خارطة المناطق اللندنية الخاضعة لغرامة الاكتظاظ( الصورة من هيئة النقل في لندن في بادبستر، 2018)
في العام 2008 وخلال إقامتي في لندن أثناء دراسة الماجستير تعرّفت للمرة الأولى على مفهوم “الجيوفانسينغ” (Geofencing)، أو ما يمكن تعريبه عبر مصطلح “التأطير الجغرافي” الذي كان متّبعاً في سياسات النقل لتسهيل حركة المرور المكتظة.
كان على كلّ سيارة مسجّلة في لندن الكبرى أن تضع لاصقاً رقمياً يمكن قراءته عبر شبكة من الماسحات الرقمية الموضوعة على أعمدة الإنارة أو الإشارات الضوئية في كل الشوارع تقريباً، ما يمكّن السلطات من قراءة البيانات الجغرافية والشخصية للسائقين وحركة سياراتهم ومواقعها.
كانت حجة سلطات النقل أنّها تقدّم شبكة مواصلات عامة تُعتبر من الأفضل عالمياً من حيث الفعالية والتغطية الجغرافية، بينما كان الهدف الأساس هو تغريم القاطنين في الدوائر البعيدة عن المركز إذا ما أرادوا استعمال سياراتهم للتوجه إلى وسط المدينة أو المراكز الأكثر اكتظاظاً.
بغضّ النظر عن البعد الإقصائي لهذه التقنية التي تغرّم الفئة الأفقر تقريباً (المقيمون في الضواحي)، سننطلق من سياسة سلطات النقل في لندن لمناقشة التأطير الجغرافي للأفراد عبر توثيق تنقلاتهم الجغرافية من خلال تقنية “نظام التموضع العالمي” (GPS)، وحصرهم جغرافياً عبر التعقّب الإلكتروني، وبالتالي تسهيل استهدافهم عبر إجراءات تأديبية كما ذكرنا سابقاً أو عبر مروحة واسعة من الأمور تبدأ بالإعلانات الموجهة لأفراد متواجدين في مناطق بعينها.
ما هو التأطير الجغرافي؟
يشبه ذلك عندما تدخل اليوم مجمعاً تجارياً ولديك على صفحتك منشور كتبتَه سابقاً على فيسبوك بأنّك تنتظر مولوداً، فيأتيك إشعار (عبر محرّك غوغل) بالعروض التي تقدّمها متاجر حاجيات الأطفال. يتكرّر الموضوع عينه إذا ما دخلت إلى مقهى أو مطعم حيث يرسل لك محرّك “غوغل” إشعارات لتقييم الخدمة أو جودة الأطعمة.
أصبح التأطير الجغرافي اليوم يحصل عبر الهواتف الذكية، وهي التكنولوجيا المحمولة الأكثر استخداماً على مستوى العالم. فهي ترافق حركة حاملها أو موقعه الجغرافي حتى أثناء النوم فتتحوّل بذلك إلى أجهزة رصد وتوثيق وتعقّب لتنقلاته الجغرافية ونمط حياته أيضاً (ساعات وأماكن العمل، أماكن الترفيه، أوقات العلاج أو الاستشارة الطبية… إلخ).
بالمحصلة، تنتج هذه الأجهزة والتطبيقات ملفاً شخصياً عن كلّ مستخدم وتضعه في خدمة طرف ثالث عبر بروتوكولات استعمال التطبيقات الإلكترونية. وهذه الأخيرة بدورها تجمع وتعالج البيانات قبل أن تبيعها لطرف رابع قد يكون من المعلنين أو من الأجهزة الرقابية الحكومية أو من شركات البيانات كما في حال فيسبوك مع شركة كامبريدج أناليتيكا.
لإدراك هول ما حصل، ينبغي لنا التنبّه إلى أنّ فيسبوك تضمّ حوالي ملياري مستخدم، أي ما يساوي ثلث البشرية تقريباً، إضافة إلى أنّها تمتلك البنية التحتية للتأطير الجغرافي لكل هؤلاء. ينسحب الموضوع عينه على تطبيقات كـ”أوبر” مثلاً، والتي طوّر فريق من مهندسيها منهجيةً خاصة بالشركة لتحسين نوعية وجودة التعقب والترصد الإلكتروني بحيث يمكن للشركة تحديد الموقع الجغرافي لأي مستخدم في أيّ منطقة في العالم تقدّم “أوبر” فيها خدماتها ولدرجة المتر المربع الواحد.
مثلاً، سيكون من الجميل أن تقوم بهذه التجربة: اطلب سيارة “أوبر”، وغيّر موقعك لبضعة أمتار ثمّ لاحظ الإشعار الذي سيصلك. أو مثلاً، اطلب سيارة عبر التطبيق بعد أن تبتعد عن منطقة تضمّ أماكن ترفيه في ليلة من ليالي عطلة نهاية الأسبوع، وتابع كيف سيتغير السعر التقديري للرحلة.
ما العمل؟
أمام التطوّر التقاني الذي نشهده اليوم والذي يعتمد التأطير الجغرافي الرقمي للأفراد، لا داعي للهلع الجماعي، ولا داعي للخوف.
يقول الممثل توم هانكس في فيلم “ذا سيركل” (The Circle) الذي يحاكي التقدم التقاني واستخدامات تطبيقات التواصل الاجتماعي: “أصبحت الخصوصية من التاريخ”. ينطبق ذلك أقلّه على المستوى التقني وكذلك في الوضع القانوني الحالي، والذي لا يضمن حقوق المستخدمين بما يمكّنهم من مواجهة قوة شركات التكنولوجيا الكامنة في منصّات تواصل اجتماعية أو خدمات نقل وإيواء مؤقت وتوصيل الأطعمة.
ولكن ثمّة الكثير ممّا يمكن فعله؛ علينا في المقام الأول أن نعترف بوضوح بأنّنا كأفراد ننتج سلعة أساسية في اقتصاد المستقبل، وهذه السلعة تُسمّى “البيانات الفردية” والتي تشكّل مجتمعة (من ملايين الأفراد) ما يُعرف بـ”البيانات الكبرى” (Big Data). وهذه السلعة التي ننتجها بأجسادنا وتستولي عليها الشركات وإنتاجها كسلع تستخدم لتزيد من تدجيننا في السوق الرأسمالية وتوسيع رقعة الاستغلال.
بالإضافة إلى ذلك، علينا التنبه إلى ضرورة العمل المباشر والفوري على زيادة الوعي لدى الجهات الحقوقية و الرقابية والتشريعية في الميدانين العام والخاص. وذلك من أجل إعادة البحث في مجمل منظومتنا الحقوقية بغية تطوريها لكي تتمكّن من هضم التطور التكنولوجي الحاصل وتحاول استيعابه بما يحمي حقوق الناس ويمنع استغلالها.
وأخيراً، مع تطوّر مفهوم “إنترنت الأشياء” اليوم أصبح التأطير الجغرافي أمراً يدخل في الأجهزة المنزلية المسماة ذكية (التلفزيونات، البرادات، ماكينات صناعة القهوة، الأجهزة الصوتية، كاميرات المراقبة المنزلية، أجهزة التدفئة… إلخ). وهذا ما يأخذ مفهوم التأطير الجغرافي إلى أبعاد أخرى لربّما لم ندركها بعد.
ربيع جميل، باحث في اقتصاد المنصّات الإلكترونية.