خلال كلمةٍ ألقاها في مجلس النواب اللبناني في 25 حزيران/يونيو الجاري، قال النائب ياسين ياسين إنّ “ما يجري في هذا القطاع لا يمكن السكوت عنه بعد اليوم. قطاع كان يفترض أن يكون أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، يوشك أن يتحول إلى عبء نتيجة الإهمال، وغياب الحوكمة، والتعدي المتكرر على القوانين”.
ليست هذه المرّة الأولى التي يؤتى فيها على ذكر غياب الحوكمة كسببٍ بارز أدّى إلى وصول قطاع الاتصالات تحديداً إلى ما هو عليه اليوم. فما هي الحوكمة؟ ولماذا يعدّ العمل بها شرطاً أساسياً على صعيد مؤسّسات الدولة؟ وكيف أثّر غيابها على قطاع الاتصالات في لبنان؟
كيف نُعرّف الحوكمة وما أهمّيتها في قطاع الاتصالات؟
تُعرّف الحوكمة على أّنها إدارة المرافق العامة والموارد الطبيعية استناداً لأحكام القانون بما يضمن نموها المستدام ويراعي المصلحة العامة وحقوق المواطنين. وتحقق الحكمية الصالحة هذه الأمور بطريقة خالية أصلاً من سوء المعاملة أو الفساد، وتعتبر مراعاتها لحقوق الإنسان المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية بمثابة الامتحان الحقيقي لنزاهتها.
وتشكّل الشفافية، والمسؤولية، والمحاسبة، والعدالة، المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها الحوكمة لضمان إدارة المرافق بنزاهة وفعاليّة، بما يضمن تحقيق أهدافها.
أمّا بالنسبة للحوكمة في لبنان بصورة عامة، فصنّف بنك الاستثمار العالمي، “غولدمان ساكس”، لبنان في المركز 66 بين 74 سوقاً ناشئة عام 2023، وفي المركز 11 بين 12 دولة عربية على مؤشره السيادي البيئي والاجتماعي والحوكمة للأسواق الناشئة لعام 2024. واستناداً إلى مجموعة البلدان ذاتها في استطلاعَي العامين 2023 و2024، انخفض ترتيب لبنان بين الأسواق الناشئة بمقدار ثلاث درجات. نتج عن هذا الواقع سنواتٌ من الفساد المستشري، والتوظيف العشوائيّ، وإيلاء الأولويّة للمصالح الشخصية على حساب مصالح المواطنين/ات.
وعلى صعيد قطاع الاتصالات تحديداً، الذي يعدّ من أكثر القطاعات قدرة على درّ الأرباح لخزينة الدولة، تبرز مشاكل بدائيّة كان يمكن تفاديها بسهولة لو طُبّقت أسس الحوكمة، منذ تأسيس الوزارة عام 1950 (وزارة البريد والبرق والهاتف آنذاك)، وصولاً إلى يومنا هذا.
وفي سياقٍ حقوقيّ، أثّر انعدام العمل بالحوكمة على تمكين المستخدمين من الحصول على خدمات الاتصالات والإنترنت، والتي تعدّ أدوات أساسية لتعزيز حرية التعبير، في ظلّ غياب سبل حماية خصوصيتهم ووجود آليات مساءلة فعالة في حال حدوث أي انتهاك.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المشكلة بدأت منذ سنوات طويلة، واستمرّت بالتفاقم مع الوزير الحالي وسلفه. ومن بين الأمثلة على ذلك، اعتكاف شركتيّ الاتصالات عن إصدار التقارير الماليّة وتقارير لشفافيّة التي ينبغي عليهما تقديمها، إذ جرت العادة أن تحصل الشركتان على مبلغٍ ماليّ محدّد، لتكون لهما حريّة التصرف به بالشكل الذي تريانه مناسباً، دون تقديم أيّ تقارير أو التصريح عن طرق صرف الأموال.
وفي نيسان/أبريل 2022، أصدر ديوان المحاسبة تقريراً خاصاً (رقم 2/2022 أساس 114/2021) من إعداد الغرفة الرابعة يتناول قطاع الاتصالات، مفنّداً كافة التفاصيل المتعلقة بقطاع الاتصالات. وقد كشف التقرير كيف هُدرت الأموال العامة بطَريقة ممنهجة حتّى وصل الأمر إلى التهديد بانهيار قطاع الاتّصالات إذا لم ترفع أسعار الاتّصالات.
نماذج عن نتائج غياب الحوكمة في قطاع الاتصالات في لبنان
ستارلينك
قرّر وزير الاتصالات حصر خدمة “ستارلينك” في مرحلتها الأولى بين 100 و 500 شركة فقط، بحجّة أنّ هذه الشركات تُعدّ الأَولى بالحصول على الإنترنت، غير أنّه لم يُجب عن جملة من الأسئلة الجوهرية المرتبطة بهذه الخدمة، ومنها: ما طبيعة الرخصة الممنوحة لـ”ستارلينك”؟ وما مدّتها؟ هل ستقوم الشركة بالاستثمار في بنى تحتية داخل لبنان؟ وهل ستساهم في خلق فرص عمل للشباب اللبناني؟ ولماذا اقتصر التفاوض على “ستارلينك” دون سواها، في حين أنّ هناك العديد من الشركات التي توفّر خدمات مماثلة؟
يُعدّ استقدام الإنترنت الدولي من الصلاحيات الحصريّة للدولة في لبنان، وذلك استناداً إلى المرسوم الاشتراعي رقم 126 الصادر عام 1959. وعليه، فإنّ تجاوز هذه النقطة لا يجوز أن يتمّ بموجب قرارٍ وزاري، بل ينبغي أن يُعالج ضمن مسار قانوني شفاف وواضح. كما أنّ منح التراخيص يُعتبر من الصلاحيات الحصرية للهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات، والتي لم تُشكّل أصلاً، لذلك، وبدلاً من التعدّي على صلاحياتها، الأجدى هو أن تُعطى الأولوية لتشكيلها ووضع خطة شاملة لتنظيم القطاع.
وأخيراً، هناك تحفّظٌ كبير على قرار وزير الاتصالات القاضي بحصر الشراكة مع “ستارلينك”، من دون فتح مجال المنافسة للشركات الأخرى التي تقدّم الخدمة ذاتها، ما يُثير تساؤلاتٍ حول مبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص.
وإلى جانب غياب الشفافية، يشكّل حصر هذه الخدمة بعددٍ محدود من الشركات انتهاكاً لمبدأ العدالة في الحق بالوصول إلى الإنترنت، ويعزّز التمييز في تقديم الخدمة بدلاً من تكريسها كحقٍّ عام وشامل. علاوة على ذلك، لم تُجرِ وزارة الاتصالات دراسة جدوى اقتصادية تبيّن مسبقاً ما إذا كان دخول “ستارلينك” إلى السوق اللبنانية سيشكّل مصدر ربح أم خسارة، لا سيّما وأنّ حصة الدولة من هذا المشروع لم تُحدّد قيمتها بعد، ما يثير تساؤلاتٍ جدية حول مدى الشفافية والتخطيط السليم في اتخاذ هذا القرار.
ولا تزال لجنة الاتصالات النيابية مرتابة من هذا الملف، كما أكّد رئيسها الحاجة إلى أعلى مستويات الكفاءة لأجهزة الإتصالات مع ضابطتين رئيسيتين، الأولى تخصّ الموضوع الأمني والتأكّد من أنّ الخدمة لن تتسبّب بأي خروقات أمنيّة، وثانيها له علاقة بالمردود الاقتصادي، والعائدات التي ستعود بها ستارلينك على الدولة”.
الإنترنت غير الشرعي
تُعدّ هيئة “أوجيرو” الجهة الأساسية المسؤولة عن استجرار الإنترنت من الخارج لصالح لبنان، ومن ثم توزيعه محلياً. أمّا عملية التوزيع الداخلي، فتتولاها الهيئة بنفسها باعتبارها مزوّد خدمة إنترنت، فيما يؤمّن مزوّدو خدمات الإنترنت المرخّصين (ISPs) خدمة الإنترنت لعملائهم عبر “أوجيرو” أيضاً.
ويبلغ عدد مزوّدي خدمات الإنترنت المرخّصين في لبنان نحو 97 شركة، إلا أنّ عدداً كبيراً منهم يمنح خدماته لموزّعين غير مرخّصين في الأحياء، يُقدَّر عددهم بالمئات، ويشكّلون ما يُعرف بـ”شبكات الإنترنت غير الشرعي”.
تقوم هذه الشبكات غير الشرعية بتغذية نحو 800 ألف مشترك، في مقابل الشبكة الرسمية التابعة للدولة، التي تؤمّن خدمة الإنترنت لنحو 420 ألف مشترك فقط، موزّعين بين “أوجيرو” التي تبلغ حصّتها قرابة 250 ألف مشترك، ومزوّدي خدمات الإنترنت المرخّصين الذين يبلغ عدد مشتركيهم نحو 170 ألفاً.
ومن جهة أخرى، يوجد في لبنان خمس شركات تعمل كمزوّدي خدمات بيانات (DSP)، ويشمل عملها نقل البيانات وربط المراكز، بالإضافة إلى امتلاكها لمزوّدي خدمات إنترنت.
من أين يحصل موزّعو الأحياء غير المرخّصين على الإنترنت؟ يستمدّ الموزّعون غير المرخّصين، الذين لا يسدّدون أيّ ضرائب، الإنترنت من الشركات المرخّصة، سواء كانت من مقدّمي خدمات الإنترنت (ISP) أو مزوّدي خدمات البيانات (DSP). والدليل الأبرز على تورّط بعض مزوّدي الإنترنت المرخّصين في تزويد هذه الشبكات غير الشرعية بالسعات، هو الفارق الكبير بين حجم السعات التي يستأجرونها من وزارة الاتصالات وعدد المشتركين المسجّلين رسمياً على شبكة الدولة، وهو ما وثّقه تقرير ديوان المحاسبة الصادر عام 2021. وبخلاف القانون، أسّس هؤلاء الموزّعون شبكات توزيع إنترنت خارج نطاق البنى التحتية لهيئة “أوجيرو”، عبر الكابلات والبث الهوائي (مايكروتك).
لا شكّ أنّ الخسائر التي تتكبّدها الدولة اللبنانية نتيجة وجود شبكات الإنترنت غير الشرعية ضخمة جداً. ويكفي أن نشير إلى أنّ هذه الشبكات تحرم الدولة من إيرادات الاشتراكات، ومن الضريبة على الأرباح، فضلًا عن ضريبة القيمة المضافة (TVA).
يجب أن تُعدّ معالجة ملف الإنترنت غير الشرعي كأولويّة قصوى، وخطوة تسبق أي خطوات إصلاحية أخرى، لما لها من دور حاسم في توفير خدمات إنترنت ذات جودة عالية، وبأسعار تخضع لرقابة السلطات الرسمية، وتُرفد خزينة الدولة بإيرادات مستحقّة.
المحافظ الإلكترونيّة
خدمة المحفظة الإلكترونيّة هي خدمة أساسيّة تقدّمها شركات الاتصالات لمشتركيها في الكثير من الدول. وقد اعتبر عددٌ من النوابٍ والخبراء أنّ الدولة عبر شركتي الاتصالات لديها مدخلٌ لهذه الخدمة غير متاحٍ لأي شركة تحويل للأموال، ومن شأنه وضع كلّ عمليات التحويل في إطار شرعيّ، ومنع التهرّب من التصريح الماليّ، مع الحفاظ على الأرباح من العمولات، وحماية بيانات المشتركين الّتي تشمل نحو خمسة ملايين مستفيد من خدمات شبكتي “الفا” و”تاتش” بالإضافة إلى تطوير خبرات موظّفي الشركتين، ورفع قيمتهما السّوقيّة.
لم تكن تعاميم مصرف لبنان الّتي شجّعت التحوّل نحو الاقتصاد الرقميّ كافيةً لتطلق شركتا الموبايل اللبنانيتان محفظتيهما الإلكترونيّتين. فقد وضعت أمامهما عقبات مُفتلعة من قبل وزير الاتصالات السابق جوني القرم. وعليه، نُزع حقّ إنشاء هذه المحافظ من “ألفا” و”تاتش” لتوضع تحت جناح مؤسّساتٍ ماليّة، منها شركة “سيول”.
تنوّعت حجج القرم التي لا أساس لها ولا سند. بدايةً، كانت حجّته الأساسية هي أنّ مصرف لبنان المركزيّ لم يعطِ شركتي الخليوي الترخيص اللازم لإنشاء محافظ إلكترونية خاصة بهما، ليتبيّن لاحقاً أنّ طلباً لم يتقدّم في الأصل لنيل الترخيص. بعد ذلك، عاد الوزير ليقول إنّه لا يثق بقدرات “ألفا” و”تاتش” لاتخاذ هذه الخطوة، ثم التحجّج بعدم توفّر الموارد المالية والوقت للدخول بمشروع محفظة إلكترونية تنفّذه الشركتان.
إذا سلّمنا جدلاً بأنّ كلّ ذرائع وزير الاتّصالات السّابق صحيحة، فهل يُعقل أن يكون الحلّ هو استقدام شركاتٍ ستكون شريكاً مضارباً، تنافس شركتي “ألفا” و”تاتش”، وتقوم بعملهما، وتستفيد من أرباح هذا المشروع بدلاً من أن تعود هذه الأرباح إلى خزينة الدولة؟ وهل يُعقل أن تُسلَّم بيانات كلّ مستخدم لدى شركات الاتّصالات في الأراضي اللبنانيّة إلى طرفٍ ثالثٍ غريب؟
لو كان مبدأ الحوكمة مطبّقاً في إدارة ملف الاتصالات تحديداً، لما عانى القطاع من مشاكل وخسائر متراكمة بهذا الحجم منذ سنوات. وعليه، ينبغي على السلطات التعلّم من هذه التجربة والعمل بناءً على معايير الحوكمة لاحتواء العجز الحاصل، وتفادي التسبّب بالمزيد من الخسائر التي تثقل كاهل المواطنين/ات وتستنزف خزينة الدولة.
ويملك وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج شركتين لتوزيع الإنترنت. بعد تسلّمه منصب الوزير، أكّد الحاج أنّ لا علاقة له بهما بعد الآن، إلا أنّ تقارير صحافيّة أكّدت العكس تماماً. ويأتي هذا التحفّظ بناءً على إمكانيّة اتخاذ الوزير لقراراتٍ تؤثّر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على أرباح هاتين الشركتين. وعلى الرغم من توجيه برلمانيين اثنين سؤالاً للوزير بهذا الشأن، لم يقدّم الأخير أيّ ردٍّ حتى الآن.
وفي الختام، نذكر بأنّ السلطات اللبنانيّة ما زالت تحتكم إلى القانون القانون 431 الصادر عام 2002 للاتصالات، الذي لم يخضع لأي تعديلاتٍ أو تغييرات منذ 23 سنة.
الصورة الرئيسية من AFP.