في مطلع أيلول/سبتمبر، 2022 لم تكتفِ القوات التابعة لحفتر (قوات شرق ليبيا أو ما يسمّى “الجيش الوطني الليبي” التي يقودها الجنرال خليفة حفتر) بحصار منطقة أبوهادي جنوب سرت، “بل وقطعت الإنترنت والاتصالات” عن المنطقة، متذرّعة بأنّها تشن حملة أمنية للقبض على مطلوبين بالمنطقة، حسبما أفادت منظمة “رصد الجرائم الليبية”.
يبدو أنّ قطع الإنترنت أصبح نهجاً أو سلاحاً بين المتصارعين في ليبيا وحتّى لكتم أصوات المعارضين على اختلاف فئاتهم، مثلما حصل خلال التظاهرات التي شهدتها العاصمة طرابلس حيث “قطعت السلطات عمداً” شبكة الاتصالات والإنترنت. ولا تقتصر الانتهاكات الرقمية في ليبيا على قطع الإنترنت، بل تتعدّاها لتصل إلى اقتحام الخصوصية والسجن بسبب التعبير، وحتّى القتل في بعض الأحيان.
انتهاك الخصوصية
منذ سنوات والليبيون يتعرّضون لانتهاكات الخصوصية بشكل دائم وممنهج، كما يقول ناشط اجتماعي ليبي لـ”سمكس”، رفض الإفصاح عن هويته لأسباب أمنية، مضيفاً أنّها “غالباً ما تصدر عن المليشيات والجماعات المُسلّحة التي تنضوي تحت أيدي السلطات”. يشرح الناشط أنّ أكثر الحالات تحدث على الأرض “عند نقاط العبور والتفتيش بين المناطق، حيث يوقف المسلّحون المواطنين الليبيين ويطلبون كلمة مرور الهاتف وحساباتهم على وسائل التواصل (خاصة فيسبوك) للاطّلاع على المراسلات الخاصة بُغية جمع المعلومات وتحديد الولاء السياسي”.
في المقابل، تعزّز ممارسات بعض المؤسّسات هذه الانتهاكات، مثلما حصل عند نشر الأرقام الوطنية للمتقدمين على وظيفة مهندس كهرباء في شهر آب/أغسطس الماضي، وفقاً لما يقوله خبير ليبي في وسائل التواصل لـ”سمكس”، وقد رفض أيضاً الكشف عن اسمه نتيجة الخوف من الملاحقة، بانتقاده الجهات الحكومية حول انتهاك خصوصية المواطن الليبي. وسبق أن حصلت حادثة مشابهة مع نشر بيانات خاصة بالطلاب على المواقع الإلكترونية للمدراس والأكاديميات “من دون أيّ كلمة مرور للطالب وكشف البيانات أمام الجميع”.
رقابة ذاتية
نتيجة الخوف من التدقيق والملاحقة أو حملات التشويه من قبل الموالين للجهات الحاكمة أو الميليشيات المُسيطرة، يُعرِض الكثير من الليبيين عن الانخراط في المناقشات الرقمية على منصات التواصل حول السياسة أو القضايا الراهنة، ويبتعدون عن المساحات الرقمية العامة، “مفضّلين الانخراط في مجموعات صغيرة مُغلقة في بعض التطبيقات ضمن محادثات يشوبها التحفّظ أو التمويه في الكثير من الأحيان”، بحسب محامية وناشطة ليبية في حديثها مع “سمكس”. تشير المحامية التي فضّلت عدم ذكر اسمها تجنّباً لأيّ تبعات قد تطال سلامتها، إلى أنّ هذا النوع من الرقابة الذاتية “تسبّب في غياب صوت المواطن الليبي وتلاشي التغطية الإعلامية الدولية بعد أن باتت المنصات الرقمية مصدراً أساسياً لكبرى وسائل الإعلام العالمية والمنظمات الإنسانية والجمعيات الداعمة لحقوق الإنسان”.
في المقابل، استغلّت جهات كثيرة هذا الانتشار الواسع لمواقع التواصل، “فكثرت الصفحات الشخصية أو الحسابات الوهمية في ليبيا، والتي باتت جيوشاً الكترونية تعمل على نشر أسماء وحسابات الناشطين الذين ينتقدون الميليشات أو السلطات وتهدّدهم بالقتل أحياناً”، على حدّ قول الخبير الليبي المُتخصّص في مواقع التواصل الاجتماعي لـ”سمكس”. يكشف الأخير بأنّه “لا يوجد دليل ملموس على تبعية هذه الصفحات رسمياً للسلطات أو الميليشيات، ولكنّ أفعالها موالية في طبيعة الحال، وتخدم سياسات وأهداف السلطات أو الميليشيات”. على سبيل المثال، في آذار/مارس من العام الجاري، اقتحم “الدعم المركزي” وهي مؤسسة أمنية تابعة لوزارة الداخلية، عيادة طبيب التجميل عبد العظيم عريف في مدينة سرت، وقبض عليه بعد حملة تحريض من قبل صفحات على “فيسبوك” مثل “سرت القرضابية 2” و”أبو بكر الورفلي” وغيرها، وفقاً للخبير.
هذه الممارسات التحريضية الرقمية، والتي تحمل في الكثير من الأحيان أفكاراً دينية وعقائدية، قد ينتج عنها أفعال جرمية في الواقعي. منذ عامين تقريباً، قُتلت المحامية والناشطة البارزة حنان البرعصي رمياً بالرصاص في مدينة بنغازي شرقي ليبيا، بعدما كانت بثّت مقطع فيديو مباشراً عبر صفحتها على “فيسبوك” انتقدت فيه مجموعات مسلحة مُقرّبة من القائد العسكري خليفة حفتر.
نهج مستمر
للسلطات الحاكمة نهجها أيضاً في التضييق على الناشطين والمعارضين عبر الويب، حيث عمدت السلطات على تشريع القمع، من خلال إقرار مجلس النواب الليبي في تشرين الأول/أكتوبر في عام 2021 “قانون مكافحة الجرائم الالكترونية” الذي يتضمّن إجراءات سالبة ضد الحريّات، كحجب المواقع الإلكترونية أو حذف المحتوى غير المرغوب به، دون أي قرار أو إذن قضائي. وبالإضافة إلى ذلك، تتضمّن مواد القانون تعابير عامة تجيز للقاضي سلطة استنسابية في التفسير وصلاحية تقديرية واسعة لجهة الأدلة والتجريم، ما أتاح للسلطات تطبيقه باستنسابية.
وفي آب/أغسطس 2020، حكمت المحكمة العسكرية في في بنغازي على المصوّر والناشط الليبي إسماعيل بوزريبة الزوي بالسجن لمدة 15 عاماً، بسبب تدوينات رأي وانتقادات لجهات من السلطة. ولكن أفرج عنه في أيلول/سبتمبر 2021 بعد جهود وضغوط خارجية دولية من عدةّ منظمات دولية منظمة مثل “مراسلون بلا حدود” وغيرها.
وفي العام 2018، اعتقلت السلطات الأمنية بحجة “خدش الحياء العام” عدداً من العاملين في مقهى في مدينة بنغازي، حيث كانت مجموعة من الفتيات تنظم لقاءات بهدف خلق مساحة حوار للمرأة في ليبيا، وذلك بعد انتشار هاشتاغ #تجمع_بنات_تويتر. ادّعت وزارة الداخلية الليبية في بيانٍ لها بأنّ اللقاء كان بمثابة “حفلة ماجنة ومختلطة وجب التدخل لإيقافها”، مما عرّض المشاركات لحملة تشويه وصولاً إلى تهديدهنّ وعائلاتهنّ بالقتل.
وبسبب فيديو على “فيسبوك” يوثق اعتراض سيارة مدنية وصدمها من قبل سيارة عسكرية كانت ترافق موكب رئيس الحكومة، اختُطف المواطن فيصل أبو بكر بلحاج في حزيران/يونيو الماضي في مدينة مصراتة من قبل “قوة العمليات المشتركة” التابعة لحكومة الوحدة الوطنية.
ومن الحالات البارزة الأخرى أيضاً، حادثة اختطاف قوات تابعة للواء حفتر الناشطة الحقوقية والمدونة نادين الفارسي، ابنة الضابط في الشرق الليبي العقيد سعيد الفارسي، خلال شهر آب/أغسطس الحالي، في مدينة بنغازي. وقد اعتقلت نادين “بهدف إسكات المعارضة في الخارج، ومنهم ابنتي بعد تهديدها لإجبارها على إغلاق صفحاتها وعدم التدوين ضد حفتر وأبنائه”، وفقاً لما يقوله الأب.
وكانت حادثة اعتقال مشابهة حصلت مع السيدة افتخار بو ذراع المُحتجزة في بنغازي منذ 4 سنوات بسبب دعوتها عبر وسائل التواصل إلى مناهضة الفوضى وعسكرة الدولة في شرق ليبيا.
ما يحدث في ليبيا انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، يتمثّل جزء منه في الحصار الرقمي الذي تفرضه السلطات. وكلّ هذا يترافق مع غياب شبه تام لتوثيق الانتهاكات نظراً لقلّة المصادر وخوف مُستخدمي وسائل التواصل من مشاركة الأخبار أو الصور والفيديوهات التي توثّق الانتهاكات.