بدأت ليبيا خلال السنوات الأخيرة الماضية تشهد موجات متكرّرة تستهدف تطبيقات وسائل التواصل والمواقع الإلكترونيّة، إلّا أنّ البعض اختار أن يبني خطابه حول التهديد الذي تشكله وسائل التواصل على “قيم المجتمع الليبي والآداب العامة”، فتعالت أصوات لحجب تطبيق “تيكتوك”، واخرى لمحاكمة المنشورات وأصحابها على سائر مواقع التواصل.
تعمل هذه الحلقات في سلسلة متّصلة لضمان توحيد الخطاب والجهود الساعيّة لطمس أصوات المستخدمين/ات المغرّدين/ات خارج السرب أو يدخلون مشاهد أو مواد “لم تعتد عليها العين الليبيّة”، وآخر هذه الحلقات كان قانون رقم 5 لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية، الذي يعطي صلاحيات بانتهاك حقوق الإنسان ومبادئ الخصوصيّة بذريعة الحفاظ على تماسك وأمن المجتمع.
كان لانشقاق ليبيا إدارياً وعسكرياً إلى قسمين عام 2011 تبعات سلبيّة على كافة الصّعد، خاصة التشريعي منها. وما ينتج عن ذلك من نسيان، أو تناسٍ بالأحرى، للأحداث والقوانين والتجاوزات التي تهدّد حقوق الإنسان في العالمين الواقعي والافتراضي، ليس أمراً يُمكن تجاهله، بغضّ النظر عن الجهة المسؤولة عنها، رسميّة كانت أم لا.
وتبلورت الأزمة الليبية مع ظهور سلطتين حكوميتين: حكومة فايز السراج المعترف بها دولياً ومقرها العاصمة طرابلس، وحكومة عبدالله الثني ومقرها طبرق وتحظى بدعم الجنرال خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي.
مطالبات بحظر “تيكتوك”
في أيار/مايو 2022، وجهت “مفوضية المجتمع المدني بطرابلس، والتي تهدف إلى “التأكيد على دور منظمات المجتمع المدني والرفع من أدائها ودعمها والحفاظ على استقلاليتها في تأديتها لأهدافها”، وزارة الاتصالات الليبيّة بحظر تطبيق “تيكتوك”، بحجّة أنها تروّج للـ”انفلات الأخلاقي وتروّج لسلوكيات سيئة داخل المجتمع”، إضافة إلى “تأثيرها بشكل سلبي في أخلاق المجتمع الليبي المحافظ وثقافته”.
وفي تغريدة نشرها عبر حسابه على موقع “تويتر” في شباط/فبراير 2023، قال رئيس “اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا”، أحمد حمزة، إنّ “حظر وحجب تطبيق تيك توك في ليبيا بات ضرورة وطنية ومُجتمعية تستوجبها دواعي الحفاظ على الآداب العامة والنظام العام والقيم المجتمعية والوطنية والدينية للمجتمع الليبي ولحماية حقوق وحريات المواطنين وخاصة منها حق حماية الخصوصية، ولما بات يُشكله هذا التطبيق من إخلال بالآداب العامة”.
ولجعل مطلبها هذا أكثر جدّية ورسميّة، أصرّت اللجنة على توجيه كتابٍ للنائب العام مطالبة إيّاه بحظر التطبيق الصيني. يبدو المشهد غريباً وفيه شيءٌ من العدوانيّة من قبل هذه الأطراف، التي آثرت استخدام لغة فضفاضة وغير محدّدة، فضلاً عن أنّ اللجنة، أي اللجنة الوطنيّة لحقوق الإنسان في ليبيا، من المفترض أن تكون مهمّتها صون ومناصرة حقوق الإنسان، لا العمل بما يضرّ بها، خاصّة وأنها تذرّعت بالقانون 5 لسنة 2022 المتعلّق بمكافحة الجرائم الإلكترونية، والذي عليه ما عليه من تحفّظات وتهديدات على حقوق الإنسان.
أثارت المطالبات غضب ناشطين/ات ومدوّنين لما تشكّله من تهديد على الحرّيات في ليبيا، واعتبروها محاولة لـ”فرض الوصاية على مستخدمي التواصل الإجتماعي ومنعهم من التعبير عن
آرائهم بكل حرية أو التدخل في اختيار ملابسهم وسلوكياتهم”.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ استمرّت المطالبات بحجب التطبيق على مدى الأشهر الماضية، وتحوّلت إلى قضية رأي عام حتى وصل الأمر إلى انتشار الإشاعات والأخبار الكاذبة التي أفادت بحظر “تيكتوك” فعلياً في البلاد. وعلى الرغم من أن قراراً رسمياً لم يصدر لمنع “تيكتوك”، إلا أنّ جهات رسمية تبنّت المطالبات، منها مكتب الهيئة العامة للاتصالات والمعلوماتيّة، الذي أرسل كتاباً لمدير مكتب رئيس الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية، طالب فيه بـ”إعداد خطبة جامعة شاملة لبيان خطورة المواقع الإلكترونية والتطبيقات الخبيثة الموجودة بشبكة المعلومات الدولية لتعميمها على المساجد […] مع إلقائها على المنابر..”
قانون للجرائم الإلكترونية
في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2021، اتخذ مجلس النواب الليبي قراراً بإصدار قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية يوم 27 أيلول/سبتمبر 2022، دون سابق إنذار وفي تجاهل تام للمطالب السابقة لمنظمات المجتمع المدني وأربعة من المقررين الخواص للأمم المتحدة بسحب القانون وعدم تطبيقه نظراً لتعارضه مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والتزامات ليبيا الدولية.
وقال خبراء الأمم المتحدة في تعليق على القانون في مارس/آذار 2022 إن مشروع القانون “يمكن أن يكون له تأثير خطير على التمتع بالحق في حرية الرأي والتعبير والحق في الخصوصية”.
ولم يستشر مجلس النواب في شرق ليبيا (بنغازي) أيّ جماعات مدنية أو خبراء في التكنولوجيا أو الجرائم الإلكترونية. بحسب “هيومن رايتس ووتش”، تشمل أوجه القصور الرئيسية في القانون الليبي لمكافحة الجرائم الإلكترونية تعريفات “غامضة وفضفاضة يمكن أن تدعو إلى الملاحقة القضائية للتعبير السلمي، ومعاقبته بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاما وغرامات صارمة”.
علاوة على ذلك، يمنح القانون الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات سلطة واسعة لمنع الوصول إلى مواقع الويب والرقابة على المحتوى الرقمي في حالات “المتطلبات الأمنية أو العاجلة”، أو عندما يتعارض المحتوى المعني مع “الآداب العامة”، من دون إعطاء تعريف واضح لماهيّة “الآداب العامة”. كما يمنح القانون الهيئة الحق في مراقبة الرسائل والمحادثات الإلكترونية بين الأفراد.
وأخيراً، ينصّ القانون على أنّ “كل من بث إشاعة أو نشر بيانات أو معلومات تهدد الأمن والسلامة العامة في الدولة أو أي دولة أخرى من خلال شبكة المعلومات الدولية أو استعمال أي وسيلة إلكترونية أخرى في ليبيا أو أي بلد آخر، يواجه عقوبة سجن طويلة”.
نزع “قانونية” المجتمع المدني في ليبيا
أصدر مجلس القضاء الأعلى الليبي في 8 آذار/مارس الماضي حكماً بعدم شرعية منظمات المجتمع المدني التي تشكّلت بعد عام 2011، أي بعد إسقاط الرئيس الليبي السابق معمّر القذافي (1969-2011)، متذرّعة بأن هذه المنظمات، التي يتجاوز الستة آلاف، شُكّلت دون الرجوع إلى قانون صادر عن مجلس النواب الليبي.
وبناء على ذلك، أعلنت الإدارة القانونية، أن “كافة المنظمات والجمعيات التي جرى تشكيلها استناداً إلى لوائح تنظيمية صادرة عن السلطة التنفيذية، دون الاستناد لأيّ قانون تشريعي، فإنها والعدم سواء، ويتعيّن على الجهات العليا في الدولة اتخاذ الإجراءات اللازمة لحلّها”.
بناءً على ما سبق، طالب التعميم رقم (5803) الصادر عن مدير إدارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بديوان رئاسة الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية في 13 آذار/مارس الوزارات بعدم التعامل مع مؤسسات المجتمع المدني، وطالب فيه الإدارات المختصة بسحب تراخيص جميع المنظمات غير الحكومية التي أُنشئت منذ عام 2011.
واجه القرار ناشطو/ات ومنظمات المجتمع المدني، إذ أصدرت 22 منظمة بياناً مشتركاً اعتبرت فيه التعميم “الأحدث في سلسلة الهجمات على المجتمع المدني في ليبيا”، ومن شأنه “يجعل جميع منظمات المجتمع المدني غير قانونية، ويعني في النهاية إغلاق مجال العمل المدني بالكامل في ليبيا”.
يلعب الانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد دوراً كبيراً في هذه الفوضى، بحسب المختص في التحوّل الرقمي أمجد بدر. “فوجود حكومتين في طرابلس وبنغازي أدّى إلى انقسام الجهتين التشريعيّة والقضائيّة إلى أجسام متنازعة، خاصّة وأنّ المحكمة الدستورية قررت عدم النظر في قضايا الانقسام السياسي بتاتاً منذ عام 2015″، يشرح لـ”سمكس”.
دفعت هذه التطورات “ديوان المحاسبة” في طرابلس، الذي يمثّل الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة في ليبيا ويتبع السلطة التشريعية مباشرة، إلى الاجتماع مع بعض منظمات المجتمع المدني في 21 آذار/مارس، واتفق الطرفان على وضع استراتيجية تعاون وإنشاء شبكة اتصال تمهيداً لتوقيع “مذكرة تفاهم للعمل المشترك”، بحسب ما أعلنه الديوان.
كما قال الديوان عبر صفحته على “فيسبوك” إن الاجتماع الثاني يأتي “استكمالاً للاجتماع التنسيقي الأول، وتعزيزاً للدور التعاوني بين الأجهزة العليا للرقابة ومؤسسات المجتمع المدني لأجل مكافحة الفساد، ووفقاً للاختصاصات المخول بها الديوان وفق قانون إعادة تنظيمه والقرارات التنظيمية الصادرة عن رئاسة الديوان بشأن استراتيجيات الاتصال والتواصل مع المجتمع المدني، وما تنادي به المنظمات الدولية المعنية بعمل الديوان بضرورة التواصل مع أصحاب المصلحة”.
وخلال ربيع 2022، اعتقلت السلطات الليبيّة عدداً من المراهقين الناشطين في المجتمع المدني بتهمة الإلحاد ونشر الأفكار الغربيّة، كما فتحت تحقيقات وفرضت إجراءاتٍ تعسّفية للتضييق على الأفراد والمنظمات التي تعمل تحت مسمّى المجتمع المدني، بحسب بدر.
على غرار ما يحدث في مصر، وتونس، والعراق، ولبنان، ليس الواقع الليبي إلّا نموذجاً حياً وراهناً يثبت دأب حكومات منطقتنا المستمرّ لبسط سيطرتها من خلال التضييق على الحريات في الفضاء الرقمي خاصّة، ليس في ظلّ غياب بنية سياسية وتشريعيّة وقضائيّة قاصرة عن رسم حدود لهذه المحاولات فحسب، بل في ظلّ تواطؤ وتسهيل واضح منها في أحيان كثيرة.
لا يبدو عام 2023 الذي دخل شهره الرابع مبشّراً لواقع الحقوق الرقمية في ليبيا، كما في غيرها من دول منطقة شرق آسيا وشمال أفريقيا، فهل ستسمرّ الأمور بالتفاقم على نفس المنوال؟ أم أننا قد نشهد انفراجات تخفّف من حدّة هذا الواقع؟