لم تتخطّ المنطقة بعد القرار الذي اتخذه البرلمان الأردني يوم أمس الخميس بإقرار قانون الجرائم الإلكترونية الذي تشوبه عشرات المآخذ القانونيّة، حتى عاد مشروع قانون جرائم المعلوماتية العراقي ليطفو على السطح مجدداً، محدثاً خلافاتٍ بين أعضاء مجلس النواب لما يحتويه من عقوبات تمسّ بحرية الرأي والتعبير.
هذا ما أكّدته اللجنة القانونية في البرلمان العراقي، إذ قال عضو اللجنة رائد المالكي في تصريحات لوسائل إعلام محليّة إنّ “الخلافات السياسية أخّرت إقرار القانون (أي مشروع قانون الجرائم المعلوماتية) لاحتوائه على فقرات تنصّ على عقوباتِ وتمسّ بحرية التعبير عن الرأي”. وأشار إلى أن “قانون الجرائم المعلوماتية يحتوي على مواد تساهم في الحفاظ على حقوق الحريات ويقلل من جرائم الابتزاز الإلكتروني ومحاسبة المبتزين ومعاقبتهم”.
يبرز في المقابل خطابٌ مختلفٌ تماماً، إذ أعرب عددٌ من النواب العراقيين/ات عن رفضهم لمشروع قانون جرائم المعلوماتية، “لتضمّن مسودة القانون العديد من المخالفات”، وفق قولهم/ن، كما اعتبروا إدراجه ضمن جدول أعمال الجلسات المقبلة سيكون بمثابة “انتهاك” للنظام الداخلي للبرلمان.
وبعد حفظه لفترة، في 5 حزيران/يونيو 2022، أعلنت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي سعيها لإعادة عرض مشروع قانون جرائم المعلوماتية، الذي يمنح السلطات الحق في مراقبة نشاط المواطنين/ات ومحاسبتهم/ن على ما ينشرونه عبر مواقع التواصل، للتصويت عليه خلال الدورة البرلمانية الحالية آنذاك؛ إلا أنّ هذا لم يحدث، فاتفق المشرعون/ات على “تعديل مشروع القانون بحيث يحمي حرية التعبير بدلاً من التعدي عليها”.
أحكام بالسجن المؤبّد ومصطلحات قانونيّة جديدة
تنًصّ المادتان 3 و6 على عقوبة بالسجن المؤبّد وبغرامة لا تقل عن 25 مليون دينار ولا تزيد عن 50 مليون دينار (حوالي 38 ألف دولارٍ أمريكي) بحق كل من استخدم عمداً أجهزة الحاسوب وشبكة المعلومات بهدف “المساس باستقلال البلاد ووحدتها وسلامتها أو مصالحها”، أو “إثارة العصيان المسلّح أو التهديد بذلك أو الترويج له أو إثارة النعرات المذهبية والطائفية أو الفتن أو تكدير الأمن العام والنظام العام أو الإساءة إلى سمعة البلاد”، أو “نشر أو إذاعة وقائع كاذبة أو مضللة بقصد إضعاف الثقة بالنظام المالي الإلكتروني…أو الإضرار بالاقتصاد الوطني والثقة المالية للدولة”.
علاوة على سبق، تنصّ المادة 22 على عقوبة بالسجن المؤقت وبغرامة لا تقل عن 10 ملايين دينار ولا تزيد عن 30 ملايين دينار بحق كل من “انشأ أو أدار أو ساعد على على إنشاء موقع على شبكة المعلومات للترويج والتحريض على الفسق والفجور أو أي برامج أو معلومات أو صور أو أفلام مخلة بالحياء أو الآداب العامة أو دعا أو روّج لها”.
في مقابلة مع “سمكس”، يقول الصحافي والحقوقي العراقي أكرم السيّاب إنّ مشروع القانون لم يُكتب بـ”احترافية قانونية” بل “بصيغة بوليسيّة”، مشيراً إلى أنّ المشرّع العراقي أسقط بعض مواد قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 عليه، جاعلاً بذلك الجريمة الجنائية المركّبة موازية لـ’جريمة حرية الرأي والتعبير’.
وبحسب المادة 18، يعاقب بالحبس مدة لا تقلّ عن سنة وبغرامة لا تقل عن مليوني دينار ولا تزيد عن خمسة ملايين دينار، كل من “اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الدينية والأخلاقية أو الأسرية أو الاجتماعية أو حرمة الحياة الخاصة عن طريق شبكة المعلومات أو أجهزة الحاسوب بأي شكل من الأشكال”.
من دون تعريفات واضحة ودقيقة للمصطلحات التي وردت في مشروع القانون مثل “المبادئ أو القيم الدينية والأخلاقية أو الأسرية أو الاجتماعية”، والتي تعتبر مفاهيم نسبيّة ولا تخضع إلى مقياس أو قواعد محدّدة، سوف يكون من السهل جداً إلصاق التهم بكلّ من مارس حقّه في التعبير والانتقاد أو أتى على ذكر أيّ من هذه “القيم والمبادئ”.
هذا ما يؤكّده المحامي العراقي المختصّ بقضايا حقوق الإنسان، محمد جمعة، الذي قال في حديثٍ مع “سمكس” إنّ “مشروع القانون هو “حديقة تملؤها الألغام، فمثلاَ، ما قد يعتبر تكديراً للأمن العام يمكن أن يكون ببساطة دعوة لتنظيم تظاهرة أو انتقاداً لرئيس الوزراء أو أيّ شخصية سياسية دينية، كما أن القيم الأسرية والأخلاقية التي ذُكرت من دون شرحٍ أو تعريف تعتبر فضفاضة جداً. قد نواجه عقوبة السجن في حال طالبنا بالمساواة بين الرجل والمرأة!”
ويضيف جمعة:” يهدف مشروع قانون جرائم المعلوماتية بشكل أساسي إلى حماية الطبقة السياسية من هجمات المدونين/ات على وسائل التواصل، والدليل على ذلك هو إدراج عقوبة بالحبس ثلاث سنوات ضدّ كل من يلجأ إلى السب والشتم، تقابلها عقوبة بالسجن مدة سنتين فقط بحق ممارسي الابتزاز الإلكتروني، والذي يعتبر بطبيعة الحال جرماً أشدّ خطورة”.
مشروع قانون مخالف للدستور العراقي والمواثيق الدولية
بالإضافة إلى اتّسام المصطلحات المستخدمة بالضبابيّة، وغياب التوازن بين “الجرائم” المزعومة والعقوبات التي تقابلها، يتنافى مشروع القانون مع المادة 19 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي وقّع عليه العراق عام 1948، والتي تؤكّد أنّ “لكلّ شخصٍ حقّ التمتُّع بحرِية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأيّ وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
ويتعارض مشروع قانون جرائم المعلوماتية مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (والذي أكدت مقدمة الدستور العراقي التزامه به)، بمادته الـ19، التي تنصّ على أنّ “لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة”، وأنّ “لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس وتلقي ونقل المعلومات والأفكار من جميع الأنواع، دونما اعتبار للحدود، سواء بالقول أو الكتابة أو بالطباعة أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”.
أضف إلى ذلك أنّ المشروع مخالفٌ للدستور العراقي، الذي ينصّ في المادة 21 على “استكمال المنظومة التشريعية بإصدار القوانين المشار إليها في الدستور بما يتلاءم وينسجم والمعاهدات الدولية بما في ذلك […] التمتع بالحق في حرية الرأي والتعبير بما في ذلك قانون لحماية الصحفيين وقانون للحصول على المعلومات”.
يؤكّد السياب أيضاً أنّ بعض المفاهيم التي وردت في مشروع القانون، مثل “جرائم الأمن الوطني”، جديدة ولم ترد أو تُناقش من قبل. إضافة إلى ذلك، فإن ما ورد حول “الحرية المالية للحكومة والتشكيك في الذمة المالية للحكومة هو انتهاكٌ للعقد الاجتماعي الذي وقّعه المواطن العراقي مع الحكومة العراقي خلال الانتخابات الماضية، إذ لا حقّ للحكومة في منع المواطن/ة من مساءلتها ومحاسبتها بالطرق الديمقراطية والقانونية”، يضيف السياب.
يلجم مشروع قانون جرائم المعلوماتيّة، بحسب الحقوقي العراقي، حرية الصحافة وحرية التعبير، ويقلّل من فرص كشف ملفات الفساد التي “ساهمت في فضح عددٍ كبير من المسؤولين الحكوميين والسياسيين المتورطين فيها عبر وسائل التواصل. وُضع هذا القانون ليحدّ من التدخل الشعبي في العمل الحكومي، وهذا انتهاك صارخ للديمقراطية والحريات”.
توجّه رسمي منظم نحو قمع الخطاب الإلكتروني
في تقرير نشرته كل من “منظمة العفو الدولية” وشبكة “أنسم” للحقوق الرقميّة، في 18 تموز/يوليو، قالت المنظمتان إنّ إعادة طرح قانون جرائم المعلوماتية ومشروع القانون المقترح بشأن حرية التعبير والتجمع السلمي “سيقيدان بشدة، في حال اعتمادهما، الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي للشعب العراقي”.
بدوره، يقول المدير التنفيذي لـ”إنسم” حيدر حمزوز لـ”سمكس” إنّ “الكتل السياسية تحاول التلاعب بمشاعر المواطنين/ات، من خلال استغلال تحديات موجودة في مجتمعنا مثل الابتزاز الإلكتروني، لتوهمهم/ن أنّ قانون جرائم المعلوماتية كفيلٌ بحلّها”.
“للأسف، أهمل المشرعون والحكومة عبر وزيرة الإتصالات كل التعديلات والملاحظات التي وضعتها منظمات المجتمع المدني في العراق. على الحكومة العراقية سحب القانون فوراً واعتماد التعديلات التي اقترحتها المنظمات، إضافة إلى فتح حوارٍ مباشر حول مسودة القانون الذي لا يحمي المستخدم/ة العراقي ولا بياناته على الإنترنت”، يضيف حمزوز.
في 5 آذار/مارس 2023، بدأ البرلمان العراقي مناقشة مسودة قانون حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي، والذي يرسم ضفافاً ضيقة للحريات العامة. مع إعادة وضعه قيد الدراسة اليوم، هناك تخوّف من إفساح المجال أمام انتشار محاكمات تعسفية بحقّ كلّ من يدلي بتعليقات عامة تنتهك “الآداب العامة” أو “النظام العام”.
وفي 10 كانون الثاني/يناير 2023، أطلقت وزارة الداخلية العراقية منصة “بلّغ”، وهي “منصة إلكترونية خاصة بالإبلاغ عن المحتويات المنشورة على مواقع التواصل، والتي “تتضمن إساءة للذوق العام وتحمل رسائل سلبية تخدش الحياء وتزعزع الاستقرار المجتمعي”.
كما نشرت الوزارة على قناة “يوتيوب” مقطعاً مصوّراً، لأحد ضباط الدولة يشرح عن سبب إطلاق المنصّة، ويخاطب المواطنين/ات الذين لهم الدور الأكبر في التبليغ عن “المحتويات الهابطة والتي تسيء للذوق العام، وتخالف العادات والتقاليد وتسيء للمؤسسات العسكرية”. واعتبر الضابط أنّ المحتوى “المنشور والذي سيُحارب لا يقل أهمية عن الجريمة المنظمة كونه يتسبّب بتخريب الأسرة العراقية”، بحسب تعبيره.
ليس العراق البلد الأول الذي يقع حالياً تحت وطأة القمع المتصاعد للخطاب الإلكتروني، إذ أقرّ مجلس النواب الأردني أمس الخميس مشروع قانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2023، بكل ما يتضمّنه من انتهاكات وتعدّياتٍ على حقوق الإنسان. وتدقّ العقوبات المتمثّلة بغرامات ضخمة (تذهب لخزينة الدولة وليس للضحية) وأحكامٍ بالسجن تصل إلى ثلاث سنوات، ناقوس الخطر بسبب نيّة المشرّع إصدارها ضدّ مستخدمين/عاديين/ات قرروا مشاركة منشورٍ على وسائل التواصل.