مع اندلاع الحرب الإسرائيليّة على لبنان، نزح حوالى 1.2 مليون شخص قسراً من منازلهم، وتعطّل العام الدراسي لآلاف الطلّاب، للسنة السادسة على التوالي.
لحق الجزء الأكبر من الأذى بطلّاب المدارس الرسمية وموظّفيها، الذين كانوا يعانون أساساً من النقص في التمويل الحكومي وفي الموارد. فقد حوّلت حرب إسرائيل على لبنان 500 مدرسة رسمية، أي نصف عدد المدارس الرسمية في لبنان، إلى مراكز إيواء للنازحين قسراً. ولمدّة عام قبل ذلك أيضاً، واجه الطلّاب في جنوب لبنان صعوبةً في الحضور إلى المدارس بسبب القصف الإسرائيلي على قراهم.
أمّا المدارس الخاصة، فقد اعتمدت نُهجاً متنوّعة إزاء الوضع: عادت بعض المدارس في المناطق “الآمنة” إلى التعليم حضورياً، بينما اعتمدت مدارس أخرى نموذجاً هجيناً، كما تحوّلت بعض المدارس بالكامل إلى التعليم عن بعد، سواء من خلال طرق غير متزامنة (دورس مسجّلة مسبقاً) أو متزامنة (الصفوف الدراسية على الإنترنت).
بحسب “اليونيسيف”، عطَّل القصف الإسرائيلي العام الدراسي لحوالى 400,000 طفل. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال وزير التربية عبّاس الحلبي يصرّ على إجراء الامتحانات الرسمية هذا العام.
التحديات التي يواجهها الطلاب
من الصعب اعتبار أي منطقة في لبنان آمنة، لا سيّما أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي تشنّ الغارات على المباني السكنية وتنفّذ الاغتيالات في المناطق غير المستهدَفة مباشرةً في الحرب.
وأثناء التنقّل إلى المدرسة، يخاطر الأهل والطلّاب بالتواجد على الطرقات التي تُشنّ عليها “الاغتيالات المُستهدفة” في السيارات أو المباني السكنية.
بعيداً عن المخاطر، يتحمّل الطلّاب في المدارس عبئاً نفسياً كبيراً، لأنّه يُتوقّع منهم الحفاظ على أداء جيّد والقيام بكلّ واجباتهم المدرسية كالمعتاد على الرغم من أنّ الكثير منهم مهجّرون أو خسروا منازلهم أو أقاربهم. فاعتباراً من 27 أيلول/سبتمبر 2024، قتل القصف الإسرائيلي العشوائي 3,700 شخص على الأقلّ.
قالت إلسا حاوي، وهي طالبة تبلغ 15 عامأً من العمر ترتاد مدرسة في بعبدا، إنّه “عندما عُدنا إلى المدرسة، كنّا خائفين، ولم نكن نعلم ما إذا كانت الأصوات التي نسمعها ناتجة عن غارات أو جدارات صوت”. فمدرستها تقع في منطقة “آمنة”، ولكنّها قريبة من ضاحية بيروت الجنوبية التي استُهدفَت تكراراً بالغارات.
“إلّا أنّنا اعتدنا الأمر الآن، وأصبحنا نشعر بالأمان في المدرسة لأنّنا جميعاً معاً، ما يخفّف من الشعور بالخوف”، تابعت إلسا.
في بعض المدارس، يبقى الحضور الشخصي اختيارياً، والحضور الافتراضي إلزامياً. فيجتمع الأساتذة والطلاب الذين حضروا إلى المدرسة، ويبدأون اجتماعاً على الإنترنت عبر المنصّات التي استُخدمت خلال جائحة الكورونا (مثل “زووم Zoom” أو”غوغل ميت Google Meet” أو”ويبكس Webex” أو “مايكروسوفت تيمز Microsoft Teams” أو غير ذلك)، فينضمّ الطلاب الآخرون إلى الاجتماع من منازلهم.
قد يبدو هذا الحلّ مناسباً، إلّا أنّ الاتّصال بشبكة الإنترنت في لبنان ليس بدون تحدّيات. إلى جانب ضعف شبكة الإنترنت وعدم استقرارها، تُعتبر تكلفة شبكة الإنترنت من بين الأعلى في العالم. وصُنّفت تكاليف الاتصالات في لبنان من بين الأغلى في دول العالم، ما يجعل الوصول الدائم إلى الإنترنت مسعىً مكلفاً.
وازدادت صعوبة الاتّصال بالإنترنت في لبنان في ظلّ العدوان الإسرائيلي، فتفاقمت المشاكل التي يواجهها أساساً قطاع الاتصالات.
ذكرت منظّمة “سمكس” في مقالات سابقة كيف استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي ودمّرت عدّة أبراج اتصالات خليوية توفّر الاتصال بالإنترنت للكثير من مناطق بيروت، بما فيها مناطق من الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية.
بسبب استهداف فرق الصيانة ومنعها من الوصول إلى المحطّات المتضرّرة لإجراء الإصلاحات السريعة، لا تزال بعض الأبراج خارج الخدمة. وفي الوقت نفسه، تواجه محطّات الإنترنت في المناطق التي تستضيف النازحين ضغوطاً غير مسبوقة تؤدّي إلى بطء سرعة الإنترنت.
“الطلاب الذين يتابعون الدروس حضورياً لديهم أفضلية كبيرة على الطلاب الذين يشاركون عن بُعد”، أكّدت سامية كنعان، امرأة نازحة وأم لأولاد. “اضطررت إلى الانتقال للعيش في منطقة بعيدة عن مدرسة أطفالي، والطريق للوصول إلى المدرسة كل يوم ليس آمناً. ولم أجد أي بيوت للإيجار بالقرب من المدرسة”.
قالت كنعان أيضاً إنّها تستخدم راوتر 4G من شركة “تاتش”، واحدة من شركتي تزويد خدمات الاتصالات، لتضمن توفّر الإنترنت لأطفالها لحضور صفوفهم عن بُعد. مع ذلك، إنّ تكلفة إعادة شحن الراوتر باهظة، فالرسوم الحالية لشراء بطاقة SIM مُسبقة الدفع مع اتصال 4G عالية، وقد لا تكون منطقية لبعض السكان النازحين، إذ يبلغ سعر 25 غيغابايت من بيانات الجوّال 10 دولارات أميركية، في حين أنّ سعر جهاز الراوتر وحده يتراوح بين 27 و123 دولاراً أميركياً.
اختار البعض تركيب خدمات إنترنت لاسلكي في أماكن إقامتهم المستأجرة، وهذا خيار باهظ أيضاً. وفي حين استطاعت بعض الأُسر النازحة اللجوء إلى هكذا خيارات، بقيت أخرى محرومة من رفاهية الاتّصال المستقرّ بالإنترنت في مراكز الإيواء والأماكن الأخرى غير المجهّزة التي استأجرتها.
شرحت كنعان أيضاً أنّ الفريق كبير بين الطلاب الذين يحضرون شخصياً إلى المدرسة والطلاب الذين يشاركون عن بُعد. ومع أنّ بعض الأساتذة يحاولون التفاعل مع الطلاب الذين ينضمّون إلى الاجتماعات على الإنترنت، ينسى البعض الآخر وجودهم كلياً. وأحياناً، ينسى الأساتذة حتّى بدء الاجتماع الافتراضي لينضمّ الطلاب إليه عن بُعد.
“بما أنّ الطلاب الذين يشاركون عن بُعد لا يحصلون على جودة التعليم نفسها، فكيف يجب أن يتوقّعوا المساواة في الامتحانات والعلامات وأقساط المدرسة”؟ كما ذكرت كنعان لمنظمة “سمكس” أنّ عدداً من الأهالي كانوا ينتظرون أطفالهم خارج حرم المدرسة، خوفاً من أي أحداث سيئة مفاجئة.
عبء إضافي على المعلّمين
يواجه الأساتذة والمعلّمون أيضاً الصعوبات نفسها مثل طلابهم، بالإضافة إلى مسؤولياتهم تجاه الطلاب، التي يمكن أن تفاقم المشكلة وتؤدّي إلى يأس الأساتذة وانخفاض طاقتهم.
زينة النعماني هي معلّمة انتقلت بالكامل إلى التعليم عن بُعد، شاركت تجربتها في تدريس الصفوف المتوسطة والثانوية مع “سمكس”: “لم أكن من بين الأشخاص الذين اضطروا إلى النزوح، ولكنّ الاتّصال بالإنترنت لا يساعدني. في بعض الحالات، تعذّر عليّ التدريس عن بُعد بسبب انقطاع خدمة الإنترنت”.
تضرّ محدودية خدمة الإنترنت بالعملية التعليمية، وبخاصة لجهة المدرّسين، ويؤدّي الضعف في الشبكة إلى التأخير في شرح المواد التعليمية، فيصبح من الصعب أن يواكب الطلاب وتيرة التدريس.
في هذا السياق، قالت النعماني إنّ “المدرسة لم تدعم خيار توفير حزم إنترنت أو أي مساعدة مالية لشراء بيانات شبكة الخليوي”، وأضافت أنّ مدرستها قدّمت تدريباً عن الميزات الأساسية في “زووم”، مثل مشاركة الشاشة والإعدادات الأخرى، وبذلت جهداً إضافياً لتنظيم اجتماعات شخصية مع كلّ الأساتذة للتدرّب على استخدام المنصّة.
إلى جانب المشاكل العادية المنطوية على التعليم الإلكتروني، أصبح الطلاب والمعلّمون الآن يواجهون عبء النزوح القسري.
“أحياناً، أنادي الطلاب بأسمائهم ولا يجيبون. ولا نشغّل الكاميرات لأنّ بعض الأُسر نزحت ويعيش عدد من أفراد الأسرة في المكان نفسه”، شرحت نعماني. “بشكل عام، يرى الطلاب العرض التقديمي على برنامج “باور بوينت” (PowerPoint)، ويسمعون صوتي فقط”.
واعترفت نعماني بأنّها تحاول “الحفاظ على الإبداع والتفاعل أثناء التعليم، ولكنّ الوضع محبط. في بعض الأحيان، أطرح سؤالاً وأجيب عنه بنفسي. على عكس الظروف خلال جائحة كوفيد-19، أشعر بأنّنا نعيش بين الحياة والموت. أرهق أعصابي عندما أعمل على التحضير، مُدركةً أنّه، في أي لحظة، قد أسمع دويّ انفجار مفاجئ. لا أشعر بالدافع للعمل ولا أملك الطاقة للتصرّف وكأنّ شيئاً لم يكن، فكيف قد يكون حال طلّابي؟”
خطط وزارة الاتصالات
في وجه هذه التحديات، تواصلت منظمة “سمكس” مع وزير الاتصالات للاستفسار عن الخطّة المُرتقَبة للعام القادم.
أكّد وزير الاتّصالات جوني القرم أنّ الجهود جارية لضمان اتّصال أفضل للطلاب. وأشار بشكل خاص إلى ميزة “القائمة البيضاء” (Whitelist) في “مايكروسوفت تيمز” (Microsoft Teams) لحسابات الطلاب والمعلّمين في المدارس الرسمية.
شرحت سمر حلال، مسؤولة وحدة التكنولوجيا في “سمكس”، أنّ ميزة “القائمة البيضاء” تتطلّب استخدام شبكات 3G أو 4G، وتعمل على تصنيف الصفر للبيانات (data zero-rating)، ما يتيح الوصول إلى بعض الخدمات أو المنصات المحدّدة بدون استهلاك رصيد بيانات الجوّال.
لا شكّ أنّ “القائمة البيضاء” تقدّم منافع كثيرة، أهمّها السماح للطلاب بحضور الصفوف الدراسية على الإنترنت بدون اتّصال مباشر بشبكة “واي فاي”، إلّا أنّها تنطوي على بعض السلبيات أيضاً.
“قد يؤدّي استخدام القائمة البيضاء إلى ازدياد الثقل على شبكة الجوّال أو ازدحامه، فيصعب على الأشخاص المتواجدين بالقرب من مستخدمي القائمة البيضاء استخدام شبكات الجوّال”، وضّحت حلال، مشيرة إلى مخاوف أخرى متعلّقة بخصوصية المستخدمين/ات.
تتطلّب ميزة “القائمة البيضاء” أنّ يسجّل المستخدمون دخولهم باستخدام أرقام الهاتف مثلاً، بحسب حلال، ما يسهّل تتبّعهم في مراكز الإيواء، لا سيّما أنّه أصبح من غير الصعب الوصول إلى بيانات مثل الأسماء والمواقع الجغرافية. لذلك، “هناك حاجة ضرورية للتنسيق بين وزارة التعليم وشركة “مايكروسوفت” (Microsoft) ووزارة الاتّصالات لضمان اتّصال مستقرّ وآمن للجميع”.
أوضح قرم أنّه تم إعداد لائحة بحوالي 150 ألف من أسماء الطلاب والموظفين في المدارس الرسمية، لكنّ اللائحة لم تكتمل بعد نظراً إلى أنّ بعض الأسماء لا تزال ناقصة، مشيراً إلى أنّه طلب من مجلس الدولة “مضاعفة سرعة خدمة الإنترنت وسعتها مع الحفاظ على السعر نفسه”، وهذا تدبير مماثل للإجراءات المُتَّخذة خلال جائحة الكورونا.
أضافت حلال أنّ “سرعة الإنترنت تحسّن الاتّصال وتتيح إكمال عمليات التنزيل والتحميل بوقت أقل، بينما السعة الإضافية تزيد من قدرة الشبكة على معالجة بيانات أكثر. ويساعد ذلك في منع التباطؤ ويضمن استقرار الإنترنت وعدم انقطاعه حتّى عند استخدام الشبكة بشكل كبير في منطقة واحدة”.
في اتصاله مع “سمكس” ذكر قُرم أنّ الوزارة نسّقت مع مدير عام “أوجيرو” عماد كريديّه لإعداد لائحة بمراكز الإيواء البالغ عددها 1,100 بهدف تقييم ظروف النازحين وتحديد احتياجاتهم وإمدادهم بالاتصال بالإنترنت. وعلى الرغم من ارتفاع عدد النازحين في المآوي، يبقى قُرم متفائلاً لأنّ “المعدّات متاحة ولا يصعب تأمينها”، مشيراً إلى القدرة على تأمين اتصال الإنترنت للأشخاص النازحين.
كانت الوزارة و”أوجيرو” قد أعلنتا عن خططهما لإجراء مسح لمحطات الاتصالات في لبنان، وقد بدأ تنفيذ هذه العملية بعد أن استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدداً من أبراج شبكة الجوال ومنعت الوصول إلى البعض الآخر منها.
مع أنّ التدابير كثيرة، تبقى ظروف الطلاب في لبنان صعبة، وخاصة بالنسبة إلى الطلاب الذين نزحوا قسراً من الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية.
وفي حين أنّ الطلّاب في بعض المناطق يتابعون دراساتهم بشكل طبيعي إلى حد ما، خسر الطلاب في المناطق الأخرى عامهم الدراسي بالكامل بسبب الحرب. ففي ظل هذه الظروف، من الضروري وضع استراتيجية وطنية موحَّدة للتعليم تشمل الطلاب من كل الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية.
بعد اتفاقية هشّة لوقف إطلاق النار تنتهكها إسرائيل يومياً، يبقى الكثير من الطلاب الذين خسروا منازلهم أو الذين يعيشون في قرى مهدّدة غير قادرين على العودة. فهل ستنفّذ الحكومة اللبنانية استراتيجية وطنية فعالة لما بعد الحرب تضمن فرصاً متساوية لكل الطلاب للحصول على التعليم، حضورياً أو عن بُعد؟
الصورة الرئيسية من AFP