في مطلع شهر آب/أغسطس 2024، تصدّرت تركيا عناوين الأخبار بعد أن حجبت فجأة تطبيق “انستغرام”، الذي يمثّل إحدى منصّات التواصل الأكثر استخداماً في البلاد.
واعتبرَ العديد من وكالات الأنباء والجمهور على نطاقٍ أوسع أنَّ هذا الحجب مرتبط بالقيود التي فرضها موقع “انستغرام” على المحتوى الداعم لإسماعيل هنية، وهو زعيم بارز في حركة “حماس” قُتِلَ في غارة جوّية إسرائيلية في طهران. وقبل أيّام قليلة من قرار الحجب، ردّت السلطات التركية بقوّة على الرقابة التي فرضتها المنصّة على المنشورات التي تُعرِب عن التعزية بهنية، علماً أنّ تركيا لا تُصنِّفه كإرهابي.
تنتهج “ميتا”، الشركة الأم لموقع “انستغرام”، سياسةً تهدف إلى حجب المنشورات التي تدعم الأفراد أو المنظّمات الذين يُعتبَرون خطرين أو إرهابيين. ويُصنَّف هؤلاء الأفراد وهذه المنظّمات على هذا النحو ضمن قائمة “المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين” التي لم تُنشر علناً.
لكنَّ “ميتا” أشارت رسمياً إلى أنَّ القائمة تتضمّن كلّ المنظّمات والأفراد الذين صنّفتهم الولايات المتّحدة على أنَّهم خطيرون أو إرهابيون. وبما أنَّ “حماس” تُعَدّ منظّمة إرهابية من جانب الولايات المتّحدة، فإنَّ إسماعيل هنية يُعتبَر فرداً خطراً. بالتالي، ستحذف “ميتا” كلّ المنشورات التي تمدحه أو تنعي وفاته.
في هذا السياق، يقول المدير التنفيذي لمنظّمة “سمكس” محمّد نجم: “إنّ قائمة “المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين” متحيّزة، ويؤدّي هذا إلى فرض رقابة واسعة في منطقتنا. ويشكّل حذف المحتوى الذي يُشيد بهنية أو يتحدّث عنه واحداً من بين أمثلةٍ ونماذج كثيرة”.
وندَّد رئيس دائرة الاتّصالات في الرئاسة التركية فخر الدين ألتون بإجراءات “انستغرام” واصفاً إيّاها بأنَّها حجبٌ وانتهاكٌ لحرّية التعبير، وهو موقفٌ شاركه فيه مسؤولون حكوميون آخرون، بينهم الرئيس رجب طيّب أردوغان الذي أعلنَ يوم حدادٍ على هنية.
فرضت هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات التركية هذا الحجب لمدّة تسعة أيّام، مُشيرةً إلى “جرائم مُصنَّفة” كسببٍ لهذا القرار، من دون تحديد الجرائم التي اتُّهمت “ميتا” بارتكابها أو تسهيلها. ولم يحصل قرار الحجب على موافقةٍ قضائية على الرغم من المَطلَب القانوني.
تسمح هذه الانتهاكات، التي حدَّدها قانون العقوبات التركي، باتّخاذ تدابير احترازية من دون حُكم مسبق، وتشمل الجرائم التي تُهدِّد أمن الدولة، والنظام الدستوري، والحكومة.
وإلى جانب التداعيات السياسية، اعتُبر قرار حجب موقع “انستغرام” هاماً بسبب تأثيره على الاقتصاد، إذ تعتمد الشركات التركية بشكل كبير على هذه المنصّة، وخصوصاً في قطاعاتٍ مثل التجارة الإلكترونية والسياحة.
وأشارت التقديرات إلى أنَّ الحجب كانَ يمكن أن يؤدّي إلى خسائر اقتصادية تُقدَّر بنحو 396 مليون دولار أسبوعياً، ما ينعكس على ملايين المُستخدِمين/ات والشركات في جميع أنحاء البلد.
تناقض في تطبيق سياسات “ميتا” للإشراف على المحتوى
تسبَّبَ قرار الحجب بردود فعلٍ سريعة وشديدة، حيث أدانَ كثيرون في تركيا هذا القرار واصفين إيّاه بأنَّه عملٌ غير مُبرَّر من أعمال الرقابة. وسارعَ الناس إلى تنزيل الشبكات الخاصّة الافتراضية (VPNs) وتجاوز قيود الوصول، حتّى أنَّ العديد منهم قد نزّلوا البرامج الضارّة عن طريق الخطأ على هواتفهم عن غير قصد.
ولم تُقدِّم الحكومة التركية أيّ تفسير آخر، بل أعلنت عن مفاوضاتٍ جارية مع “ميتا”.
وفي النهاية، رفعت تركيا الحجب بعد أن وافقت “ميتا” على الامتثال لبعض مَطالِب الحكومة التركية بحسب ما ذكرته التقارير، مثل حذف محتوى معيّن والالتزام بالقوانين المحلّية المتعلّقة بحرّية التعبير عبر الإنترنت. ولكن، ما زالت تفاصيل هذا الاتّفاق غير واضحة، ومن غير المُرجَّح أن تُجري “ميتا” تغييراً جذرياً لسياسات الإشراف على المحتوى في “انستغرام”.
لم تُكشَف بنود الاتّفاق، إلّا أنَّ وزير النقل والبنية التحتية أعلنَ عبر موقع “اكس” (X) أنَّ “ميتا” يجب أن تمتثل للقوانين الوطنية في تركيا.
وفي حين أعلن أعضاء الحكومة أنَّ موافقة “ميتا” تُعتبَر بمثابة انتصار، فإنَّ لدى الشركة مكاتب في تركيا، الأمر الذي يفرض عليها الالتزام بالقوانين المحلّية. وإلّا، قد تلجأ الحكومة أو القضاء التركي إلى فتح تحقيق أو فرض عقوبات. ويُعَدّ الحجب غير قانوني من الناحية النظرية، إذ كانَ ينبغي أن يحصل القرار على موافقةٍ من هيئةٍ قانونية.
يُشير الحجب الفوري من دون سابق إنذار ومن دون اتّباع الإجراءات القانونية إلى أنَّ الحكومة تسرّعت في هذه الخطوة السياسية لحشد الناخبين المحافظين باستخدام الحرب في غزّة ومقتل إسماعيل هنية، وذلك لأنَّ حزب أردوغان يخسر دعم ناخبيه.
وأضاف نجم أنَّ “الإشادة بالزعماء السياسيين الذين تعرّضوا للاغتيال، ولا سيّما الفلسطينيين، هي ممارسة شائعة في ثقافتنا”، داعياً “ميتا” إلى نشر قائمة “المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين” والالتزام بمبادئها بشأن الشفافية.
اعتبر موقع “انستغرام” أنَّ منشور رئيس دائرة الاتّصالات التركية فخر الدين ألتون الذي نعى فيه هنية ينتهك المبادئ التوجيهية للموقع، ولكنَّه لم يحذفه من المنصّة نظراً لـ “قيمته الإخبارية”. ومع ذلك، تُشدِّد سياسات الإشراف على المحتوى في “ميتا” على استخدام “الأسلوب الإخباري” بدلاً من الثناء والمدح عند التحدُّث عن الكيانات المُدرَجة ضمن قائمة “المنظّمات الخطرة والأفراد الخطرين”.
وقال المسؤول التركي في منشوره: “أدعو بالرحمة والعرفان للشهيد إسماعيل هنية في اليوم العاشر بعد استشهاده”، مُستخدماً أسلوباً إيجابياً واضحاً. لا يُعتبَر هذا المنشور بمثابة محتوى ذي قيمة إخبارية، وفقاً لسياسات “انستغرام”، ويجب بالتالي على الشركة أن تسمح على الأقلّ للجميع في المنطقة بالتعبير عن رأيهم بحرّية حول هذه المسألة بعدلٍ ومساواة.
“شهدنا حتّى الآن من “ميتا” تناقُضاً في تطبيق سياساتها. فمن ناحية، سمحت الشركة للمسؤولين الأتراك بنشر منشورات تُشيد بإسماعيل هنية في حين منعوا الآخرين في منطقتنا من مجرّد التعبير عن الأسى أو نشر أخبار عن اغتياله. إنَّها رقابة تعسُّفية من “انستغرام” بكلّ ما للكلمة من معنى”، يضيف نجم.
حتّى تاريخ نشر هذه المقالة، لم تكن الحكومة قد أصدرت أيّ بيان رسمي بشأن الحجب، باستثناء تغريدة على منصّة “اكس”.
بالإضافة إلى “انستغرام”، حظرت السلطات موقع “واتباد” (Wattpad)، وهي منصّة لمشاركة القصص، ولعبة الأطفال الشهيرة “روبلوكس” (Roblox)، بسبب اتّهامات بشأن إساءة معاملة الأطفال.
الاستخدام الاستراتيجي لقرارات حجب منصّات التواصل من قبل “حزب العدالة والتنمية” (AKP)
سبقَ للحكومة التركية أن اتّخذت مراراً قرارات تعسُّفية تنصّ على تقييد الوصول إلى منصّات التواصل أو حجبها كجزءٍ من جهود أوسع للسيطرة على الخطاب عبر الإنترنت والحدّ من المعارضة.
حُجب موقع “ويكيبيديا” في نيسان/أبريل 2017 في سياق “مخاوف بشأن الأمن القومي” بعد أن رفضت الموسوعة الإلكترونية حذف المحتوى الذي يربط تركيا بالمنظّمات الإرهابية، وفقاً للمسؤولين. واستمرَّ الحجب لمدّة ثلاث سنوات تقريباً وانتهى في كانون الأوّل/ديسمبر 2019 عندما قضت المحكمة الدستورية بأنَّه ينتهك حرّية التعبير.
كذلك، حُجِبَ موقع “يوتيوب” في عام 2014 بعد ظهور تسجيل صوتي مُسرَّب زُعم أنَّه يكشف عن نقاشات لمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى حول العمليات العسكرية في سوريا. وعادت المنصّة إلى العمل في نهاية المطاف بعد معارك قانونية، فضلاً عن الضغوط المحلّية والدولية على الحكومة.
وأخيراً، حظرت السلطات التركية موقع “تويتر” (“إكس” حالياً”) في مناسبات مختلفة. عام 2014، قُبيل الانتخابات المحلّية، حجبت الحكومة “تويتر” بعد أن تداول المُستخدمون على نطاقٍ واسع تسجيلاتٍ صوتية زُعم أنَّها تكشف عن الفساد في الحكومة. وفي عام 2023، حُجِبَ الموقع مؤقّتاً “منعاً لانتشار المعلومات المضلّلة” في أعقاب الزلزالين اللذين أوديا بحياة ما لا يقلّ عن 50000 ألف شخص.
تتزامن قرارات الحجب غالباً مع محطّات سياسية مفصلية ومشحونة، مثل الانتخابات أو الأحداث المهمّة التي تتحدّى خطاب الحكومة. وقد جاءَ حجب “انستغرام” في مرحلةٍ تتعرّض حكومة حزب العدالة والتنمية فيها لضغطٍ شديد. فقد أدّى ارتفاع معدّلات التضخّم في ظلّ الركود الاقتصادي وغياب الدعم الكافي للفلسطينيين إلى خسارة أردوغان للناخبين المحافِظين لصالح أحزاب سياسية أنُشئت حديثاً، مثل حزب “الرفاه الجديد” (Yeniden Refah)، خليفة حزب “الرفاه”، حيث لمعَ نجم أردوغان للمرّة الأولى كشخصية سياسية.