كان متجر “نبيل نت” (Nabilnet) مؤسسة شهيرة وإسماً مألوفاً في بيروت، وكان يبيع أقراص الفيديو الرقمية (DVD) المقلّدة ويقدّم خدمة توصيل. إلّا أنّ هذا المتجر، كغيره في القطاع الذي كان مزدهراً في السابق، أُغلق نهائياً في آب/أغسطس 2021 بعد انخفاض رواج هذه الخدمات بشكل عام. فكيف أصبح الناس يستهلكون الوسائط الرقمية في غياب الخيارات ذات الأسعار المعقولة؟ وكيف تطوّرت القرصنة لتوفير الوسائط الرقمية للجمهور؟
تُعتبر منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا إحدى أقل المناطق حرّيةً من حيث استهلاك الوسائط الرقمية والوصول إلى الإنترنت كما هو موضّح في الخريطة أدناه. ولا يشير هذا الواقع إلى الرقابة المفروضة فقط، بل إلى القيود المتنوّعة على الإنترنت، بما في ذلك حظر المواقع الإلكترونية وانقطاع الإنترنت، ولا يمكن يمكن استهلاك الوسائط المحظورة أو الخاضعة للرقابة إلّا عن طريق القرصنة.
الوسائط الرقمية باهظة الثمن في معظم بلدان العالم
تعدّ القرصنة على الإنترنت ممارسةً قديمة وشائعة أخذت شكل تنزيل البرامج التلفزيونية والألعاب والبرمجيات والموسيقى بطريقة غير قانونية. فهذه الخدمات ووسائل الترفيه تفوق، بسعرها الكامل، القدرة الشرائية للشخص العادي. أمّا بالنسبة إلى الشركات، فتسبّب القرصنة انخفاضاً في إيراداتها. ولكن من المنظور النقدي، لا بدّ من السؤال عن التكلفة الحقيقية، وما إذا كان الأشخاص الذين يشترون المنتجات المقرصنة كانوا ليشتروها بسعرها الكامل أساساً.
الجواب المرجّح أوّلاً هو أنّ المستهلكين الذين يشترون المنتجات “المقلّدة” لم يكونوا ليشتروها بسعر التجزئة الكامل. فمتوسّط الرواتب، خارج دول مجلس التعاون الخليجي الغنية، لا يكفي المستهلكين/ات لشراء منتجات الوسائط بأسعار التجزئة المُعتمدة في بلدان الشمال، لا سيما مع إضافات ضرائب الاستيراد ورسوم الشحن. وفي منظقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، يزيد بعض الموزّعين والمنافسين السعر عندما يحدّدونه.
ثانياً، أدّت أزمة غلاء المعيشة حول العالم إلى المزيد من الأعباء على ميزانيات الناس، كما زادت أسعار كل السلع والخدمات. وقد بدأت هذه الأزمة مع المشاكل في سلسلة الإمدادات إثر وباء كوفيد-19، ثم توسّعت بسبب المشاكل في الاقتصاد الكلي، بما في ذلك التضخّم الجشع. وتقوم الكثير من الاقتصادات في بلدان منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا على احتكارات تتيحها الحكومة وعلى مرافق وخدمات عامة فارغة.
الاتّجاه نحو استهلاك وسائط رقمية بالكامل
مع التطوّر المستمرّ للمجال الترفيهي، تتطوّر أيضاً تفضيلات المستهلكين وتتغيّر. يوضّح الرسم البياني أدناه انخفاضاً حاداً في استهلاك أقراص Blu-ray مع ازدياد خدمات البث المتاحة وانخفاض إنتاج الوسائط المادية.
إثباتاً لذلك، أعلنت شركة “مايكروسوفت” (Microsoft) أنّها ستلغي محرّك الأقراص الفعلي في الإصدار الجديد من Xbox. كما انخفضت مبيعات أقراص DVD ومشغلات الأقراص أكثر بكثير مما كانت عليه في السابق، وأصبحت تقتصر على المستهلكين من المستوى العالي، على غرار مشغلات الأسطوانات.
تعهّدت الخدمات الرقمية بتخفيض أسعارها من خلال إلغاء تكاليف الإنتاج المادي والتوزيع. على سبيل المثال، قدّمت منصة “نتفليكس” (Netflix) وصولاً غير محدود إلى مكتبة ضخمة من الأفلام والبرامج، وأتاح تطبيق “سبوتيفاي” (Spotify) الاستماع إلى عدد هائل من الأغاني بدون الحاجة إلى شراء الألبومات. ولكن، في الواقع، أزالت هذه الخدمات أعباء استخدام الوسائط المادية واعتمدت خطط دفع مُيسّرة بدون تقليل الكلفة فعلياً.
على مدى السنوات القليلة الماضية، ارتفعت أسعار الوسائط الرقمية بشكل ثابت. وفي العام الماضي تحديداً، تجاوز سعر خدمات البث، مثلاً، سعر الاشتراك في التلفزيون الكبلي لأوّل مرة. ولا يمكن القول إنّ هذا التحوّل لم يكن متوقّعاً، لأنه كان المخطط منذ البداية. وفي مجال بث ألعاب الفيديو، كانت الأرباح الأولية ضئيلة جداً، كما كان الحال مع “نتفليكس” أو حتى تطبيق “سبوتيفاي” الذي واصل العمل بخسارة لمدة طويلة. ففي البداية، جذبت هذه الشركات العملاء من خلال أسعارها المنخفضة، واستقطبت صناع المحتوى بالمدفوعات القيّمة، ما ساعدها في الهيمنة على السوق. بعد تحقيق ذلك، بدأت بالتغييرات لتحقيق أقصى قدر من الأرباح.
للوصول إلى الربحية المُستهدفة، تلجأ هذه الشركات إلى الطرق الاستغلالية لخفض التكاليف وزيادة الأسعار. وتقلّص التكلفة بشكل خاص من خلال دفع مبالغ ضئيلة لصناع المحتوى. فمن المعروف، مثلاً، أنّ تطبيق “سبوتيفاي” يدفع بعض البنسات القليلة مقابل بضع مئات عمليات البث للأغنية. أما منصة “نتفليكس”، فدفعت مبالغ زهيدة لكتّاب الأفلام ثم تخلّفت عن دفع إتاوات حقوق الملكية المستمرّة بزعم أنّ الكتّاب ليسوا سوى مطوّرين مؤقتين. تستغلّ هذه الشركات إذاً كل من منتجي الوسائط ومستهلكيها. وقد زادت أسعارها بشكل كبير لتصبح غير مستدامة في معظم بلدان العالم، ولم تعد توفر أي تكاليف في بلدان الشمال.
ملكية الوسائط الرقمية
هل يمكن شراء ملف من “أمازون” أو “آبل”؟ بعد قراءة الشروط والبنود، تبيّن أنّ الجواب هو لا. لا يمكن تنزيل ملف أو استخدامه خارج المنصة، فإذا توقفت هذه المنصة العمل، يخسر المستخدمون إمكانية الوصول إلى المنصات. وتوضّح شروط الترخيص بصراحة أنّ المستخدمين لا يملكون الملفات، بل يشترون إذن الوصول إليها فقط. في حال مواجهة مشاكل في حقوق الملكية، أو في حال أزالت الشركة الملف، لن يعود من الممكن الوصول إليه. في ما يلي بعض الأمثلة من بنود الخدمة لعدة شركات:
- أمازون برايم (Amazon Prime)
ط. توافر المحتوى الرقمي المقدَّم على أساس الشراء. سيظل المحتوى الرقمي المقدَّم على أساس الشراء متاحاً لكم بشكل عام لتنزيله أو بثه من خلال “الخدمة”، حسب الاقتضاء، إلا أنه قد يصبح غير متاح بسبب قيود الترخيص المحتملة لموفّر المحتوى أو لأسباب أخرى، ولن تكون “أمازون” مسؤولة تجاهكم إذا أصبح هذا المحتوى غير متاح لمزيد من عمليات التنزيل أو البث.
- غوغل بلاي (Google Play)
في بعض الحالات (على سبيل المثال، عند فقدان غوغل للحقوق المعنية أو توقّف الخدمة أو المحتوى أو التعرض لمشاكل أمنية خطيرة أو حدوث انتهاكات للبنود السارية أو القانون المعمول به)، يجوز للشركة إزالة التطبيق من جهازكم أو التوقف عن منحكم إمكانية الوصول إلى منتجات معينة سبق أن اشتريتموها.
- بلاي ستايشن (PlayStation)
8.16 الوصول إلى المحتوى الذي اشتريته. بعد تأكيد معاملتكم، يمكنكم الوصول إلى محتوى شبكة “بلاي ستايشن” (PlayStation Network) الذي طلبتموه، وذلك من خلال الحساب الذي استخدمتموه لإجراء الطلب، مع العلم أن المحتوى يخضع لبنود الاستخدام المنطبقة. تتحمّلون (كمستخدمين/ات) كل مخاطر فقدان إمكانية الوصول إلى المحتوى أو خسارة المحتوى الذي نزّلتموه، بما في ذلك ما يحدث بسبب تلف في الملف أو عطل في القرص الصلب. وأنتم المسؤول الوحيد في حال اخترتم عدم تنزيل المحتوى أو استخدامه قبل إزالته أو في حال انتهاء صلاحية الترخيص، كما أنّكم المسؤول عن توفير مساحة التخزين باستمرار وعن الحفاظ على المحتوى. لا تلتزم شبكة “بلاي ستايشن” (PlayStation Network) بتزويدكم بأي نسخ بديلة لأي سبب من الأسباب.
لعلّ المثال الأبرز على هذه الحالات هو عندما أزالت شركة “تايم وارنر” (TimeWarner) مؤخراً محتوى كبيراً من مكتبتها بما يسهّل الإعفاء الضريبي. وقد شملت عملية الإزالة هذه الوسائط القديمة والأفلام المنتجة حديثاً والبرامج التلفزيونية التي كانت جاهزة للإصدار. بشكلٍ عام، لجأت الشركة إلى إزالة الأعمال الفنية والترفيهية للمطالبة بها في التصريح الضريبي على أنّها خسائر، بدلاً من توليد الربح من استخدامها.
السيطرة على المحتوى
لاحظنا إذاً أنّه من الممكن إزالة المحتوى الذي يملكه المستخدم، فما النواحي الأخرى التي يتحكم فيها مقدّمو الخدمات أيضاً؟ يمكنهم، مثلاً، تعديل الوسائط بدون إشعار المستخدم أو الحصول على موافقته. وقد حصل ذلك عندما أزيل فيلم “باربي” (Barbie) المثير للجدل أو أُجّل عرضه من صالات السينما في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا في صيف 2023.
ادّعت السلطات بأنّ الفيلم يروّج “للمثلية الجنسية وغيرها من الانحرافات الغربية”، واعتقد آخرون أنّ دَور الممثلة المتحوّلة جنسياً هاري نيف وممثّلين آخرين من مجتمع الميم مثّل السبب الرئيسي وراء عدم عرض العمل. في نهاية المطاف، عُرض الفيلم في صالات السينما.
في بلدان الشمال أيضاً، من الشائع فرض رقابة على الوسائط الرقمية بدون سابق إشعار. فقد فرضت شركة “ديزني” (Disney) رقابة على عدد كبير من أعمالها المتاحة على منثّة “ديزني بلاس” (Disney+)، حتّى أنّها عدّلت حلقات من مسلسل بعد إصدارها ببضعة أيام. وتترواح التغييرات من تعديلات بسيطة لإصلاح بعض الأخطاء في الألوان مثلاً إلى فرض التغييرات على المزاح السياسي في برامج مثل “ذا سيمبسونز” (The Simpsons) لجذب جمهور أوسع. فقد غيّر هذا البرنامج، مثلاً، نكتة موجّهة ضد الكنيسة الكاثوليكية، لتصبح موجّهة ضد الكنيسة بشكل عام، ما فرّغها من معناها.
من المقلق أيضاً أنّ هذه المنصات زادت التنسيق بينها وبين الحكومات الإقليمية. وقد قرّرت منصة “نتفليكس” مثلاً بثّ إصداراتٍ محددة فقط من الأفلام الهندية بعد أن نظر فيها المجلس المركزي لشهادة الأفلام والذي “يميل بشكل متزايد إلى تجريد الأفلام من الإشارات والتلميحات السياسية“. فتفرض كل الشركات في المجال تقريباً، بما في ذلك “نتفليكس”، حداً من الرقابة على المحتوى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما تستخدم شركة “ديزني” موقعاً إلكترونيًا ثانيًا مستقلًا في المنطقة تكيّف من خلاله المحتوى والمكتبة لمراعاة الثقافة المحلية.
في حدثٍ مماثل، ألغت “نتفليكس” بالكامل برنامجاً يمزج بين السياسة والكوميديا، وهو “دليل الوطنية السريع” (Patriot Act) للممثّل حسن منهاج. فبعد بث حلقة تركّز على المملكة السعودية وتنتقد البلاد وولي العهد الحالي، قدّمت المملكة شكاوى رسمية ضد هذا الموضوع. وفي الهند أيضاً، تفرض خدمات البث رقابة ذاتية لإرضاء طرف اليمين في الحكومة.
تمارس معظم شركات التكنولوجيا التنظيم الذاتي للمحتوى لتجنّب الرقابة الرسمية، ومن المتوقّع أن يستمرّ مقدّمو الوسائط في ممارسة الرقابة الذاتية في بلدان أخرى. ومع هذه المشاكل المتنامية والرقابة المتزايدة على الفن والوسائط، هل أشرفنا على دخول عصر جديد من القرصنة الرقمية؟
حوافز القرصنة
تمثّل القرصنة ممارسة صعبة وغير قانونية، وهي قائمة على كمٍّ كبير من البيانات، لذا، لا بد من توفّر حافز قوي لممارستها. ويتمثّل الدافع الرئيسي في قلّة الحواجز أمام القرصنة الرقمية، مع العلم أنّ الخليج العربي الغني يواجه تحدياتٍ مختلفة عن تلك في الدول الأقل ثراءً في المنطقة.
في حين أنّ الخليج العربي يملك البنية التحتية اللازمة لإتاحة الوسائط المُقرصنة، إلّا أنّ إمكانية الوصول إلى الوسائط تخضع لسيطرة الحكومة على المساحة الرقمية. فالحكومات الخليجية تتمتّع بالقوة القانونية لحظر القرصنة، مع أنّها غالباً ما تتغاضى عن استخدام هذه السلطة. وقد أصبحت الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) غير قانونية في معظم المنطقة، على الرغم من الثغرات القليلة والمنافذ التي تتيح استخدامها.
أمّا الدول الأقل ثراءً، فتختلف فيها أنظمة الإنترنت عن دول الخليج، إذ تفتقر معظمها إلى البنية التحتية والقدرة على تحمل تكاليف الاستهلاك الرقمي الكبير.
مع ذلك، تتوفر بعض الحلول البديلة. نشأ في لبنان مثلاً عددٌ من محطات الإنترنت غير القانونية ومن موفّري خدمات الإنترنت بالاستناد إلى هذه المحطات. وعلى الرغم من تفاوت سرعة الإنترنت وجودتها، عادةً ما تكون كافية للمستخدمين العاديين. ولكن، تجدر الإشارة إلى أنّ الخدمات غير القانونية تكون عادةً غير متسقة، ولا يمكنها كلها توفير إنترنت قوي بما يكفي للبث أو حتى للقرصنة.
مستقبل القرصنة
من الصعب جداً توقّع التطوّر المستقبلي للقرصنة في العصر الرقمي، ولكن هناك ثلاثة اتّجاهات مرجّحة: العودة إلى عمليات التقليد والتهريب، وإعادة إحياء “التورنت”، ونشوء نماذج جديدة للقرصنة.
في السيناريو الأوّل، قد تعود عمليات التقليد والتهريب على يد بائعين يقدّمون المحتوى المقرصن على أجهزة تخزين. وسيحتاج المشترون إلى اتّصالٍ بالإنترنت، وستكون تكلفة المحتوى المقرصن عالية، ما يؤدّي إلى استهداف الأفراد أو الشركات الميسورة فقط.
من المحتمل أيضاً نشوء شبكات قرصنةٍ شخصية، ولكنّها تتطلّب توفّر ظروف مثالية، مثل البنية التحتية ذات التكلفة المعقولة والتطبيق القانوني الضعيف. ونظراً إلى تزايد حجم ملفات الوسائط والقدرة المحدودة لشبكات الإنترنت، يصبح هذا الاحتمال بعيداً لمعظم الفئات.
من المرجّح أكثر أن تنشأ منظومات قرصنة جديدة، مثل تقاضي الرسوم مقابل منح إمكانية الوصول إلى تخزينٍ سحابي مشترك أو بث الخدمات. وتَقلق مجموعات مكافحة القرصنة أيضاً إزاء استنزاف شبكات تسليم المحتوى (CDN)، إذ يمكن للقراصنة اعتراض بث المحتوى دون ترك أيّ أثر.
قد يقدّم المستقبل نظام استهلاك جديداً وفريداً للوسائط في العصر الرقمي. ولكن من جهة أخرى، يمكن أن يقرّبنا هذا النظام من ماضينا مع اعتماد التقنيات الرقمية القديمة أو التناظرية. وقد شهدنا مؤخراً رواج الوسائط منخفضة الدقة، مثل أشرطة الفيديو المنزل (VHS) وأسطوانات الفينيل التي تُشعر المستخدمين بحنينٍ إلى الماضي. وعلى أي حال، يبدو أنّ القرصنة ستستمرّ بشكل من الأشكال، مدفوعةً برغبة قوية في إتاحة المحتوى.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.