مع ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كورونا (كوفيد-19) في مصر، ازداد تقييد حرية التعبير والرأي وتجريم الحقّ فى تداول المعلومات، حيث احتكرت الدولة المصرية وصف “الخبر الصحيح” وحصرته بالخبر الصادر عن الجهات الرسمية مع اعتبار ما دونه خبراً كاذباً يستوجب الملاحقة القضائية.
وازدادت حالات التحقيق الجنائى والحبس الاحتياطي للمواطنين، والنشطاء، والأطباء، والصحفيين، بتهمة تداول ونشر معلومات كاذبة حول الوباء، خصوصاً بين آذار/مارس وحزيران/يونيو 2020، وهي الفترة التي شهدت زيادة يومية في أعداد المصابين في البلاد.
وممّا مثّل نقلة نوعية في توجيه الاتّهامات بشكل واسع ضد مُستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، هو البدء في تطبيق “قانون مُكافحة جرائم تقنية المعلومات” (قانون الجريمة الإلكترونية) في آذار/مارس 2020 مع بداية الجائحة، بعدما كان قد صدر في آب/ أغسطس 2018. هذا بالإضافة إلى التوسّع في استخدام “قانون مُكافحة الإرهاب” الذي يُعتمد عليه للتحقيق مع مُستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي أمام نيابة أمن الدولة العُليا ( قضاء ذات طابع استثنائي)، والذي يتضمّن بدوره اتهامات فضفاضة مثل ترويج ونشر أخبار أو بيانات كاذبة، يشتمل على وصلاحيات واسعة لتتبّع الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، حسبما يشرح المحامي حسن الأزهري لـ”سمكس”.
محاكمات كورونا
شهدت مصر عدّة قضايا حول نشر أخبار عن انتشار الوباء أو حالات إصابة أو وفاة تحصل ضمن الأطقم الطبية، مثل القضيتين رقم 535 لسنة 2020 أمن دولة ورقم (558) لسنة 2020 أمن دولة، الليتشن شملتا عدداً من الأطباء، والصحفيين، والنشطاء، والمواطنين، والباحثين.
على سبيل المثال، في القضية رقم (558) لسنة 2020 حصر أمن دولة، أُلقي القبض على المذيع خالد حلمي غنيم بسبب منشور على “فيسبوك” عن إهمال إحدى المستشفيات لمرضى فيروس كورونا؛ وقُبض على رئيس تحرير جريدة “القرار الدولي”ـ عاطف حسب الله السيد، بسبب منشور على “فيسبوك” يعلّق فيه على ارتفاع أعداد المصابين قبل أن توّجه النيابة العامة اتّهامات له “بالانضمام إلى جماعة إرهابية وبثّ أخبار كاذبة” ثمّ تأمر بحبسه 15 يومًا على ذمّة التحقيق. كما أُلقي القبض على المحامي محسن البهنسي، وهو عضو في لجنة الحريات بنقابة المحامين المصرية، بسبب منشور على”فيسبوك” عن انتشار الفيروس.
أثارت تلك المحاكمات تساؤلات قانونية حول المعيار القانوني الفاصل بين الخبر الكاذب ونشر المعلومات وحرية تداولها، كما حول الإطار القانوني لانتقاد السياسات الحكومية المتخذة لمواجهة الوباء وبشأن اعتبار انتقادها خبرا كاذباً أم استعمالاً لحقّ النقد المتفرّع عن حرية التعبير.
يؤكّد المحامي مصطفى فؤاد، نائب مدير منظمة “هيومينا” لحقوق الإنسان والمشاركة المدنية، في مقابلة مع “سمكس”، أنّ “انعدام الشفافية وحرية تداول المعلومات حول الأرقام الحقيقية هى سبب التشكيك في الأرقام المعلنة”، وهو ما يدفع المواطن إلى تداول معلومات مخالفة لما يصدر عن الحكومة. ويرى أنّ الحكومة المصرية تحاول قمع الانتقادات عن طريق توجيه الاتّهام بنشر أخبار كاذبة لكّل من ينشر عن حالة الوضع الوبائي في مصر أو ينتقد طريقة تعامل الدولة مع مصابي فيروس كورونا.
هل كلّ تشكيك في البيانات الحكومية خبر كاذب؟
يُرجع تقرير مؤسّسة “حرية الفكر والتعبير” (afte) بعنوان “الجائحة لا توقف القمع” المنشور في حزيران/يونيو 2020، أسباب القبض على النشطاء والأطباء والمواطنين بسبب بنشر معلومات حول فيروس كورونا وتداولها إلى ثلاثة أسباب: توجيه انتقادات لسياسات وزارة الصحة في التعامل مع الوباء؛ وتناول معلومات حول وجود إصابات غير معلن عنها؛ والمطالبة بالإفراج عن السجناء خوفًا من تفشي العدوى في السجون.
يرى المحامي حسن الأزهري، وهو باحث قانوني مع “مسار” – “مجتمع التقنية والقانون”، في مقابلة مع “سمكس”، أنّ الخلط بين الخبر الكاذب من جهة وحرية الرأي وتداول المعلومات من جهة أخرى، يعود إلى “غياب تشريع يسمح للمواطنين بالوصول إلى المعلومات الصحيحة بطرق رسمية، وكذلك إلى اعتبار السلطات أيّ معلومة خبراً كاذباً”.
فقانون العقوبات المصري لا يعرّف الخبر الكاذب، لكنّه فى الوقت نفسه يضع معايير لوصف “جريمة” نشر الخبر الكاذب تقوم على أن يكون نشر الخبر الكاذب وإذاعته متعمّدَين، وأن يكون للناشر نية سيئة. ويقول في المادة 102 مكرّر: “يُعاقب كلّ من أذاع عمداً أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة إذا كان من شأن ذلك تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة”.
والدستور المصري يعتبر انتقاد السياسات الحكومية المتخذة والتشكيك فى البيانات الصادرة عنها حقاً مشروعاً، بحسب المواد 65 و 72 من الدستور.
وفى ذلك، استقرّت أحكام المحكمة الدستورية العليا على أنّ “الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير أن تكون مدخلاً إلى توافق عام، بل أن يكون بصونها كافلاً لتعّدد الآراء وإرسائها (المحكمة الدستورية العليا، طعن رقم 6 لسنة 15 قضائية –دستورية، جلسة 15 نيسان/أبريل 1995). واعتبرت كذلك أنّ “انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته، حقّ مكفول لكلّ مواطن، وهي حرية يقتضيها النظام الديموقراطى غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة ، من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة ، وعبر الحدود المختلفة ، وعرضها فى آفاق مفتوحة” (المحكمة الدستورية العليا، طعن رقم 42 لسنة 16 قضائية –دستورية ، جلسة 20 أيار/مايو 1995).
ولكن في الواقع، فإنّ التحقيقات مع المقبوض عليهم على خلفية نشر أخبار كاذبة بخصوص فيروس كورونا، فهي بحسب الأزهري “لم تتناول واقعة الخبر الكاذب، ولا يوجد تفاصيل تتعلق بالاتهام بنشر خبر كاذب. فلا يوجد رابط بين توجيه الاتهام والتحقيق، ما يعني عدم إمكانية وصف المعلومة المتداولة بالخبر الكاذب المستوجب للمحاكمة الجنائية”.
يعتبر الأزهري أنّ المعلومات التي ينشرها المواطنون “يجري تداولها من قبيل التشكيك في البيانات الصادرة عن أجهزة الدولة حول حجم انتشار الفيروس، وهذا نابع من مشاهدة ومتابعة المواطنين الأوضاع على أرض الواقع بحيث يقارنون ما يحصل في بلدهم مع ما يحصل على مستوى العالم والدول المجاورة”.
“مواجهة حرية تداول المعلومات ونشرها بالمحاكمات دليل على وجود خلل قانوني، فالدستور والقوانين يفترض أن تكون لصالح المواطن وليس من أجل تقييده”، يختم فؤاد من “هيومينا”.