منذ عام 2019 حتى اليوم، نجحت 19 شركة ماليّة بنيل ترخيصٍ من مصرف لبنان المركزيّ لإنشاء المحفظة الإلكترونيّة الخاصة بها وطرحها في السوق، ولكن، على عكس النموذج المتّبع عالمياً، لم تكن شركتا الاتصالات المحليتين، “ألفا” و”تاتش”، من بين هذه الشركات.
بعد انهيار القطاع المصرفيّ في لبنان خلال العام نفسه، تصدّعت ثقة المودعين بالمصارف الّتي صادرت أموالهم. ومع تفاقم الأزمة، وغياب أيّ جهة ماليّة موثوقة يستطيع المقيمون في لبنان استخدامها لإجراء معاملاتهم الماليّة بأمان، دخلت البلاد عصر المحافظ الإلكترونيّة (E-wallet). والمحافظ الإلكترونيّة هي نظام دفعٍ إلكتروني يسمح للمستخدمين بإجراء عمليّات ماليّة عبر الهاتف الخليوي، إن كان للتسوق عبر الإنترنت، أو دفع الفواتير، وغيرها من الخدمات.
منذ عام 2019 حتى اليوم، نجحت 19 شركة ماليّة بنيل ترخيصٍ من مصرف لبنان المركزيّ لإنشاء المحفظة الإلكترونيّة الخاصة بها وطرحها في السوق، ولكن، على عكس النموذج المتّبع عالمياً، لم تكن شركتا الاتصالات المحليتين، “ألفا” و”تاتش”، من بين هذه الشركات.
حتى اليوم، لم تنشئ شركتا الخليوي أيّ محافظ إلكترونيّة خاصّة بهما، لأسباب غير منطقيّة لا تضع مصلحة المستخدمين وخزينة الدولة في سلّم الأولويّات.
ما الحاجة إلى محفظة إلكترونيّة خاصة بكلّ من “ألفا” و”تاتش”؟
خدمة المحفظة الإلكترونيّة هي خدمة أساسيّة (Core Service) تقدّمها شركات الاتصالات لمشتركيها في الكثير من الدول. وقد اعتبر عددٌ من النوابٍ والخبراء أنّ الدولة عبر شركتي الاتصالات لديها مدخلٌ لهذه الخدمة غير متاحٍ لأي شركة تحويل للأموال، ومن شأنه وضع كلّ عمليات التحويل في إطار شرعيّ، ومنع التهرّب من التصريح الماليّ، مع الحفاظ على الأرباح من العمولات، وحماية بيانات المشتركين الّتي تشمل نحو خمسة ملايين مستفيد من خدمات شبكتي “الفا” و”تاتش” بالإضافة إلى تطوير خبرات موظّفي الشركتين، ورفع قيمتهما السّوقيّة.
من الطبيعي أن تنشئ شركات الخليوي محافظها الخاصة، وهي ليست آليّة تتضارب مع مصالح المصارف في البلاد. وتعدّ هذه الخطوة أساسيّة لكي تتمكّن شركات الاتصالات من الاستمرار بتقديم خدماتٍ جديدة، وفق ما يقول خبير الاتصالات ومدير عام شركة “تاتش” سابقاً، وسيم منصور، في مقابلة مع “سمكس”.
“عندما تنشئ شركة الاتصالات محفظةً إلكترونيّة خاصة بها، تؤمّن بذلك خدمة داخلية تُضاف إلى مجموعة الخدمات الأساسية التي تقدّمها للمستخدمين، وتعود هذه الخطوة، إن نُفّذت، بإيراداتٍ يحتاجها القطاع، خاصة في ظلّ الوضع الحاليّ. سوف يساهم إنشاء محفظة إلكترونيّة خاصة بكلّ من “ألفا” و”تاتش” بالتخفيف من الأعباء المالية التي تثقل كاهل المشتركين، الذين يعانون من غلاء أسعار خدمات الاتصالات، المقرونة بقدرة شرائيّة محدودة في لبنان”، يضيف منصور لـ”سمكس”.
وأخيراً، لا يرتبط فتح سوقٍ جديدة للخدمات الماليّة بشركة الخليوي والمستخدم فحسب، بل يفتح مجالاً أيضاً أمام توسيع آفاق التجارة الإلكترونية، بحسب منصور، وذلك عن طريق التعاقد مع مؤسسات تجارية تسمح بدورها للمشتركين بالتسوّق وإتمام عمليّاتهم المالية عن طريق الأموال الموجودة في محفظتهم المالية، سواء لشراء البضائع أو الخدمات أو حتى تسديد الفواتير اليومية في المطاعم وغيرها.
وبذلك، سوف نكون بصدد ولادة اقتصادٍ جديد، وديناميكية ستغيّر مفهومنا للتعامل النقديّ والعلاقة بين شركات الخليوي، والمشتركين، والأسواق التجارية.
لا أسباب منطقيّة تعيق الخطة
لم تكن تعاميم مصرف لبنان الّتي شجّعت التحوّل نحو الاقتصاد الرقميّ كافيةً لتطلق شركتا الموبايل اللبنانيتان محفظتيهما الإلكترونيّتين. فقد وضعت أمامهما عقبات مُفتلعة من قبل وزير الاتصالات السابق جوني القرم. وعليه، نُزع حقّ إنشاء هذه المحافظ من “ألفا” و”تاتش” لتوضع تحت جناح مؤسّساتٍ ماليّة، منها شركة “سيول”.
بعد اطّلاعه على عرض “سيول” التي قُدّمت على أنّها الوحيدة القادرة على تقديم هذه الخدمة عوضاً عن “ألفا”، أصدر رئيس هيئة الشراء العام جان العليّة، توصية أكّد فيها على ضرورة “أنّ تتولى الشركتان تنفيذ الخدمة بنفسيهما، لما في ذلك من رفدٍ للخزينة بمزيدٍ من الأموال وحمايةٍ لبيانات مستخدمي شبكتي الخليويّ”.
وقدّم العلية نموذجاً لذلك استند فيه إلى آراء خبيرة، ويقضي بإطلاق مناقصةٍ تستدرج شركاتٍ عالميّة تعنى بالبرمجيات المتعلّقة بالمحفظة الإلكترونيّة، على أن يتمّ اختيار من يقدّم السّعر الأفضل. وفي هذه الحال، يكون السّعر الأفضل هو الرسم الأدنى الذي تتقاضاه الشركة عن كل عمليّة تحويلٍ تجري عبر برنامج الشركة الفائزة بالمناقصة.
أمّا وزير الاتصالات السابق جوني القرم فتبنّى ذرائع عجز الشركتين، ليؤيّد تلزيمها المهمّة إلى “شريكٍ مضارب” من مؤسّسات تحويل الأموال الحاصلة على ترخيصٍ من مصرف لبنان، كما شكّل جبهة لشيطنة توصية الشراء العام، وحاول تعريتها من قانونيتها.
تنوّعت حجج القرم التي لا أساس لها ولا سند. بدايةً، كانت حجّته الأساسية هي أنّ مصرف لبنان المركزيّ لم يعطِ شركتي الخليوي الترخيص اللازم لإنشاء محافظ إلكترونية خاصة بهما، ليتبيّن لاحقاً أنّ طلباً لم يتقدّم في الأصل لنيل الترخيص. بعد ذلك، عاد الوزير ليقول إنّه لا يثق بقدرات “ألفا” و”تاتش” لاتخاذ هذه الخطوة، ثم التحجّج بعدم توفّر الموارد المالية والوقت للدخول بمشروع محفظة إلكترونية تنفّذه الشركتان.
ليس الواقع أنّ لا حجج منطقيّة تدعم رفض إنشاء شركتي الاتصالات للمحفظة الإلكترونيّة الخاصة بهما فحسب، بل أنّ هناك حاجة حقيقيّة إلى السير باتجاه تحقيق هذا المشروع.
بيانات مستخدمي الخليوي
إن تجاهلنا كلّ الأسباب المتعلّقة بكون المحفظة خدمة أساسيّة ينبغي على شركات الاتصالات تقديمها، ودور إيراداتها في إنعاش قطاع الاتصالات تحديداً، تبقى مشكلة خصوصية بيانات المستخدمين التي ستكون في مهبّ الريح إن سُلّمت إلى طرفٍ ثالث توكل إليه مهمّة إنشاء المحافظ الإلكترونية الخاصة بـ”ألفا” و”تاتش”.
لكيّ تتمكّن أيّ شركة من إنشاء محفظة إلكترونيّة خاصة بشركتي الاتصالات، سوف تكون بحاجة للحصول على بيانات عملائهما، وبالتالي، ستكون هذه المعلومات الحساسة في أيدٍ أجنبيّة، مما يشكّل تهديداً كبيراً على هذه البيانات وأصحابها.
يعلّق محلّل السياسات في “سمكس”، ميتيهان دورماز، على هذا المأخذ بالتحديد، مشيراً إلى أنّ تسليم ملف تطوير نظام المحفظة الإلكترونية إلى شركة أجنبية بدلاً من مشغلي الهواتف المحليين يشكّل مخاطر جسيمة في ما يخصّ الامتثال للأنظمة المحلية وحماية المستخدمين بشكل عام.
بموجب هذا القرار، ستُنقل البيانات المالية والشخصية الحساسة للمستخدمين إلى كيان قد لا يكون خاضعاً بالكامل للأطر القانونية والتنظيمية في لبنان، بحسب دورماز، ومن دون ضماناتٍ واضحة بشأن توطين البيانات، والأمن، والرقابة، فقد يؤدي ذلك إلى انتهاك خصوصية المستخدمين ويُضعف سيطرة لبنان على بنيته التحتية المالية.
“في مثل هذه الحالة، لا تؤمّن التراخيص التي يمنحها مصرف لبنان سوى حماية قانونية للشركة الأجنبية، مما يزيد المخاطر بدلاً من الحد منها. لذلك، من الضروري جداً ضمان تطوير وإدارة المحافظ الإلكترونية محلياً، فالاتجاه العالمي الحالي في العالم الرقمي يسير نحو توطين البنية التحتية والخدمات الرقمية الأساسية، ولا ينبغي للبنان أن يتخلّف عن هذا الاتجاه، لما له من أهمية بالغة في الحفاظ على الاستقلال المالي وحماية بيانات المستخدمين من التأثيرات الخارجية”، يضيف دورماز.
توصيات لوزير الاتصالات الجديد
مع تشكيل حكومة جديدة وتعيين وزير اتّصالاتٍ جديد، يترتّب على السلطات المعنيّة اتخاذ خطوات جدّية لحلحلة هذا الملف، وإزالة كافة العوائق التي ما زالت تعرقل سبيل شركتي الاتصالات اللبنانيتين لإنشاء المحفظة الإلكترونية الخاصة بهما.
وفقاً لمنصور، لا بدّ بداية من مسارعة الحكومة ووزارة الاتصالات وشركتيّ الخليوي إلى إنشاء دفتر شروط لإطلاق خدمة المحفظة الإلكترونيّة الخاصة بهما. ويتمّ ذلك عن طريق استدعاء شركات مستثمرة في قطاع الاتصالات، تختصّ في تقديم هذا النوع من الخدمات، وتعمل على مبدأ البرمجية كخدمة (SAS، وهو اختصارٌ لاصطلاح Software as a service). باتباع هذا النظام، لا تتمّ مشاركة بيانات المستخدمين مع أطراف ثالثة، ولا تتقاسم خزينة الدولة أرباحها مع الشركة، بل تتقاضى الأخيرة رسماً عن كلّ عملية ماليّة تتمّ عبر المحفظة المنشأة.
ما يجعل من هذه الشركات الخيار الأمثل في هذه الحالة، وفقاً لمنصور، هو دورها ليس في تقديم نظام التشغيل فحسب، بل عملها الذي سيستمرّ بعد ذلك لتطوير هذا النظام وتطبيقه، بالإضافة إلى نقل خبراتها وإمكانياتها إلى كوادر العمل في الشركات المحليّة.
باتّخاذ هذه الخطوات، سوف نضمن شفافيّة في الممارسة الحكوميّة بفضل إنشاء دفتر الشروط وتنظيم المناقصات القانونيّة لاختيار الشركات، وحماية بيانات المستخدمين، بالإضافة إلى إكساب موظفي القطاع المحلي خبراتٍ جديدة، واحتفاظ خزينة الدولة بإيرادات هذه الخدمة بشكلٍ كامل.
مصادر ذات صلة: