“كنت أعتقد أنني أعلم الكثير عن الثقافة الجنسية، وأنني مُحصنة ضدّ الجهل، ولكنني لم أكن أدرك كمّ المعلومات الخاطئة والمضللة التي تشرّبتها، والتي أثّرت كثيراً على زواجي”.
هذا ما قالته الشابة سارة محمود في بداية حديثها لـ”سمكس”، عمّا مرّت به نتيجة المعلومات المُضللة التي وجدتها على الإنترنت ووسائل التواصل حول الممارسات الجنسيّة.
تؤمّن فضاءات الإنترنت فرصاً ومساحاتٍ واسعة للمعرفة، إلا أنّها تتضمّن أيضاً كمّاً هائلاً من المعلومات الخاطئة التي قد يقع ضحيّتها كثيرون/ات، ويعود ذلك إلى أسبابٍ عديدة منها حجب منصات التواصل لمحتوى الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية بذريعة “العيب” “وخدش الحياء العام”.
واقع التثقيف الجنسي في مصر
تأثرت سارة بالمعلومات الخاطئة التي استحصلت عليها من إحدى المؤثرات عبر وسائل التواصل، والتي زعمت أنّها مُتخصصة في مجال الصحة الجنسيّة. في مقابلة مع “سمكس”، تقول سارة إنّ “معلوماتٍ مثل مدّة العلاقة، والفترة المطلوبة بين كلّ علاقة جنسية وأخرى، وحجم العضو الذكري، جعلتني أشعر بعدم الرضا في علاقتي بزوجي لمدة عشر سنوات، وأوصلتنا بالفعل إلى حافة الانفصال”.
أمّا مريم، وهي ربّة منزل مقيمة في القاهرة، فوقعت أيضاً ضحية للمعلومات الجنسية المُضللة التي حصلت عليها عبر مجموعات “فيسبوك” المغلقة، والتي يتحدث فيها نساءٌ غير خبيرات كمتخصّصات في الجنس، ما تسبّب، بحسب ما قالته مريم لـ”سمكس”، بمشاكل جنسيّة وصحيّة هدّدت سلامتها، وتسبّبت بتوترٍ كبير في علاقتها بزوجها.
قبل زواجها، كانت مريم واحدة من الفتيات اللواتي لم يُسمح لهنّ التحدث عن الجنس قبل الزواج، كما كانت والدتها تخبرها “بأنها ستدرك كلّ شيء عن الجنس بعد الزواج”، مما جعل من الإنترنت مصدرها الأول للتعرف على حياتها الجنسية الجديدة التي بدأت للتو بعد الزواج.
يتأثر التثقيف الجنسي في مصر بالمحرمات والقيود الاجتماعية، إذ تغيب برامج التربية الجنسية عن المناهج المدرسيّة، ولا يقدّم الأهل بديلاً عنها داخل البيت. بحسب دراسة أجراها “مجلس السكان الدولي”، وهو منظمة مقرّها نيويورك، تعنى بدراسة وبحث مواضيع الصحة العامة والعلوم الاجتماعية، فإنّ 60% من الأهل يتجنبون مناقشة المعلومات الجنسية خوفاً من “انخراط بناتهم/ن في نشاطٍ جنسي قبل الزواج”، كما يخشى المدرسون/ات مناقشة موضوعاتٍ مثل البلوغ والجنس ووظائف الأعضاء التناسلية وغيرها، مع طلابهم/ن، خوفاً من ردود فعل أولياء أمورهم/ن.
تتّسق هذه الأرقام مع مخرجات مسحٍ أجرته “الحب ثقافة”، وهي منصة عربية متخصّصة في مواضيع الصحة الجنسية والإنجابية في مصر، عام 2019. وقد أفاد المسح بأنّ 88% ممن تتراوح أعمارهم/ن بين 18 و30 سنة استقوا معلوماتهم حول الصحة الجنسية من وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإباحية ومواقع أخرى عبر الإنترنت، والتي تنشر الكثير من المعلومات المضلّلة، وتتخذ لنفسها صفة الخبير وهي تبعد كلّ البعد عن ذلك.
بناءً على ما سبق، تشير النتائج إلى فجوة معرفيّة في الثقافة الجنسية بمصر، ومع الانتشار والتوسع السريع في عالم المعلومات الرقمية، الذي يقابله صمتٌ شبه تام على صعيد القطاع التربوي والأسرة، بدأت مصادر المعرفة والتربية الجنسية تتبدّل. وفقاً لتقريرٍ صادرٍ عن منظمة “اليونيسكو” في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، سعى 71% من الشباب في الدول الأفريقية للحصول على التثقيف والمعلومات الجنسية التي يجهلونها عبر الإنترنت، خلال عامٍ واحد، ما جعلهم/ن ضحايا لمخاطر المعلومات المُضللة.
التضليل المعلوماتي
نشأت ليلى في أسرةٍ محافظةٍ لا تناقش أيّ موضوعاتٍ تتعلق بالجنس. في مقابلة مع “سمكس”، تقول ليلى إنّها تعرّفت على دورتها الشهرية بطريقة وصفتها بـ”المرعبة”، إذ كانت حدثاً غامضاً لم تخبرها أمّها عنه سوى بعض المعلومات المقتضب ولم تسترسل في الشرح، ما جعل الفتاة تشعر بالعار والخجل من جسدها لسنواتٍ طويلة، وفضّلت البقاء على جهلٍ بالمواضيع الجنسية والصحية على مناقشتها والسؤال عنها.
“بدا لي كلام الأطباء معقداً وغير مفهوم، كما لم تُشبع المواقع الطبية فضولي ولم يكن مضمونها مكتوباً بلغة أستطيع استيعابها، فبحثت عبر وسائل التواصل عن معلوماتٍ أقلّ تعقيداً، ولكنني واجهت صعوباتٍ كبيرة في التواصل مع زوجي في المواضيع، وكنت أِعتقد بأنني أفعل كل ما بوسعي، ولم أكن أعلم كيف أعبر عن احتياجاتي لأنني لم أكن أعلم بالضبط ماذا أريد”.
يوثّق البحث الذي أجرته “سمكس” بعنوان “من المشاركة إلى الصمت: تقييم مدى قمع محتوى الصحة والحقوق الجنسية والإنجابيّة على المواقع التواصل الاجتماعي في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا“، سياسات الإشراف على المحتوى وممارسات منصّات التواصل في ما يخصّ المحتوى المتعلّق بالصحّة والحقوق الجنسية والإنجابية (SRHR) في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا (WANA).
كشفت نتائج البحث أنّ قيوداً على هذا المحتوى فُرضت على المنظمات وصانعي/ات المحتوى الذين نشروا عن الصحّة والحقوق الجنسية والإنجابية، إذ أزيل محتواهم، ورفضت إعلاناتهم، وتمّ حصر انتشارهم العضوي. كما جرى تقييد المحتوى الخاص بهم لانتهاكه سياسات المنصات في ما يتعلق بالمحتوى “الجنسي” أو “البالغ”. وعلى الرغم من أن سياسات المنصّات تنصّ على حالات استثنائية لنشر المحتوى “الجنسي” و”البالغ” والعاري لأسباب تعليمية وطبيّة وفنيّة، إلا أنّ البحث وثّق حالات عدّة عارضت فيها المنصّات سياستها الخاصة من خلال إزالة المحتوى التعليمي والفني وغيره المتعلّق بالصحة والحقوق الجنسية والإنجابية.
هذا الواقع الذي وثّقته الجهود البحثيّة، تسبّب بغياب أصوات الاختصاصيين/ات الموثوقين، وسمح بانتشار الأخبار المضللة والمعلومات الكاذبة التي تنشرها مواقع إلكترونية وحسابات يديرها هاوون أو مدوّنون لا يملكون الخبرة الطبيّة التي تخوّلهم تناول مواضيع وقضايا من هذا النوع.
تعزو مديرة برنامج الحقوق والصحة الإنجابية في “مؤسسة قضايا المرأة“، وهي مؤسسة غير حكومية مصرية لدعم حقوق النساء، الدكتورة ماجدة سليمان، في حديث لـ”سمكس” سبب التضليل المعلوماتي للفتيات إلى “الجوع للمعرفة” الذي يدفعهن نحو مواقع غير متخصصة، مستغلة الجهل الجنسي والفضول بتقديم معلومات مضللة تضر أكثر مما تفيد.
تشير سليمان إلى أن الجهل بالصحة الجنسية والإنجابية، وانتشار المعلومات الخاطئة، يمكن أن يسبب تأثيرات خطيرة على النساء، منها اتخاذ قرارات صحية غير صحيحة، زيادة المخاطر الصحية والاعتداءات، وتأثيرات سلبية على العلاقات الزوجية.
وبحسب سليمان، فإنّ الطريقة الوحيدة لتجنب التضليل المعلوماتي هي إتاحة الوصول للمعلومات الدقيقة الموثوقة من قبل المتخصصين، لاتخاذ القرارات السليمة، بالإضافة إلى توجيه الآباء على طرق ممارسة التربية الجنسية مع أبنائهم، وفتح مجالٍ للحوار الصريح والحرية في طرح الأسئلة والتحدث عن مخاوفهم، وتبسيط المعلومات الجنسية حسب العمر.
من جهته، يقول خبير أمن المعلومات المصري وليد حجاج في مقابلة لـ “سمكس” إنّ “المعلومات المُضللة تنتشر بسرعة عبر وسائل التواصل والإنترنت، مما يصعّب مساعي احتوائها أو تصحيحها، لتتسبّب بمخاطر تهدّد تشكيل وعي المجتمع وإثارة الفتن أو التأثير على القرارات الرشيدة وسلوك الناس”.
ولتجنب التضليل المعلوماتي، ينصح حجاج باعتماد آلية تفكيرٍ نقدي عند قراءة أيّ معلومة، وتجنّب المشاركة التي تلي مشاعر الانفعال والصدمة، والتحقق من مصادر المعلومات بشكلٍ دائم، وتجنب المصادر المشبوهة.
مبادرات محدودة بنشر الثقافة الجنسية
تحاول منظمات المجتمع المدني الاهتمام بقضايا الصحة والحقوق الجنسية والإنجابيّة من خلال إطلاق الحملات التوعوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعقد الورش التثقيفية ونشر المعلومات عن لسان مختصّين.
مركز “تدوين” لدراسات النوع الاجتماعي، وهو إحدى المنظمات التي تستهدف القضاء على العنف القائم على النوع الاجتماعي بالتثقيف الجنسي للشباب والشابات في مصر، أطلق منذ نشأته عدداً من الحملات كحملة #مش_عيب التي استهدفت إنهاء الوصم المتعلق بالتثقيف الجنسي في مصر، ونشرت مقاطع فيديو حول الأمراض المنقولة جنسياً، وعنف الشريك، والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
من جهة أخرى، عملت مبادرة “براح آمن”، وهي مؤسسة نسويّة مصريّة، على بناء الجانب المعرفي بالحقوق الجنسية والجنسانية لمساندة الناجيات من الانتهاكات والعنف الجنسي. أمّا “الحب ثقافة“، وهي منصة عربية متخصصة في مناقشة مواضيع الصحة الجنسية والإنجابية، فتقدّم معلوماتٍ طبية مدعمة بالأبحاث العلمية، ومقالاتٍ وتجارب شخصية تتناول مواضيع الجنسانية والصحة الجنسي والإنجابية.
على الرغم من الجهود المبذولة من قبل المجتمع المدني والناشطين/ات في مجال الصحة والحقوق الجنسية والإنجابيّة، يبقى واقع التثقيف الجنسي في مصر وغيرها من الدول تحدياً كبير على الصعيدين المحلّي والعالمي؛ فاعتبار هذا المحتوى منافياً للآداب العامة، ومسحه من المناهج التربويّة، وتقييده على منصّات التواصل رغم موثوقيّته، يترك النساء في مهبّ ريح المعلومات المُضللة التي يحصلن عليها من منصّات التواصل ومواقع الويب، التي تمثّل، بالنسبة إلى كثيرات، مصدر المعلومات الأوّل والوحيد.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.