في 4 أيلول/سبتمبر الجاري، وفي انتصارٍ متواضع ولكنَّه مهمّ لحرّية التعبير، أصدر مجلس الإشراف المستقلّ في “ميتا” قراراً يقضي بأنّ عبارة “من النهر إلى البحر” وحدها لا تشكّل انتهاكاً لقواعد الشركة بشأن المحتوى.
أحال عددٌ من المستخدمين/ات ثلاث حالات إلى المجلس، زاعمين أنّها تنتهك سياسات “ميتا” بشأن خطاب الكراهية، والعنف والتحريض، أو المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين.
أيّد مجلس الإشراف قرارات “ميتا” المتعلّقة بالسماح ببقاء المحتوى في الحالات الثلاث. وقد تلقّى المجلس أكثر من 2400 تعليق من كلا الجانبين حول استخدامات العبارة ومعناها، وهو ثاني أكبر عدد من التعليقات التي يتلقّاها في قضيّة ما.
قدّمت “سمكس” بدورها تعليقاً عاماً يشرح الاستخدامات والمعاني المختلفة التي قد تحملها هذه العبارة، مشيرةً إلى دلالاتها الحالية والتاريخية، وأهمية ضمان عدم حظرها على منصّات “ميتا”. ويسرّنا أن نرى أنّ المجلس قد أخذ مُداخلات المجتمع المدني بعين الاعتبار، ذاكراً مساهمة “سمكس” ثلاث مرّات في تقرير القرار النهائي.
أُرسِلت الحالات إلى مجلس الإشراف في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعد مرور شهرٍ على بدء العدوان العسكري الإسرائيلي المتواصل والعشوائي على المدن في غزّة.
اليوم، وصل عدد الضحايا الذين قتلتهم إسرائيل في غزّة خلال الأشهر الـ 11 الماضية إلى أكثر من 40000 شخص.
منذ 8 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، انكبّ الناس من كلّ أقطار العالم على صفحات وسائل التواصل، بما في ذلك موقعي “فيسبوك” و”انستغرام” التابعين لشركة “ميتا”، للمطالبة بوقف إطلاق النار والتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين المحاصَرين والمعرّضين للمذابح العشوائية في غزّة.
تضمّنت الحالات الثلاث المنشورة على موقع “فيسبوك” عبارة “من النهر إلى البحر” (باللغة الإنكليزية) إمّا في العنوان أو في التعليق، مع هاشتاغات مثل #وقف_إطلاق_النار و#وقف_تمويل_إسرائيل ورسمة البطّيخ الرمزية. وقد نُشرت جميعها من جانب مستخدمين لديهم عدد محدود من الأصدقاء/المتابعين.
وكما أوضحت “سمكس” في التقرير الذي رفعته إلى المجلس، فإنَّ عبارة “من النهر إلى البحر” هي دعوة تاريخيّة لإنهاء الحدود والحواجز والحصار والجدران الفاصلة التي أدّت إلى تجزئة الأراضي الفلسطينية والفصل بين سكّانها.
أقرَّ المجلس بهذا الاستخدام وأشار إلى التعليقات العامّة التي قدّمتها “سمكس” وعددٌ من منظّمات حقوق الإنسان. وذكر أنَّ العبارة “ترتبط […] بتطلّعات الفلسطينيين بشأن تقرير المصير والحقوق المتساوية”، وأنَّها “بمثابة تأكيد بسيط على مكان وشعب وتاريخ دون أيّ أهداف أو تكتيكات سياسية ملموسة”.
تعرّضت عبارة “من النهر إلى البحر” لاتّهاماتٍ تتعلّق بمعاداة السامية و”نيّة الإبادة الجماعية” في أوساط مؤيّدي الاحتلال الإسرائيلي الذين دعوا إلى تقييد استخدامها أو حظرها في المجالات الحكومية والأكاديمية والمهنية.
امتدّت هذه الدعوة إلى المنصّات الرقمية أيضاً، حيث أحال المستخدمون بعض الحالات إلى المجلس في محاولةٍ لفرض حظرٍ شامل على العبارة. وزعم المستخدمون، في ادّعاءٍ خاطئ، أنّ المنشورات تنتهك سياسات الشركة بشأن خطاب الكراهية، والعنف والتحريض، أو المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين.
وفي ما يتعلّق بالادّعاء بأنّ العبارة يجب أن تُحظر بموجب سياسة “ميتا” بشأن خطاب الكراهية، أصدر المجلس قراراً بأنّ المحتوى “لا يهاجم الشعب اليهودي أو الإسرائيلي بدعوات للعنف أو الإقصاء، ولا يهاجم مفهوماً أو مؤسّسة مرتبطة بسمة تتمتّع بحقوق حماية يمكن أن تؤدّي إلى أعمال عنف وشيكة”.
كذلك، وجد المجلس أنّ هذه المنشورات لا تنتهك سياسة “ميتا” بشأن المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين لأنَّها “لا تتضمّن تهديدات بالعنف أو أيّ أضرار بدنية أخرى، كما أنَّها لا تمجّد حماس أو أفعالها”.
في تمّوز/يوليو 2024، عدّلت “ميتا” سياستها لفرض إزالة أيّ محتوى “يمجّد” أو يُبرّر الأساس المنطقي وراء الهجمات التي تشنّها الأطراف المدرجة في قائمة المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين. ولم تُفصح “ميتا” بعد عن هذه القائمة، ممّا أثار تساؤلات جدّية بشأن الشفافية.
قرّر المجلس أنّ حظر العبارة “من شأنه أن يُعيق الخطاب السياسي المحميّ بوسائل غير مقبولة”. وأكّد أنَّ الحالات المُبلّغ عنها تتوافق مع سياسات “ميتا”، لأنَّها تتضمّن “إشارات سياقية للتضامن مع الفلسطينيين، ولا توجد لغة أو إشارة تدعو إلى العنف أو الإقصاء”.
وقد أشارَ تقرير مجلس الإشراف إلى أنَّ بعض أعضائه لم يوافقوا على القرار، إذ اعتبروا أنّ أيّ إشارة لعبارة “من النهر إلى البحر” يجب أن تُحظر، مهما كانَ سياقها. يرى هؤلاء الأعضاء أنّ السياق قد تغيّر بشكلٍ جذري بعد أحداث 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، وأنَّه “يجب تفسير أيّ استخدام غامض للعبارة على أنَّه دعم لحماس وأنشطتها”.
وقال محمد نجم، المدير التنفيذي لسمكس، إنّ “هذا القرار هو خطوةٌ مهمّة نحو حماية الخطاب السياسي خلال أوقات النزاع، إلا أنّ ميتا ما زالت بحاجة إلى وضع خططٍ جدّية للاستجابة للأزمات ومعالجة المشكلة النظاميّة التي تعاني منها آليّات الإشراف على المحتوى العربي”.
تتناول اثنتان من التوصيات الثلاث الصادرة عن مجلس الإشراف قرار “ميتا” الأخير بتعطيل “كراود تانغل” (CrowdTangle)، التي تمثّل أداةً مهمّة لتتبّع المنشورات ومدى انتشارها، بما في ذلك تلك التي تتضمّن محتوى ضار مثل المعلومات المضلّلة أو خطاب الكراهية. تشيد “سمكس” بتوصيات المجلس بشأن “كراود تانغل”.
أوقفت “ميتا” أداة “كراود تانغل” في 14 آب/أغسطس 2024، وأطلقت “مكتبة محتوى Meta’s Content Library))، لتكون بديلاً بدائياً يحتوي على عيوب صارخة مقارنة بالمزايا التي كان يوفرها “كراود تانغل”. وتشمل هذه العيوب فرض قيودٍ على الوصول إلى البيانات ذات الأهمية البالغة لدى الباحثين/ات والصحافيين/ات.
يبدو لنا أنّ إيقاف “كراود تانغل” ما هو إلا استراتيجيّة وضعتها “ميتا” لإخفاء الدور الذي تلعبه في نشر الضرر في العالم. تصعّب هذه الممارسات على الصحافيين/ات والباحثين/أت جهود التحقيق في المخالفات التي تحدث في مساحات “فيسبوك”، و”إنستغرام”، و”ثريدز”، و”واتساب”.
تعترف “سمكس” بمسؤولية “ميتا” حيال ضمان سلامة مستخدميها على منصّاتها، لكنّها ترفض طريقة تأطير “ميتا” ومجلس الإشراف للأحداث الجارية منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 باعتبارها نزاعاً متساوياً بين كيانين متحاربين ومتكافئين.
فيما تحقّق كلٌّ من محكمة العدل الدوليّة والمحكمة الجنائيّة الدوليّة في جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانيّة، وإبادةٍ في فلسطين، ينبغي على “ميتا” التوقّف عن لعب دورٍ في هذه الجرائم ومواءمة ممارساتها مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.