“ماما، يا ريت تفهميني، أنا مش البنت دي. أحلفلك أن [الصورة] دي متركبة والله العظيم مش أنا… أنا يا ماما بنت صغيرة مستاهلش اللي بيحصلي ده.. انا جالي اكتئاب بجد. أنا يا ماما مش قادرة، أنا بختنق، تعبت بجد”.
هذه هي الكلمات الأخيرة التي كتبتها الشابّة بسنت خالد (16 عاماً) في رسالةٍ دوّنتها بخطِّ يدها قبل لحظات من إقدامها على الانتحار في شهر كانون الأوّل/ديسمبر 2021، بعد أن هدَّدَها عددٌ من الشبّان بنشرِ صورٍ لها مُعدَّلة رقمياً على الإنترنت.
تُقدِّم وسائل التواصل الاجتماعي مساحةً يحتاج إليها الرجال والنساء على حدّ سواء لمشاركة تجاربهم/نّ مع التحرُّش الجنسي في مصر، إلَّا أنَّها في المقابل وضعت الكثيرين، مثل الشابّة بسنت خالد، في دائرة الخطر.
تقول هالة مصطفى، المُنسِّقة العامّة لمبادرة “شفت تحرّش”، إنّ “الأدوات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي ساعدت في حالات كثيرة على تصوير حالات التحرُّش ورصدها والإبلاغ عنها، ولكنَّها أدّت في حالات أخرى إلى الإضرار بالكثير من الفتيات – حتّى أنَّها أودت بحياة البعض منهنّ”. وتضيف أنّه “بمجرّد وجود امرأة بارزة على وسائل التواصل الاجتماعي، ستتعرّض حتماً للاعتداءات المجتمعية والإهانات فضلاً عن انتهاك حرمة حياتها الخاصّة بدرجة معيّنة”.
“شفت تحرّش” هي واحدة من عدّة مبادرات تستخدِم منصّات التواصل الاجتماعي والأدوات الرقمية لرصد وتوثيق التحرُّش الجنسي في مصر. ولكن، نظراً لاختلاف درجة الوصول إلى تكنولوجيا الاتّصالات والمعلومات العصرية بين الذكور (52.4%) والإناث (41.3%)، يصبح بالتالي من الصعب على العديد من النساء الاستفادة من هذه المبادرات.
وعموماً، في منطقتنا ما يُقارِب 63 مليون امرأة لا يستخدمن الإنترنت عبر الأجهزة المحمولة بسبب عوائق كثيرة من بينها الأعراف الاجتماعية التمييزية، بالإضافة إلى العجز عن تحمُّل التكاليف، والمخاوف بشأن السلامة والأمن، والأُمّية الرقمية، وفقاً لتقرير”الفجوة بين الجنسَيْن في استخدام الأجهزة المحمولة” لعام 2021.
تضييق الفجوة الرقمية بين الجنسين
توضح ياسمين حمدي، إحدى المتطوّعات في مبادرة “شفت تحرّش”، أنّه “رغم نجاح الحملات المختلفة في رفع مستوى الوعي بين النساء والفتيات حول التحرُّش الجنسي، لا يزال التغيير محدوداً لأنَّ الإنترنت ليسَ مُتاحاً للجميع، وبالتالي لا يستطيع كلّ الناس الوصول إلى المحتوى المنشور عبر الشبكة”.
لتضييق هذه الفجوة، تقترح حمدي التشجيع على الإبلاغ عن العنف القائم على النوع الاجتماعي عبر المكالمات الهاتفية وتوفير الاتّصال المجاني بشبكة الإنترنت للفتيات والنساء في المدارس والمكتبات العامّة.
ومع ذلك، لا يقتصر الحلّ على المساواة في الوصول الرقمي، وفقاً لمصطفى التي تشرح لـ”سمكس” أنّه “لا يمكننا فصل مسألة العنف القائم على النوع الاجتماعي والتحرُّش عن قضية تمكين المرأة بشكل عام. فالتكنولوجيا الحديثة تُساعِد على تمكين المرأة اقتصادياً، ممّا يُتيح لها هامشاً أوسع من حرّية الحركة واتّخاذ القرار. وهذه هي النقطة التي يعارضها معظم المجتمع المصري”.
التحرُّش الجنسي بالنساء والفتيات في الأماكن العامّة في مصر هي ظاهرةٌ واسعة الانتشار وتكاد تكون حدثاً يومياً بحسب العديد من الدراسات المحلّية والدولية. كشفَ استطلاعٌ أجراه “الباروميتر العربي” عام 2020 أنَّ 90% من النساء اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 18 و29 عاماً و44% من مجموع النساء قد أبلغْنَ عن تعرّضهنّ للتحرُّش الجنسي خلال فترة 12 شهراً.
هذا وصُنّفت القاهرة كأخطر مدينة كبرى بالنسبة للمرأة لناحية العنف الجنسي، والممارسات الثقافية الضارّة، والوصول إلى مستوى جيّد من الرعاية الصحّية والتمويل والتعليم، بحسب استطلاعٍ آخر أجرته وكالة “رويترز” عام 2017.
منذ ثورة 25 يناير في مصر، عملت مبادرات تطوُّعية عديدة على رفع مستوى الوعي، وتوثيق حالات العنف والتحرُّش الجنسي والإبلاغ عنها، وتقديم الدعم للضحايا. وأسفرت حملات المناصرة عن إصدار القانون رقم 50 لسنة 2014 في مصر الذي وردَت فيه كلمة “تحرُّش” صراحةً للمرّة الأولى.
المبادرات المجتمعية تتصدّى للتحرُّش
نجحت حملات التشهير عبر الإنترنت، من خلال مبادرات مثل “أسولت بوليس” (Assault Police) “لمحاربة العنف الجنسي بكل أشكاله”، في الكشف عن الاعتداء الجنسي المتكرّر من قِبَل طالب جامعي في تمّوز/يوليو 2020. وأدّت شهاداتٌ أدلَت بها الناجيات، من دون الكشف عن أسمائهنّ، إلى الحكم على المتّهم بالسجن لثماني سنوات بتهمة الابتزاز والاعتداء الجنسي على ثلاث فتيات قاصرات.
مبادرة “اتكلم/ي” (Speak Up) هي مبادرة أخرى تُقدِّم منبراً آمناً للناجين والناجيات من التحرُّش الجنسي لمشاركة قصصهم/هنّ. نجحت المبادرة في مساعدة العديد من الضحايا في اتّخاذ الإجراءات القانونية في قضايا التحرُّش الجنسي والاغتصاب، بما في ذلك قضية مايكل فهمي وزوجته سالي عادل، المُتَّهمَيْن بارتكاب سلسلة من جرائم الاغتصاب.
وتُركِّز مبادرات أخرى، مثل “خريطة التحرّش” وتطبيق “ستريت بال” (StreetPal)، على المسح التفاعلي وتشجيع المارّة على التصدّي للتحرُّش الجنسي عند مشاهدته في الأماكن العامّة.
تشعر النساء والفتيات بمزيدٍ من الأمان والاستقلالية عندما تكون هواتفهنّ المحمولة معهنّ في الأماكن العامّة، كوسيلة للحماية من التحرُّش، وفقاً لمسحٍ أُجريَ في بوليفيا وكينيا ومصر والهند.
ولكنْ، منذ عام 2014، تتّخذ الحكومة المصرية تدابير تصعيدية ضدّ منظّمات المجتمع المدني، ممّا دفع بعض المنظّمات والمراكز الحقوقية إلى تقليص عملها. من خلال العديد من الأدوات القانونية والإجراءات القضائية، فرضت الحكومة قيوداً أدّت إلى الحدّ من قدرة منظّمات المجتمع المدني على تنظيم الفعّاليات العامّة أو عقدها. بالتالي، تلجأ معظم المبادرات إلى نقل عملها إلى الفضاء الافتراضي نظراً للعوائق التي تُعرقل نشاطها الميداني.
ساهمَ هذا التحوُّل في تسهيل التواصل بين الضحايا والمنظّمات المتخصّصة، وساعدَ المزيد من النساء على الإبلاغ عن التحرُّش الجنسي مع تجنُّب وصمة العار التي تنشأ عادةً عند الإبلاغ عن مثل هذه الانتهاكات.
مواجهة الخطاب الرسمي
بالإضافة إلى ذلك، قدَّمَ الفضاء الإلكتروني مكاناً بديلاً للمدوّنين/ات والناشطين/ات لمواجهة الحجج التي تتردّد عبر وسائل الإعلام الرسمية بشأن التحرُّش الجنسي، والتي تُلقي اللوم على الضحية بسبب ملابسها وسلوكها في الأماكن العامّة.
تعتبر أمل فهمي، رئيسة “مركز تدوين لدراسات النوع الاجتماعي” وإحدى مؤسِّسيه، أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي “أداة فعّالة جداً لنشر المعلومات على نطاقٍ واسع بسبب كلفتها المنخفضة ومعدّل انتشارها المرتفع. فهي تسمح لمنظّمات المجتمع المدني بتعزيز حضورها على هذه المنصّات وإنشاء محتوى جذّاب ومناسب لمُستخدِميها”.
تشير فهمي إلى وسائل التواصل الاجتماعي على أنّها “فرصة ذهبية”، رغم الفجوة الرقمية بين الجنسَين. وتستدلّ على ذلك بأنّ “كلّ ما هو شائع على وسائل التواصل الاجتماعي باتَ يُناقَش على القنوات التلفزيونية، ممّا يسمح للحملات بالوصول إلى عدد أكبر من الناس فيكون لها تأثير في تشكيل التصوُّرات العامّة والرأي العام”.
وتوضح أنَّه “مع انتقال المزيد من المجموعات النسوية الشبابية إلى الفضاء الرقمي لمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي بدون خبرة ميدانية سابقة، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة تمكين فعّالة للنساء ومنبراً لمعالجة المواضيع الحسّاسة”.
طلب المساعدة
يمكن أيضاً اللجوء إلى القضاء وطلب المساعدة عبر الإبلاغ عن حوادث التحرُّش عبر الإنترنت إلى “إدارة مكافحة جرائم الحاسبات وشبكات المعلومات”، المعروفة أيضاً بـ”مباحث الإنترنت“.
تتّفق أمل فهمي وهالة مصطفى على أنَّ مباحث الإنترنت تقوم بعمل جيّد في الاستجابة لمثل هذه الحوادث، إلَّا أنَّ المشكلة تكمن في أنَّ العديد من الضحايا لا يعلمون بتفاصيل عملية الإبلاغ.
من أجل رفع قضية تحرُّش إلكتروني، هناك إجراءات مباشرة تتطلّب من الشخص المتضرّر زيارة المكتب الرئيسي لمباحث الإنترنت في العباسية أو القاهرة أو أيّ من مراكزها الأخرى في أسيوط وسوهاج والمنيا والمنوفية وطنطا ودمياط. يمكنه أيضاً رفع شكوى من خلال الخطّ الساخن 108.
بموازاة ذلك، “من المهمّ تحويل تركيزنا إلى الفرصة التي تُتيحها وسائل التواصل الاجتماعي لهذه الحركات النسائية الشبابية، وكيفية جعل المحتوى الذي نُقدِّمه أكثر مراعاةً لاعتبارات النوع الاجتماعي، وكيفية جعل هذه المساحات الافتراضية أكثر أماناً للنساء”، وفقاً لفهمي. “فمشهد العمل على قضايا التحرُّش مساراً نحو التغيير”.
الصورة الرئيسية من AFP.