يوم الاثنين في 23 يوليو/ تموز أوقف الأمن العام اللبناني الصحافية هاجر كنيعو عند وصولها إلى مطار رفيق الحريري الدولي، قادمةً من دبي. اقتيدت كنيعو إلى غرفة صغيرة بانتظار نتيجة النشرة القضائية من الأمن العام، وصودرت أجهزتها (هاتفان وجهاز كمبيوتر محمول)، وبقيت محتجزة لساعات قبل أن يُفرج عنها، وفق ما وصفت الحادثة.
ليست هذه الحادثة سوى واحدة من حالات احتجازٍ وتوقيف عديدة شهدناها في السنوات الأخيرة، فقبل نحو 3 أشهر، وتحديداً يوم الخميس 29 أيار/مايو الماضي، داهم عناصر من الأمن العام منزل الصحافي والأكاديمي وسام سعادة، وصادروا حاسوبه وهاتفه وجواز سفره، واستدعوه للتحقيق. وبعد انتهاء جلسة التحقيق التي حُدّدت في اليوم التالي، أُطلق سراح سعادة وأعيدت إليه أغراضه بعد إخضاعها لفحصٍ “فنّي”.
شهد لبنان ازدياداً في هذه الممارسات مع انطلاق تظاهرات 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، تصاعدت حالات ضبط الأجهزة من قبل القوى الأمنية، مما يشكّل انتهاكاً فاضحاً للحق في الخصوصية ومخالفة للإطار القانوني لعمليات ضبط الأجهزة.
مخاطر مُضاعفة
يطرح هذا النوع من هذه القضايا إشكالية أساسيّة تتعلّق بحجم ونوع الانتهاكات التي قد يتعرّض لها المواطن عند ولوج الأجهزة الأمنيّة إلى أجهزته التي تحتوي على معلوماته الشخصية، وصوره الخاصة، ومحادثاته الشخصيّة أو المهنيّة، وبياناته الصحيّة والماليّة؛ فلهذه المعلومات خصوصيّة كبيرة يجب أن تكون لحمايتها أولوية مُطلقة. علاوة على ذلك، لا بدّ من التشديد على أنّ مصادرة هذه الأجهزة دون الالتزام بالضوابط القانونية يعرّض الأفراد لخطر الابتزاز والتشهير والانتهاك.
على المستوى الحقوقي، يؤثّر ضبط الأجهزة الالكترونية سلباً على مستوى حرية الرأي والتعبير في البلاد، فاستسهال القيام بهذه الممارساتٍ من شأنه أن يزيد من الشعور بالقلق وغياب الخصوصية، وقد يؤدّي إلى المزيد من الرقابة الذاتية خوفاً من الملاحقة الأمنيّة. وتتضاعف هذه المخاوف عندما تطال الصحافيين/ات، لأنّ ضبط أجهزة الصحافي/ة قد يؤدّي إلى كشف مصادره، الأمر الذي يعتبر انتهاكاً فاضحاً لحرية العمل الصحفي، فضلاً عن انتهاك مبدأ سرية المراسلات الشخصية، والأمن الرقمي للصحافي/ة نفسه.
المستوى القانوني
لا يحمي الدستور اللبناني الحق بالخصوصية بشكلٍ صريح، إلا أنّه يتضمّن أكثر من مادة يمكن الاستنتاج منها حرص المُشرع اللبناني على الحفاظ على الحق بالخصوصية. وفي مقدمة هذه المواد، تأتي المادة 14 من الدستور التي تُشير إلى أن “المنزل مصون ولا يجوز الدخول إليه إلا في الأحوال والطرق التي يعينها القانون”، ما يعني أن للمواطن الحق في حماية خصوصية منزله، ولا يجوز لأحد، بما في ذلك السلطات، أن يدخل إليه تعسفاً. كما أن المادتين 13 و8، تنصّان بشكلٍ غير مباشر على حق الخصوصية.
و كإطار قانوني للخصوصية، يأتي القانون 140/1999 ليتحدّث عن الحق بسرية المخابرات التي تُجرى بأي وسيلة من وسائل الاتصالات، ويشمل ضمناَ كلّ ما هو إلكتروني، بحسب الباحثة القانونية في “سمكس” ماريان رحمة. ويُعتبر القانون 81/2018، المعروف بقانون المعاملات الالكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي، أوّل نصّ قانوني يُذكر فيه مبدأ الخصوصية بشكلٍ غير مباشر ويتطرّق إلى حماية البيانات الشخصية.
من جهة أخرى، أعطى قانون أصول المحاكمات الجزائية، وتعديلاته عام 2001 الحقّ لقاضي التحقيق بتفتيش الأجهزة الإلكترونية، كما نصّ القانون 140 على الحق بسرية المخابرات ويُجيز التنصت والرقابة والاعتراض في حالات الضرورة القصوى، ويمكن أن يكون هذا الاعتراض من السلطة القضائية أو الادارية.
للمفارقة، وقّع لبنان على العديد من المعاهدات المرتبطة بشكلٍ وثيق بمسألة الخصوصية، تأتي في مقدمتها المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصّ على أنه “لا يجوز تعريض أحد لتدخّل تعسّفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو منزله أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه أو سمعته”، فضلاً عن المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقع عليه لبنان عام 1972، والتي تؤكّد أنّه ” لا يجوز إجراء أيّ تعويض تحكمي لا قانوني لأي إنسان في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله أو مراسلاته، ولا أي مساس لا قانوني بشرفه وسمعته”.
في هذا الصدد، تُشير رحمة إلى أنه “ينبغي تعديل المادة 123 من قانون المعاملات الالكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي، التي تتعلق بتنظيم محضر بكلّ عملية ضبط أو حفظ أو تحليل أو فحص أو نقل أو أي إجراء آخر يتعلق بدليل معلوماتي أو رقمي. وهدف التعديل هو إضافة قيود على عمليات الولوج إلى الأجهزة الشخصية والتفتيش فيها”.
وتشدّد على أنّ “المطلوب هو أن يصدر النائب العام التمييزي إرشادات واضحة حول شروط عمليات التفتيش في الأجهزة وضبطها، كما ينبغي نقل صلاحية الأوامر القضائية حصراً إلى قاضي التحقيق، لأنّ المدعي العام لا يزال طرفاً في الدعاوى القضائية، ما قد يؤدي إلى إصدار أوامر متحيّزة”. وتضيف رحمة مؤكّدة على ضرورة الامتناع عن مصادرة الهواتف والأجهزة الأخرى لدى استدعاء الأفراد للاستجواب، إلا في حال وجود أمر قضائي يستدعي ذلك.
وكانت منظمة “سمكس” قد نشرت في شباط/ فبراير 2019 تقريراً بعنوان “عمليات ضبط الأجهزة في لبنان: تقييم الإطار القانوني المتعلّق بعمليات ضبط الأجهزة“، وخلص إلى أن الإطار القانوني اللبناني يُعتبر مُبهماً وغير مناسب لحماية الحق في الخصوصية. في حين لا يزال الاجتهاد القضائي في هذا الموضوع غائباً. وفي الوقت الحالي، لا تُقدّر السلطات اللبنانية حرية التعبير والحق في الخصوصية، ما قد يؤدي إلى زيادة الرقابة ويُشير إلى تحوّل الدولة اللبنانية إلى دولة بوليسية.
وطالب التقرير في أبرز توصياته أن بوضع آليات مساءلة للتأكُّد من أنَّ الأجهزةِ الأمنية تحترم القوانين والأنظمة. وكذلك أوصى التقرير بضرورة مواصلة النضال من أجل حقوق الدفاع وإنفاذ المادّة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أمام كلّ السلطات القضائية. بالإضافة إلى الامتناع عن مصادرة الهواتف والأجهزة الأخرى لدى استدعاء الأفراد للاستجواب، إلّا في حال وجود أمر قضائي يستدعي ذلك.
الصورة الرئيسية تُظهر المخرجة اللبنانية كارول منصور تستخدم هاتفها.
تصوير: جوزيف عيد / وكالة الصحافة الفرنسية (أ ف ب)