في 13 تشرين الأول/أكتوبر، أصدرت شركة “ميتا” بيانًا حدّدت فيه سلسلة من التدابير التي وضعتها لإدارة المحتوى الضار على منصّاتها خلال العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة، إثر الهجمات التي نفّذتها حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
نشرت شركة “ميتا” بيانها هذا في ظلّ أزمة غير مسبوقة وإبادة جماعيّة تُرتكَب بحقّ الشعب الفلسطيني في غزّة. وفي حينّ حظيت “ميتا” بمتّسع من الوقت لتعديل هذه السياسات، في زمن “السلم” النسبي، عبر تنفيذ توصيات شبكة “الأعمال من أجل المسؤولية الاجتماعية” (BSR) بشأن أزمة أيار/مايو 2021 بين إسرائيل وفلسطين، لكنّها امتنعت عن ذلك. ونشرت شبكة BSR الاستشاريّة تلك التوصيات في سياق العناية الواجبة يركّز على مسؤولية شركة “ميتا” بموجب مبادئ الأمم المتّحدة التوجيهيّة بشأن الأعمال وحقوق الإنسان خلال عمليات الإخلاء القسري التي شهدها حيّ الشيخ جرّاح في أيار/مايو 2021.
استهلّت شركة “ميتا” بيانها الأخير بإعطاء صورة مغلوطة عن الواقع، عبر تجريد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر من سياقها العام، إذ وصفتها بأنها أعمال إرهابية “صادمة” و”مُرعِبة”، مردّدة بذلك العبارات غير الدقيقة واللاأخلاقية التي ترد في التغطية الإعلامية الغربية للأحداث في إسرائيل وفلسطين. لا بل تعمَد شركة “ميتا” إلى استخدام خطاب صريح في انحيازها ضدّ الفلسطينيّين: فهي تشير إلى أحداث 7 أكتوبر بوصفها “الهجمات الإرهابية الغاشمة التي شنتها حماس”، فيما تستخدِم عبارات ملطّفة ومدروسة في حديثها عن “ردّ الفعل من إسرائيل على غزة”.
في شهر أيلول/سبتمبر 2022، أوردَ تقرير شبكة BSR توصيات محدّدة لشركة “ميتا” قائمة على مبادئ الأمم المتّحدة التوجيهيّة بشأن الأعمال وحقوق الإنسان (UNGPs). وتطرّقت تلك التوصيات إلى عدّة مشاكل مرتبطة بأداء الشركة السيّء عام 2021، من تنفيذ سياستها المتعلّقة بالمنظمات الخطرة والأفراد الخطرين (DOI list) إلى القيود اللغويّة التي فرضتها في ظلّ هذا الوضع المضطرِب. نشرت شبكة BSR توصياتها لـ”ميتا” منذ سنة واحدة بالتحديد، بعد أحداث حيّ الشيخ جرّاح عام 2021، حين دعت منظّمات عدّة شركة “ميتا” إلى إجراء تدقيق مستقلّ في طريقة إدارتها للمحتوى.
ومع ذلك، لم تطبِّق “ميتا” أيًّا من تلك التوصيات بعد. في الواقع، لو أنّ الشركة أخذت في الاعتبار نتائج ذلك التقرير – الذي أُعِدّ بتكليف منها أساسًا – على مدى الأشهر الاثني عشر الأخيرة، لما ارتُكِب هذا الكمّ من الانتهاكات للحقوق الرقميّة للفلسطينيّين خلال هذه الجولة الجديدة من الاعتداءات الإسرائيلية على غزّة والضفّة الغربيّة.
كذلك، يُظهِر تسريب نُشِر مؤخرًا في صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ التوصيات لم تُطبَّق بعد.
نورِد في ما يلي النقاط التي تحتاج إلى توضيحات إضافيّة أو إعادة صياغة في التدابير التي أعلنت عنها “ميتا” مؤخرًا.
- تزعم “ميتا” أنّها أنشأت مركزًا يضمّ أشخاصًا “لغتهم الأصلية” هي العربيّة أو العبريّة للتحقّق بسرعة من صحّة المحتوى المنشور على منصّاتها. لكنّ ذلك لا يضمن قدرة هؤلاء على فهم المحتوى وسياقه، إذ لا يمكن التأكّد من مدى إتقانهم للغة ومعانيها الدقيقة لمجرّد أنّهم ناطقين أصليّين بها، ناهيك عن مسألة تعدُّد اللهجات (فليس من الضروري أن يكون أيّ متحدّث باللغة العربية قادرًا على فهم اللهجة المشرقيّة). لذا، نظرًا إلى مدى تعقيد اللغتَيْن العربيّة والعبريّة وتعدُّد لهجاتهما، من بالغ الأهمّية أن يكون مديرو المحتوى بأيّ من هاتَيْن اللغتَيْن ضليعين بدقائق المعاني ومُدركين لأبعاد الثقافة المحلّية. ولا يمكن لشركة تبلغ عائداتها مليارات الدولارات أن تتحجّج بنقص في الموارد البشرية. بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، قالت شركة “ميتا” لمجلس إدارة المحتوى التابع لها في شهر أيلول/سبتمبر إنّها “حقّقت” هدفها المتمثّل في “تطوير أداة تصنيف للمحتوى العبري”. لكنّ “ميتا” عادت وأنكرت هذا التصريح، مشيرةً إلى أنها لا تمتلك ما يكفي من البيانات لتفعيل هذا النظام بشكل مناسب، إلا أنها باتت تستخدمه لتحديد التعليقات الضارة.
- كذلك، ما من أدلّة أو معلومات إضافية تشير إلى أنّ هذا الفريق غير متحيّز بالفعل. لم تُفصِح “ميتا” إطلاقًا عن أيّ معلومات حول عملية توظيف مديري المحتوى. لو توفّرت لنا هذه المعلومات، لكان باستطاعتنا تقييم مدى التحيُّز لدى مديري المحتوى هؤلاء. واليوم، في ظلّ الفظائع التي تُرتكَب، ينبغي على “ميتا” أن تُعلِن بشفافية تامّة عن التدريب الذي تُجريه لمديري المحتوى لضمان عدم تحيّزهم. ولذلك، لا بدّ من اتّباع مقاربة دقيقة ومنهجيّة في أوضاع كالتي نشهدها اليوم، وفي منطقة مضطربة تندلع فيها النزاعات بشكل دائم ومستمرّ. يعني ذلك توظيف مديري محتوى يمتلكون المعرفة والدراية اللازمة بالسياق التاريخي والسياسي للمنطقة.
- يُطلَب من مديري المحتوى الالتزام بسياسات “ميتا” القائمة، وبالتالي فإنّ قدرتهم على اتّخاذ قرارات مستقلّة محدودة. تذكّرنا “ميتا” في بيانها أنّ حركة “حماس” مُصنَّفة “من قِبَل حكومة الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية أجنبية وإرهابيين عالميين مصنفين تصنيفًا خاصًا”. لذا، فهي مُصنَّفة على هذا النحو أيضًا بموجب سياسة “ميتا” للمنظمات والأفراد الخطرين، علمًا أنّ هذه هي المرّة الأولى التي تعترف فيها “ميتا” علنًا بأنّ إحدى المنظّمات مُدرَجة في سياستها للمنظمات والأفراد الخطرين، إذ إنّها لا توفّر أيّ معلومات عن هذه القائمة. فالمعلومات الوحيدة المُتاحة لعامة الناس عن هذه القائمة ومحتواها هي النسخة المُسرَّبة التي نشرها موقع “إنترسبت” عام 2021.
- تتّبع “ميتا” المعايير الجيوسياسية الأميركية، وتضمّ قائمة المنظمات والأفراد الخطرين الخاصة بها جهات من منطقة الشرق الأوسط بشكل أساسي (70% من المنظمات المُدرَجة في المستوى الأوّل ناطِقة باللغة العربية). ومن المرجّح أن سبب ذلك هو تصنيف الولايات المتّحدة لهذه المنظّمات على أنّها إرهابية، وهو بذاته قرار منحاز. يشدّد تقرير شبكة BSR لعام 2022 أنّ شركة “ميتا” أفرطت في حظر المحتوى الفلسطيني خلال أزمة أيار/مايو 2021، فيما قلّلت من حالات حظر المحتوى الإسرائيلي، عبر إزالة المنشورات أو تركها من دون مبرّرات مقبولة. كذلك، كشف التقرير تفاوتًا في قدرة الشركة على معالجة المحتوى باللغتَيْن العربية والعبريّة. فعمدَت أنظمة الشركة التلقائية عمومًا إلى رصد كمّ أكبر من المحتوى الذي قد يخالف سياساتها باللغة العربية مقارنة باللغة العبرية، ما فاقَم الفجوة وعدم المساواة في التعامل مع الطرفَيْن.
- ينبغي أن تسري ضمانات الشفافية نفسها على مُدقّقي المعلومات أيضًا. في بيانها حول الجهود التي تبذلها حاليًا، أشارت “ميتا” بعبارات مُبهمَة للغاية إلى أنّها تستعين بأطراف ثالثة من المنطقة للتدقيق في المعلومات، من دون أن تأتي على ذكر مؤهّلاتهم وخلفيّاتهم أو أنشطتهم ومهامهم اليوميّة.
- وفي سياق حديثها عن “مركز العمليات الخاصة الذي يعمل به خبراء”، لم توفّر “ميتا” أيّ تفاصيل إضافية عن مجال اختصاص هؤلاء الخبراء ولا عددهم الفعلي. وبالتالي، فإنّ هذه العبارات المُبهمة والغامضة لا يمكن أن تشكّل ضمانات في هذه الظروف الاستثنائية. يستلزِم الظرف الراهِن استراتيجية مُحكَمة للتعامل مع الأخبار الكاذبة، والرقابة، والمعلومات المُضلِّلة، والحجب المُظلَّل. يجب على شركة “ميتا” أن تُعلِن بشفافية عن الأساليب التي تتّبعها لضمان عدم انحياز مديري المحتوى لديها وإلمامهم الجيّد بالبُعدَيْن السياسي والتاريخي للأزمة. ويستوجب ذلك أن تُعلِن “ميتا” عن العدد المحدّد لهؤلاء الخبراء ومجال اختصاصهم، وأن توفّر أدلّة ملموسة بأنّهم يمتلكون الأدوات اللازمة لاتّخاذ قرارات سليمة في إدارتهم للمحتوى، بحيث لا يساهمون في إقصاء أصوات الفلسطينيّين التي تشير التقارير إلى أنّهم ممثلون تمثيلًا ناقصًا على منصّات “ميتا”.
- يمكن تحقيق ذلك عبر توظيف مديري محتوى محلّيين من دول المنطقة، يُدركون الفوارق اللغوية الدقيقة والدلالات التاريخية والسياسية والثقافية للمفردات والعبارات باللغتَيْن العربية والعبرية. ومن الضروري أن تُمارِس منظمات المجتمع المدني ضغوطًا على شركة “ميتا” لكي تُفصِح الأخيرة بمزيد من الشفافية عن آليّة عمل مديري المحتوى لديها بكلّ تفاصيلها وما قد يؤثر في قراراتهم، مثل عدد ساعات العمل وعدد المنشورات التي يراجعونها وغيرها من المعلومات.
- نظرًا إلى محاولات إسرائيل الكثيرة للتلاعب بالرأي العام عبر نشر الإعلانات المدفوعة والأخبار الكاذبة، مثل ادّعاءاتها الكاذبة بالعثور على 40 طفلًا مقطوعي الرأس وإنكارها أنها قصفت المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في غزّة، يجب على “ميتا” أن تُعلِن بشفافية عن الطلبات التي تتلقاها من الأطراف الثالثة، سواء كان حكومات أو جهات فاعلة غير حكومية. فمن خلال مشاركة هذه الطلبات مع عامة الناس/المُستخدِمين، يمكن تسليط الضوء على السياق الأوسع وتعميق فهم المُستخدِمين لكيفيّة تعامُل المنصّات مع حالات كهذه.
- من خلال التشديد على سعيها “للحفاظ على سلامة الأشخاص مع منح الجميع القدرة على التعبير عن آرائهم” عبر تطبيقاتها والإعلان أنّ ليس في نيّتها “مطلقًا قمع مجتمع أو وجهة نظر معينة”، تدَّعي شركة “ميتا” أنه نظرًا إلى الإبلاغ عن كمّيات أكبر من المحتوى، قد يُزال عن طريق الخطأ محتوى لا ينتهك سياسات المنصّة. للمفارقة، يتطابق ذلك مع إزالة المحتوى والوسوم الفلسطينية بسبب “”خطأ برمجي مفاجئ” على منصّات “ميتا” صادَف حدوثه بالتزامن مع أحد أعنف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيّين في غزّة منذ 16 عامًا. وبحسب تسريبات نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال”، تُخفي “ميتا” عادةً التعليقات إذا صنّفتها أنظمتها كـ”خطاب عدائي” بنسبة تأكيد تبلغ 80%. وشملت “التدابير المؤقتة للاستجابة للمخاطر” التي اتّبعتها “ميتا” خفض عتبة التأكيد إلى 25% للمُستخدِمين الفلسطينيّين، ما يفاقم انحياز “ميتا” ضدّ الفلسطينيّين.
يندرج قمع “ميتا” للأصوات الفلسطينيّة على منصّاتها ضمن حملة أوسع تجري على أرض الواقع. فالرقابة والمعلومات المُضلِّلة والسلامة على الإنترنت كلّها تستتبع عواقب على أرض الواقع.
يجب على “ميتا” أن تتحمّل مسؤولياتها فورًا وأن تفي بوعودها لمُستخدِميها عبر توفير مساحة آمنة للجميع للتعبير عن آرائهم، بعيدًا عن الرقابة وأشكالها المبطّنة، مثل تقييد النشاط والأعطال التقنيّة.