولات الرقميّة الكبرى“. والمنتدى هو نتيجة أعمال مجلس وزراء الإتصالات العرب وإجتماعاتهم خلال الدورة السادسة عشرة في مدينة وهران- الجزائر في شهر تموز يونيو 2012. جاء المنتدى كقرار ضروريّ للبحث عن حلول مشتركة في هذا المجال والعمل على تفعيلها.
نُظِم المنتدى من قبل وزارة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات في جمهوريّة مصر العربيّة على مدى عامين متتاليّين: 2013 و2014، ليحط رحاله هذه السنة في مدينة دبي على هامش فعاليات معرض جيتكس GITEX الدوليّ. جمع المنتدى على مدى يومين 16 خبيرًا عربيًا في مجال تكنولوجيا الإتصالات، السياسات، الصحافة والتواصل الإعلامي. فكان التطرق إلى الإسهامات العربيّة في مجال التكنولوجيا الرقميّة من الخوارزميّات، الحوسبة السحابيّة، تطبيقات الهواتف الجوالة، الحكومة الذكيّة، الروبوتات، التربيّة ومنها المساقات الجماعيّة المفتوحة المصادر (موكس ،(MOOCs حوكمة الإنترنت، تحديث القوانين وإعداد الخطط الإستراتجيّة التي من شأنها دفع عجلة التنميّة كما الصحافة العربيّة، فرص العمل والتخصّصات الجديدة التي تجمع بين خبرة المحتوى والخبرة الرقميّة، تحسين نوعيّة الأخبار وديناميتها فرص الشباب والإقتصاد الرقميّ. أقرّ المشاركون عشرين تَوصية عنت جودة المحتوى الرقمي، أهميّة العمل على تشارك عربي-عربي في هذا المجال، تشجيع إنتاج منصات إلكترونيّة عربيّة، العمل على وضع استراتجيات للحفاظ على اللغة العربيّة الفصحى في مقابل ما يجري من تعريب المحتوى بالحروف اللاتينية أو ما بات يعرف بالـArabizi وهي نتيجة جمع بين كلمتين Arabic وInglizee.
الحتميّة العلميّة
عادت شبكة الإنترنت إلى الجزائر بعد إنقطاع دام سِتّة أيام (20-26 تشرين الأوّل-أكتوبر 2015) حُرم بنتيجته 80 بالمئة من الجزائرييّن من خدمات الشبكة العنكبوتيّة وكتبت صحيفة “الوطن” عن هذه الحالة: “المواطنون على وشك الإصابة بنوبة عصبيّة” مع التنويه أن الإقتصاد الجزائري لا يعتمد على التكنولوجيا الرقميّة بشكل كبير بينما يظهر هذا الإنقطاع مدى إرتباط المجتمع بالعالم الإفتراضي. وفي هذه المناسبة لا بدّ لي من ذكر حادثتين منفصلتين سبقتا مشاركتي في المنتدى: الأولى هي ضرورة إستحصالي على إخراج قيد عائلي وهو من المستلزمات العديدة غير المبرّرة للحصول على تأشيرة الدخول إلى أيّ بلد أجنبي. عمليّة معقدة وطويلة تتطلب مجهودًا ووقتًا من جمع أوراق، ملفات ومن ثم تصديقها من قبل موظفين للحصول على إخراج قيّد (عائلي أو إفرادي) من دائرة النفوس في لبنان. في مقابل عمليّة حصولي على تأشيرة دخول الإمارات العربيّة المتحدّة إلكترونيًا وتبعها إجراء بسيط على المطار في دبي: بمجرد نقرة واحدة على الحاسوب ومطابقة بصمة الحدقة (البصمات الحيويّة) خلال دقيقتين سمعت عبارة “أهلًا وسهلًا بك في دبي”.
كخلاصة سواء أعجبتنا التكنولوجيا الرقميّة أم لا نحن في عين عاصفة “الجدار الناريّ” والآلياف البصريّة وهذا حتميّة علميّة وإجتماعيّة لا يجب مقاومتها وإن تجرّأ أحدهم عن قلّة معرفة لن يتمكن من منعها. “المستقبل الآن” وهو باحة هائلة لا حدود لها من الذكاء الرقميّ، من عالم إنترنت الأشياء وإنترنت كلّ شيء فإمضوا ولا تلتفتوا إلى الوراء.
المنتدى وأمل تشارك عربي-عربي
رأى مدير عام الهيئة العامة لتنظيم الإتصالات في الإمارات العربيّة المتحدة حمد عبيد المنصوريّ خلال إفتتاحه المؤتمر أن أوّل نهضة معرفيّة شهدها التاريخ العربي كانت نهضة مبنيّة على المحتوى عندما أولى الخليفة المأمون جلّ إهتمامه بجامعة بيت الحكمة. قال المنصوري: “في سياق مشروع نهضوي نتوق إلى استعادت هذه النهضة، بهمّة أمثالكم من الغيورين على المحتوى العربي ومستقبل اللّغة العربيّة في العصر الرقمي”.
في العام 2010، أطلقت منظمة الإسكوا مبادرة تعزيز صناعة المحتوى الرقميّ العربي عبر الحاضنات التكنولوجيّة وقد أنجز لحينه الجزء الأوّل منها حسب شرح رئيسة قسم الإبتكار في منظمة الإسكوا الدكتورة نبال إدلبي وقالت: “ما زال المحتوى الرقميّ يشغل حيزًا هامًا في الخطط التنمويّة الدوليّة، والدليل خطّة التنميّة المستدامة لعام 2030 والتي أقرّتها الأمم المتحدة في أيلول-سبتمبر 2015. وهذا دليل آخر على أهميّة التنوع الثقافي واللغويّ في مجتمع المعلومات الشامل، وهنالك ضرورة المحافظة على هذا التنوع”. وجه أحد المشاركين سؤالًا عن إحتمال وجود نسخة عربيّة مثيلة لمارك زوكربرغ يومًا ما، فجاء الجواب: “نعم لو دعمنا قطاعيّ التربيّة والإقتصاد كما يجب”.
وفي هذا السياق يظهر تقرير عنوانه “شبكات النطاق العريض في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: تسريع الوصول إلى الإنترنت“Broadband Networks in the Middle East and North Africa: Accelerating High-Speed Internet Access والذي أعدّه البنك الدولي ونشره في العام 2014، أن خدمات قطاع الإنترنت محرّك للتنميّة الإقتصاديّة لا بل أساس المنافسة بين الدول غير أن معدل إنتشار الإنترنت السريع، بإستثناء دول الخليج العربي، منخفض في منطقتنا. هذا يعني وللأسف أنه على نطاق الخطّط الإستراتيجيّة الوطنيّة لا تزال متواضعة ضمن هذا القطاع وهي تعتمد مفهومًا غربيًا في أغلب القطاعات الحكوميّة إن إعتمدتها.
مع العلم أن حجم ما يغرّده مستخدموا موقع التواصل الإجتماعي “تويتر” في العالم العربي اليوم (وفق تقرير البنك الدوليّ، 2014) هو نحو 10832000 تغريدة يوميًا؛ وبمعادلة بسيطة إن تمّت مقارنة هذا بمحتوى الصحف العربيّة، سنجد أنه يمثلّ أكثر من ثلاثة أضعاف محتواه الورقيّ في يوم واحد.
لذلك نعيد صياغة الفكرة من جديد ونقول أن سرعة الوصول إلى المعلومة تمثل عنصرًا لا مفرّ منه ضمن البنيّة التحتيّة لمجتمع المعلومات تخدم القطاعات كافّة. هذا ما أكّده مدير تنميّة الإتصالات وتقنيّة المعلومات في جامعة الدول العربيّة خالد فودة شارحًا أن تنميّة المحتوى الرقميّ عملية مركّبة تتضمن إنشاء المحتوى وتحريره في صيغة رقميّة ونشره ليصبح متاحًا للمستهلك. قال فودة: “لا يمكن الإفتراض أن مسؤوليّة تنميّة المحتوى الرقميّ تقع على الحكومات أو المنظّمات أو أيّ من أصحاب المصلحة، فهي عملية تشاركيّة يساهم فيها الجميع لتصل إلى المستخدم النهائي”.
في خطوة يرجى لها أن ترى الضوء أعلنت وزارة الإتصالات اللبنانيّة منذ بضعة أشهر “خطّة لبنان 2020-رؤيّة الإتصالات الرقميّة” وهي تتضمن توسيع شبكة الألياف البصريّة لتشمل الأراضي اللبنانيّة وتؤمّن إستكمال نشر تقنيّات الجيل الرابع على شبكة الهواتف الذكيّة.
على الصعيد الإقتصادي رأى مستشار وزير الاتصالات الدكتور وليد كرم أن إنتاج المحتوى الرقمي يتطلّب إمكانيات إقتصاديّة كبيرة لإنتاج محتويات معرفيّة كالمواد التعليميّة-التفاعلية المتعدّدة الوسائط والكتب الإلكترونية والمجلّات والمنشورات العلميّة والثقافيّة والإجتماعيّة. قال كرم: “من المتوقع أن يزداد نشر هذه المواد رقميًّا بنسبة تفوق الـ60 بالمئة مع حلول العام 2020، ولمواكبة هذا التحول، على الحكومات العربيّة ورؤوس الأموال المغامرة كما المستثمرين من القطاع الخاص العمل سويًا لرفع مستوى هذه الإنتاجات الرقميّة”
وتبيّن أراء الخبراء وتوقعاتهم العلميّة أنه مع حلول العام 2020 سيصبح عدد الأجهزة المتّصلة بالشبكة أكثر من 50 مليارًا لذلك علينا التنبّه إلى أهميّة المستقبل القريب، إلى تحسين أداء الشبكة وتفعيل سرعتها، جعل أسعار الخدمات معقولة وذات جودة وإلّا نحن نقود شبابنا المتعلّم وخريجي الجامعات إلى إنتحار مهني في حال قرّروا البقاء في بلدانهم.
ماذا عن المحتوى الصحافي؟
على مدى يومين كان النقاش الدائر عن مبادرات هي بمثابة بصيص أمل للمحتوى العربي، ومنها ما عرضه مدير إدارة تكنولوجيا المعلومات والإتصالات في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ALECSO ألكسو، ومقرّها في تونس الدكتور محمد جمني. وأيضًا تجارب معهد تكنولوجيا المعلومات جمهوريّة مصر العربيّة قدَّمته الدكتورة هبة صالح، أما تجربة سوريا فقدَّمتها الدكتورة أميمة الدكّاك وهي تستعرض إستخدام الأوامر الصوتيّة للتحكم بالحاسوب، وكان عرض خاص تناول تطبيق مبادرة دبي الحكوميّة للتدريب الذكيّ.
لا معرفة أو تنميّة من دون حريّة وهذه الأخيرة شرطها يقع في حريّة الرأيّ والتعبير أو في الصحافة والتواصل. لذلك خصّصت الجلسة ختاميّة حملت عنوان “المحتوى الصحافي بين البيئتين التقليديّة والرقميّة: الفرص والتحديّات” أدارها مدير أوّل إدارة الأبحاث في الإدارة المركزيّة للعلاقات الدوليّة التابعة لوزارة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات في جمهوريّة مصر العربيّة والمسؤول عن ملف المحتوى الرقميّ ريمون ماهر كامل وتحدث فيها الكاتب والناشر هشام قاسم فقال: الإعتقاد الذي كان سائدًا منذ عشر سنوات والذي قضى آنذاك بزوال الصحف الورقيّة، تحطّم على صخرة الإيرادات بعد أن بقيت النسخة الورقية صاحبة 90 بالمئة من إيرادات المؤسّسة الصحافيّة. بينما لم تتجاوز إيراداتها من النسخة الرقميّة الـ10 بالمئة، هذه حقيقة دعمها مؤشرّ دولي آخر أكّد وجود إرتفاع كبير في نسب قراء الصحافة الورقيّة في دول العالم الثالث”.
وأكّد مدير مشروع الأهرام الرقميّ حاتم هزاع فكرة قاسم، مع العلم أن هذا يجب أن يدفع الصحافة إلى تطوير أدائها وتقديم قيمة مضافة وهي ما يعرف بـ”ما وراء الخبر” قال هزاع: “لم يعد لدينا صراع بين الصحافة الورقيّة والرقميّة فقط بل أصبح لدينا داخل الرقميّة صراع بين المؤسّسات الصحافية وصحافة المواطن التي وصلت إلى درجة لا بأس بها من المهنيّة، ولكنها ما زالت بحاجة إلى المزيد من بناء القدرات والتدريب على سلامة المصدرالإخباريّ”.
من جهتي ركزت خلال عرضيّ على الصحافة الرقميّة وديناميّة الخبر خلال عصر الويب 2.0، حيث إنتشار المعلومة في البيئة الرقميّة لا يشبه طريقة نشره في البيئة الإعلاميّة التقليديّة، أو ما كان يعرف بالإعلام الجماهيريّ. قلت: لم يعد الخبر عاجلًا بل أصبح مغرّدًا، أو محادثة تفاعليّة وردود فعل مذهلة ديناميّتها مستمرّة”. وكان التطرّق إلى مستقبل الصحافة، النماذج الجديدة التي ظهرت ومنها صحافة المواطن وصحافة التخصّص بالمحتوى…الخ كما عرضت تجربة منظمة تبادل الإعلام الاجتماعي” SMEX عبر موقع NetHawwal وقد بدأت بالتعاون مع صحافيين رقمييّن عرب منذ يوم 26 تشرين الأوّل-أكتوبر 2015، وهي تجربة نموذجيّة في المنطقة تعتمد التدريب الإلكترونيّ باللغة العربيّة (8 أسابيع) لدعم الصحافيّين الشباب والمستقلّين وتعريفهم على وسائط جديدة لإنتاج التقارير من خلال مناقشة دوريّة عبر الإنترنت تشمل مواضيع مثل المصادر المفتوحة، أخلاقيّات المهنة والنشر، مصادر الأمن الرقميّ وكيفية حماية أنفسهم… كما عرضت تجربة موقع تشارك كمكتبة تفاعليّة للمواطنين الرقميّين.
في كلّ عام تختار الدوريّة الأميركيّة (Technology Review) أهم التكنولوجيّات التي قد تساهم في تغيير طبيعة العمل والحياة المدنيّة. ويكفي مراجعة الخيارات التي قدمتها الدوريّة خلال العقد الماضي، لندرك أنها وبأكثريّة ساحقة تكنولوجيّات لا تحتوي على مكوّنات ماديّة قيّمة بل هي عبارة عن برمجيّات ذكيّة، حاسوبيّات تخزين، برامج للشبكة العنكبوتيّة هواتف ذكيّة وإلكترونيّات… ونحن بحاجة ماسّة إلى ذلك: قصّص نجاح عربيّة مماثلة، فمع ما نملكه من موارد بشريّة وبنى تحتيّة تمكينيّة للعديد من الدول نستطيع أن نستخدم المعرفة تشاركيًا حتّى لا يصبح ما نصرفه على التربيّة هدرًا للأموال وللفرص بسبب الإهمال.