في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، كان طفلٌ صغيرٌ يبلغ من العمر ستّ سنوات في لندن غارقاً في لعبة ألغاز عبر الإنترنت، عندما قُطع تفاعله بإعلانٍ يظهر “مسلّحين من حركة حماس وعائلات إسرائيليّة مرعوبة”. بحسب والدة الطفل، كان هذا المشهد كفيلاً بدبّ “الصدمة” و”الاضطراب” لديه.
يعدّ هذا الإعلان، الذي يربط بين ذبح الأطفال وحركة حماس، واحداً من مئات الإعلانات التي أطلقتها إسرائيل كجزءٍ من دعايةٍ مُمنهجة.
أكّد مدير مكتب الدبلوماسيّة الرقميّة في وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة، ديفيد سارانجا، أنّ “هذه اللقطات هي جزءٌ من حملةٍ دعائيةٍ أوسع نطاقاً تقوم بها وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة […]، التي أنفقت 15 مليون دولار على الإعلانات عبر الإنترنت منذ الهجوم الذي شنّته حركة حماس في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر”.
على مدار العام المنصرم، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيليّة وعددٌ من وسائل الإعلام الغربيّة أكاذيب باتت مفضوحة اليوم، تدّعي فيها أنّ حركة حماس قامت بقطع رؤوس أطفالٍ وإحراقهم، كما مارست تضليلاً إعلامياً استهدف العاملين/ات في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).
تشكّل الحملات المضلّلة التي تشنّها إسرائيل حول حصارها وجرائمها في غزّة جزءاً لا يتجّزأ من استراتيجيّةٍ شاملةٍ لنشر الدعاية تُعرف بـ “هاسبارا“، وهو مصطلحٌ عبريٌّ يعني “التفسير أو الشرح” ويشير إلى جهود العلاقات العامّة التي تبذلها إسرائيل لتعزيز صورتها وتبرير أفعالها على الساحة الدوليّة.
ومنذ بدء الإبادة الجماعيّة في غزّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، توجّهت الحملات الدعائيّة الإسرائيليّة نحو الفضاءات الرقميّة بشكلٍ متزايد، إذ ينشر الاحتلال إعلاناته على منصّاتٍ مثل “فيسبوك” و”غوغل” وغيرها من المنصّات التي تعزّز السرديّات المؤيّدة لإسرائيل، والتي غالباً ما تقلّل من أهميّة الحقائق المتعلّقة بجرائم الحرب المرتكبة في غزّة أو تحرّفها.
وقد زادت إسرائيل وحلفاؤها من جماعات المناصرة بشكلٍ ملحوظ نفقاتهم على وسائل التواصل، مستهدفين خاصّةً الفئات الأصغر سنّاً بمحتوى يُظهر تصرّفات اسرائيل كأعمالٍ دفاعيّة ويصوّر الفلسطينيين/ات، وليس حركة حماس وحدها، كـ “إرهابيّين/ات يجب القضاء عليهم.”
يتضمّن ذلك رعاية إعلاناتٍ ومنشورات مضلّلة، بالإضافة إلى شراكات استراتيجيّة مع مؤثّرين/ات يعملون على نشر رسائل مؤيّدة لإسرائيل. وتحت قيادة منظّمة “حقائق من أجل السلام” (Facts for Peace)، تجاوزت نفقات إسرائيل على الحملات الدعائيّة على تطبيقات “ميتا” وحدها 370 مليون دولار، بهدف مهاجمة الحركة المؤيّدة لفلسطين.
ونشرت الشركة، التي حصد محتواها أكثر من 21 مليون مشاهدة، مقاطع فيديو لا تفصل بين الدعم لفلسطين والدعم لحركة حماس.
بالنسبة لإسرائيل، يُعتبر التأثير في الرأي العام في أوروبا وأميركا قضيّةً حيويّةً لاستمراريّة وبقاء مستعمراتها على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، إذ يعتمد استقرارها وأمنها الاقتصاديّين على الدعم المستمرّ، سواء المالي أو العسكري أو الدبلوماسي، الذي تحصل عليه من الولايات المتّحدة ومن حلفاء غربيّين آخرين.
منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، قدّمت الولايات المتّحدة وحدها لإسرائيل 17.9 مليار دولار على شكل مساعداتٍ عسكريّةٍ سنويّة. وأطلقت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة 75 إعلاناً متنوعاً على “يوتيوب”، يحمل بعضٌ منها محتوى قاسياً. وقد حصدت هذه الإعلانات أكثر من أربعة ملايين مشاهدة على منصّة “إكس”، مما يعكس عمق الاستثمار المالي الذي رُصد لهذه الحملة الدعائيّة.
أثار هذا الأمر استياء عددٍ من مجموعات المجتمع المدني، التي بدأت تشكّك بالسياسات المعتمدة في منصّات التواصل بشأن الإعلانات السياسيّة، والتي تتيح نشر هذا النوع من المحتوى.
من بين هذه الإعلانات المثيرة للجدل التي نشرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية على منصّة “إكس”، ظهر إعلانٌ يتضمّن صوراً لمنازل مشتعلة، يدّعي أنّ حركة حماس هي المسؤولة عن حرقها، وحرق الأشخاص في داخلها. حقّق هذا المنشور 8.5 مليون مشاهدة على الرغم من انتهاكه لسياسةٍ تحظر على وسائل الإعلام التابعة للدولة شراء الإعلانات. وأثار بعض المراقبين/ات تساؤلاتٍ حول نزاهة شركة “إكس”، خصوصاً في ظلّ الدعم الواضح الذي أبداه إيلون ماسك للنظام الإسرائيلي.
كما تضمّنت بعض إعلانات “يوتيوب” مقاطع فيديو يمكن تفسيرها كتحريض على العنف. إذ احتوى أحدها على العبارة التهديديّة التالية: “ستتّخذ إسرائيل كلّ التدابير اللازمة لحماية مواطنينا من هؤلاء الإرهابيين الهمجيّين”. وهذا يتناقض مع سياسة الإعلانات السياسيّة الخاصّة بـ “يوتيوب”، التي تمنع أيّ محتوى عنيف “يشجّع على ارتكاب أعمال عنف“.
وبالنظر إلى طريقة تعامل شركة “يوتيوب” مع الإعلانات الروسيّة في خلال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث حظرت “ميتا” وسائل الإعلام الحكوميّة الروسيّة من القيام بحملاتٍ تحقّق الربح بسبب المعلومات الخاطئة والضغوط لوقف التحقّق من المعلومات، يتّضح اتّباع “ميتا” لمعايير مزدوجة في كيفيّة تطبيق سياساتها على الكيانات التابعة للدولة التي تنتهكها.
وقد أعرب سام جيفيرز، من مجموعة “من يستهدفني” (Who Targets Me)، وهي منظّمة تدعو إلى شفافية الإعلان السياسي، عن قلقه تجاه السماح للحسابات التي تفتقر إلى سجلٍّ سابقٍ بإطلاق حملات إعلانيّة ضخمة تتناول قضايا سياسيّة حساسة.
في إطار صراعٍ مسلّح، يتعيّن على المنصّات الرقميّة اعتماد سياسات مُعدّة بعناية لتنظيم الإعلانات الإلكترونيّة، والحدّ من انتشار خطاب الكراهية والمعلومات الخاطئة؛ فقد يؤدّي ذلك إلى عواقب وخيمة على الأرض.
تحمل سياسات الإعلانات الخاصة بشركة “ميتا” غموضاً في تعريفها لما يُعتبر إعلاناً سياسياً. ومع ذلك، يذكر موقعها الإلكتروني أنّ الإعلانات التي تخالف سياساتها ستُزال وتُخزّن في مكتبة الإعلانات حتّى تلتزم بكلّ القوانين المعمول بها.
لا توفّر هذه المكتبة إمكانيّة الوصول إلى محتوى الإعلانات التي تمّت إزالتها، كما أنّها لا تحدّد أسباب إزالتها. وعلى الرغم من ادّعاء الشركة إعطاء الأولويّة للشفافيّة على السياسات التقييديّة، يبقى نهجها مُبهماً.
وقامت وكالة الإعلان التابعة للاحتلال الإسرائيليّ بدفع مبالغ لشركة “غوغل” مقابل إعلاناتٍ تتّهم الأونروا، وهي من الكيانات الأخيرة التي لا تزال تعمل وتقدّم المساعدات للنازحين/ات والجرحى والجائعين/ات الفلسطينيين/ات، بالارتباط بحركة حماس. وعند البحث عن “الأونروا” على المحرّك، يظهر للمستخدمين/ات أولّاً ترويجٌ للمنظّمة يقودهم إلى صفحةٍ تُفصِّل الادعاءات الكاذبة.
وفقاً لما صرّح به متحدّثٌ باسم “غوغل”، يُسمح للحكومات نشر الإعلانات على منصتَيْ “غوغل” و”يوتيوب” شرط امتثالها للسياسات الصارمة للإعلانات.
كما سمحت سياسات “يوتيوب” للحملة الدعائيّة الإسرائيليّة بنشر محتوى مليء بالكراهية أدّى إلى تصعيد التحريض على العنف ضدّ الفلسطينيين/ات. إذ تشير بيانات مركز شفافية الإعلانات في “غوغل” إلى أنّ قناة “يوتيوب” التابعة لوزارة الخارجيّة الإسرائيليّة روّجت لحوالى مئتي إعلان منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر.
ويطلب أحد مقاطع الفيديو المخصّصة لقصص ما قبل النوم للأطفال من المشاهدين/ات تقديم الدعم للعمل العسكريّ الإسرائيليّ.
وبالإضافة إلى المملكة المتّحدة وأوروبا والولايات المتّحدة، أطلقت الجماعات المؤيّدة لإسرائيل أيضاً حملاتٍ إعلانيّة في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا، وبالأخصّ في لبنان. ويعكس انتشار هذه الإعلانات عدم استعداد شركات وسائل التواصل الاجتماعي لضبط الإعلانات الضارّة في أوقات الحرب.
ففي إحدى الحالات، نشرت صفحة موثقة على “فيسبوك” تحمل اسم “الموساد“، وهي وكالة الاستخبارات الوطنية الإسرائيليّة، منشوراً في لبنان يحثّ الناس على التواصل معها وقامت برعايته. وجاء في المنشور: “الخطوة الأولى بدّها جرأة، ومن بعدها أنت الربحان”.
يعتبر الكثيرون/ات أنّ هذه الرسالة هي بمثابة دعوة إلى تجنيد مخبرين/ات داخل لبنان للعمل لصالح الاحتلال الإسرائيلي. كما تجدر الإشارة إلى أنّه لا يمكن لصفحةٍ تحمل اسم جهةٍ رسميّةٍ أن تنال الشارة الزرقاء على موقع “ميتا” إلّا إذا أثبتت ارتباطها بتلك الجهة.
تُعدّ إحدى الأمثلة البارزة الأخرى، قيام القيادة المركزيّة الأميركيّة (سنتكوم) بنشر إعلاناتٍ على تطبيق “تيندر” (Tinder)، تحذّر فيها المستخدمين/ات من رفع السلاح ضدّ الولايات المتّحدة أو حلفائها، مسلّطةً الضوء على الاستعداد العسكريّ المتزايد في المنطقة. لم يقتصر الجدل حول الإعلان، الذي استهدف فئة الشباب، على اختياره لمنصّةٍ غير تقليديّة فحسب، بل تجاوز ذلك ليشمل استهدافه للأشخاص في لبنان. وعلى الرغم من أن القيادة المركزية الأميركيّة امتنعت عن التعليق، فإن هذا الإعلان يُجسّد الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل في سياق جهودها الدعائيّة.
الصورة الأولى: الولايات المتّحدة ستحمي شركاءها في مواجهة تهديدات النظام الإيراني ووكلائه. الصورة الثانية: القيادة المركزيّة الأمريكيّة على أتمّ استعداد وجاهزيّة بمقاتلات من طراز F-16 فايتينغ فالكونز وطائرات مقاتلة أسرع من الصوت من طراز A-10 ثاندربولت موجودة حالياً في المنطقة. الصورة الثالثة: لا ترفعوا السلاح ضدّ الولايات المتّحدة أو شركائها.
واكتشف فريق السياسات في “سمكس” أن بعض هذه المنظّمات تتلقّى تمويلاً سخيّاً يضمن أن تصل الدعاية الإسرائيلية فحسب إلى الجمهور الذي تستهدفه. ومن أبرز هذه المنظّمات “القبّة الرقميّة” (Digital Dome) التي تضمّ مجموعةً من المشرفين/ات الذين يستقبلون مختلف أنواع التقارير من المشاهدين/ات حول ما يصفونه بـ “المحتوى الضارّ والأكاذيب العارية من الصحّة”، أو بمعنى آخر أيّ محتوى يدافع عن حقوق الفلسطينيين/ات.
يجب على منصّات التواصل الاجتماعي أن تتحلّى بالشفافية في ما يخصّ سياساتها، خصوصاً بشأن الحرب في غزّة. وقد أفاد عددٌ من منظّمات المجتمع المدني عن تناقضاتٍ في كيفيّة تطبيق ممارسات الإشراف على المحتوى.
وفيما تنظّم معظم المنصّات الرقميّة الإعلانات السياسيّة، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالانتخابات، فإنّها لا تطبّق سياسة خاصّة بالدول التي تعيش حالة حرب، ما يتيح لكلّ دولة حريّة استهداف مواطني الدولة الأخرى لأغراضٍ دعائيّة.
تُعدّ القوانين الوطنيّة وحدها، رغم أهميّتها، غير كافية لردع إساءة استخدام الإعلانات السياسيّة لأغراض الدعاية. لذا، يتعيّن على المنصّات أن تكيّف سياساتها في أثناء فترات الصراع، لكي تمنع التلاعب في المحتوى والتحيّز غير المبرّر في إزالة المنشورات، وتبنّي الأكاذيب والمحتوى الضارّ.
الصورة الرئيسية من AFP.