في فيديو نُشر في 7 كانون الثاني/يناير 2025، توجّهَ الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا”، الملياردير “مارك زوكربيرغ”، إلى المستخدِمين/ات لإبلاغهم/نّ بتغييرات جديدة في السياسات من شأنها أن تؤدّي إلى “تعزيز حرّية التعبير وتقليل الأخطاء”. وانطلاقاً من هذا المبرّر، تعتزم “ميتا” مواءمة استراتيجية الإشراف على المحتوى مع النهج المثير للجدل الذي تتّبعه منصّة “إكس”، وهو تطوّر من المؤكّد أنَّه سيفضي إلى عواقب سلبية على الحقوق الرقمية.
ابتداءً من “التخلّص من” برنامج التحقّق من المعلومات من قبل أطراف ثالثة في الولايات المتّحدة واستبداله بـ نموذج “ملاحظات المجتمع” المُستوحى من منصّة “إكس”، تزعم “ميتا” زوراً أنّ هذا التغيير سيقضي على التحيّز السياسي. وعلى الرغم من أنّ مدقّقي المعلومات من الأطراف الثالثة مستقلّون ومُعتمدون من “الشبكة الدولية لتقصّي الحقائق” (IFCN)، يزعم “زوكربيرغ” بصورة خاطئة أنّ “ملاحظات المجتمع”، التي يكتبها مستخدمون مساهمون لديهم وجهات نظر وتحيّزات خاصّة من دون أيّ ضمانات تكفل حياديّتهم، ستحقّق عدالةً أكبر في الإشراف على المحتوى. وسيؤدّي هذا التغيير حتماً إلى زيادة الأخبار الكاذبة وحملات التضليل التي تقودها الأنظمة الاستبدادية، في غرب آسيا وشمال أفريقيا ومناطق أخرى، حيث تُسيطر هذه الأنظمة أيضاً على وسائل الإعلام التقليدية. بالإضافة إلى ذلك، أشاد المدير التنفيذيّ لـ”ميتا” بمنصّة “إكس” مراراً ضمن الفيديو باعتبارها مثالاً إيجابياً، رغم سجلّها السيّئ في مكافحة انتشار المعلومات المضلّلة وخطاب الكراهية، والإجراءات الرسمية التي اتّخِذت ضدّ الشركة بموجب قانون الخدمات الرقمية الأوروبي.
ثانياً، سيتمّ أيضاً رفع القيود المفروضة على المواضيع التي تُشكّل جزءاً من الخطاب السائد، ومنها مثلاً مواضيع الهجرة والنوع الاجتماعي التي تندرج ضمن النقاش السياسي. وفي حين قد يُنظر إلى هذا التطوّر في البداية باعتباره إيجابياً لتعزيز المناقشات الحرّة بين الفئات المهمّشة، إلّا أنّ رفع القيود قد يُساهم أيضاً في زيادة استبعاد المجتمعات الهشّة من خلال نشر خطاب الكراهية ضدّها. فإعطاء الأولوية لمشاركة معتقدات الناس على حساب سلامة الفئات المهمّشة، سواء على شبكة الإنترنت أو خارجها، يمثّل تراجعاً خطيراً لشركة “ميتا”. ثمّة أمثلة كثيرة للجرائم ضدّ النساء وصنّاع المحتوى على منصّة “تيك توك” والمؤثّرين عبر الإنترنت من مجتمع الميم في العراق وبلدان أخرى في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، وهي تُثبت فشل سياسات الإشراف على المحتوى الحالية في حماية المستخدمين. وسيؤدّي خفض المعايير في النهاية إلى زيادة خطاب الكراهية على الإنترنت وحدوث المزيد من جرائم الكراهية على أرض الواقع.
في الوقت الذي تحرم فيه الشركة تلك المجتمعات من مساحاتٍ رقمية آمنة، أضافت الصهيونية كميزة محميّة، ما يدلّ بوضوح على ازدواجية المعايير. تهدف التغييرات الجديدة إلى الحدّ من الإفراط في تطبيق الرقابة باعتبارها مسألة تمسّ بحرّية التعبير، ومع ذلك لم يتمّ التطرّق إلى مسألة التقصير في تطبيق سياسات الإشراف على المحتوى، التي تؤثّر بالمثل على حقوق المستخدمين. في سياق الإبادة الجماعية في غزّة، برز تباينٌ واضح بين حماية المحتوى الفلسطيني والإسرائيلي، إذ تستمرّ شركة “ميتا” بـ إسكات الأصوات الفلسطينية بشكلٍ متواصل بينما تسمح بنشر محتوى باللغة العبرية ينتهك سياساتها بصورة واضحة.
أخيراً، إنّ “إعادة المحتوى المدني” إلى منصّات “ميتا” يحمل وجهين. من جهة، سيقدّم هذا التغيير فرصةً للمجتمع المدني لإلقاء الضوء على العديد من القضايا، وسيُعيد تفعيل النشاط الرقمي في مناطق مثل غرب آسيا وشمال أفريقيا، حيث يفتقر المعارضون/ات السياسيون/ات والصحافيون/ات والمدافعون/ات عن حقوق الإنسان إلى مساحاتٍ للتعبير عن أنفسهم/ن. ومن جهة أخرى، فإنّ النهج الشخصي في تحديد المحتوى المعروض للمستخدمين، بناءً على إشارات صريحة وضمنية، قد يؤدّي إلى عرض معلومات أُحادية الجانب للمستخدمين بناءً على تفاعلاتهم السابقة مع محتوى معيّن حصراً. ومن شأن ذلك أن يحدّ من تداول المعلومات ووجهات النظر المتنوّعة، كما أنَّه سيساهم أيضاً في زيادة الاستقطاب.
يبدو أنَّ قرار “ميتا” بالمضيّ في هذه التغييرات، تحت ذريعة تعزيز حرّية التعبير، هو أمرٌ له خلفيات سياسية وله صلة واضحة بإعادة انتخاب “ترامب” رئيساً للولايات المتحدة، فضلاً عن التعاون المباشر لـ “ماسك” مع الإدارة المقبلة. يكشف خطاب “زوكربيرغ” عن عزمه على الانضمام إلى فريق “اجعل أميركا عظيمة مجدّداً” (MAGA) والبقاء ضمن دائرة المقرّبين من “ترامب”، بعد تعهّد الرئيس المُنتخَب بـ “تحطيم كارتل الرقابة في شركات التكنولوجيا الكبرى“.
يتجاهل هذا القرار تماماً الأنظمة القانونية الأخرى حول العالم، بما في ذلك الاتّحاد الأوروبي، حيث لا تُعتبَر حرّية التعبير حقّاً مطلقاً بل تخضع لقيود. فسياسة “ميتا” الجديدة ترفع حرّية التعبير إلى قائمة الأولوية القصوى، ما يجعلها العامل الرئيسي في قرارات الإشراف على المحتوى، وتتماشى مع طموحات “ترامب” و”ماسك” للنهوض بأجندتهما الخاصّة.
بدلاً من الاستثمار في تحسين سياسات الإشراف على المحتوى ومعالجة أوجه القصور، تتّجه “ميتا” إلى نهجٍ أكثر تساهلاً لكنَّه ينطوي على بعض الخطورة، الأمر الذي سيخلّف بلا شكّ عواقب ملموسة على الفئات الهشّة في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الفلسطينيين/ات. وفي مناطق مثل غرب آسيا وشمال أفريقيا، يمكن للأنظمة القمعية أن تستغلّ هذه التطوّرات الجديدة لإخضاع المعارضين/ات.
مرّة أخرى، يتّضح أنَّ شركات التكنولوجيا الكبرى تعطي الأولوية لأرباحها على حساب حقوق الإنسان، وتواصل السعي وراء مكاسبها المالية والاستجابة لرغبات رئيس أميركي اشتهر بـ ـنشر المعلومات المضلّلة وخطاب الكراهية. الآن أكثر من أيّ وقت مضى، باتَ من الضروري تنظيم الهيمنة المطلقة لمنصّات التواصل على المستوى الدولي. ويبدو أنَّ الاتّحاد الأوروبي هو النظام القانوني الوحيد الذي لا يزال يحافظ على موقفه الصارم في ما يتعلّق بمساءلة المنصّات من خلال قانون الخدمات الرقمية، ولكنّ هذه التطوّرات الجديدة قد تعيق التنفيذ.
الصورة الرئيسية من AFP.