نُشِر هذا المقال للمرّة الأولى على موقع “التحرير لسياسة الشرق الأوسط” (TIMEP)، وهو من إعداد منى شتيه.
فشلت شركات التكنولوجيا عموماً في حماية الناس من السرديّات الخطيرة القائمة على المعلومات المُضلِّلة وخطاب الكراهيّة وغياب آليّات التحقّق من دقّة المعلومات. ويصحّ ذلك في الحرب الحاليّة على قطاع غزّة، حيث تسعى شركات التكنولوجيا الكبرى إلى إخفاء التحيّزات المتجذّرة في منصّاتها من خلال الخوارزميّات.
على مدى العقد المنصرم، وضعت شركات تكنولوجيا مثل “ميتا” نصب عينَيْها “ربط العالم“، فيما سعَت شركات مثل “X” (المعروفة سابقًا بـ”تويتر”) إلى تحقيق هدف نبيل يتمثّل في “الدفاع عن أصوات المُستخدِمين واحترامها“، مُعلنةً عن رؤيتها لمستقبل فاضِل تساهم التكنولوجيا في بنائه. إلا أنّ هذه السرديّة الطامِحة، التي يثبُت زيفها يوماً بعد يوم، لا تُخفي الأذى الذي تسبّبه شركات التكنولوجيا الكبرى فحسب، بل تتعامى أيضاً عن أزمة انعدام المساواة العميقة حول العالم.
وعلى عكس ذلك كلّه، ما يبدو واضحاً كعين الشمس هو التضارُب الصارخ بين التدابير الواسعة النطاق والصارِمة والسريعة التي اتّخذتها منصّات التواصل الاجتماعي لحماية مصالح بلدان الشمال العالمي في الولايات المتّحدة الأميركية وأوكرانيا مثلاً، وبين أدائها خلال الأزمات السياسية في بلدان الجنوب العالمي مثل فلسطين وميانمار وكينيا.
في أعقاب الأحداث التي جرَت في إسرائيل وفلسطين من السابع من تشرين الأول/أكتوبر، شهد الفضاء الرقمي طوفاناً من المعلومات المُضلِّلة، وخطاب الكراهية، والتحريض، والعنف. ولم تصدُر هذه السرديّات الخطيرة عن جهة واحدة فقط: ففي حين نشرَ المسؤولون والسياسيّون الإسرائيليّون فيديوهات في محاولة لتبرير الاعتداءات على غزّة وأعمال العنف، باتت منصّات التواصل الاجتماعي عموماً مرتعاً للتحريض والعنصريّة من جانب المُستخدِمين، ما فاقم العنف الذي يمارسه المستوطنون ضدّ الفلسطينيّين. لكنّ هذه الظاهرة ليست جديدة، فلقد سبق أن دعت مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان منصّات التواصل الاجتماعي إلى حماية الفلسطينيّين، خصوصاً بعد أحداث حيّ الشيخ جرّاح وغزّة عام 2021، وحرق بلدة حوارة في وقت سابق من العام الجاري. لذا، من أجل حماية الفلسطينيّين والمُستخدِمين من بلدان الأغلبية العالمية بشكل عام من الأذى الرقمي، ينبغي على منصّات التواصل الاجتماعي اتّخاذ عدّة تدابير لمعالجة انعدام المساواة الذي يواجهه هؤلاء.
المعلومات المُضلِّلة تصبّ الزيت على النار
لا يقتصر غياب تدابير الحماية والآليّات المناسبة لإدارة المحتوى والتحقُّق من المعلومات على منصّة معيّنة، بل تطرح هذه العوامل مشكلة أوسع نطاقاً. خلال النزاع الدائر حالياً، يبدو أنّ منصّة “X” تسمح بانتشار التحريض والخطاب العنصري بحقّ الفلسطينيّين من دون إدارة هذا المحتوى بشكل مناسب. حتى إنّ صاحب المنصّة نشر تغريدة ينصح فيها المُستخدِمين بمتابعة حسابَيْن لديهما باعٌ طويل في تعميم المعلومات المُضلِّلة، ما طرح علامات استفهام حول فعالية المُساءلة على المنصّة.
“يُلقي فيض المعلومات المُضلِّلة اللامتناهي بأعباء كبيرة على كاهل الناس ويمنعهم من الوصول إلى الأخبار المباشرة من الميدان”
عمَّت المعلومات المُضلِّلة منصّات التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة، ما أعاق التدفّق الطبيعي للمعلومات. على سبيل المثال، سمحت منصّة “X” بانتشار الصور المُنتَجة بواسطة الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع من دون ذكر أنّها غير حقيقيّة، علمًا أنّها تضمّنت معلومات مُضلِّلة. كذلك، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات مصوّرة خلال اعتداءات سابقة على غزّة، أو فيديوهات قديمة لغارات جوّية في سوريا أو أوكرانيا، مع الادّعاء بأنّها تُظهِر غارات جوّية جديدة على غزّة. هذا وبالرغم من أن منظّمة “هيومن رايتس ووتش” تحقّقت من صحّة فيديوهات تُظهِر استخدام الفوسفور الأبيض في غزّة ولبنان في شهر تشرين الأول/أكتوبر، انتشرت فيديوهات أخرى على وسائل التواصل الاجتماعي صُوِّرَت في منطقة الدونباس في أوكرانيا. يُلقي فيض المعلومات المُضلِّلة اللامتناهي بأعباء كبيرة على كاهل الناس ويمنعهم من الوصول إلى الأخبار المباشرة من الميدان، ما يجعل من شركات التكنولوجيا الكبرى المستفيد الأبرز من انتشار المعلومات المُضلِّلة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض وسائل الإعلام الدولية التقليدية وقعت أيضاً في هذا الفخّ وساهمت في نشر المعلومات المُضلِّلة التي استُخدِمَت إثر ذلك لتبرير أعمال العنف على أرض الواقع. وقد بثّت وسائل الإعلام تلك المزاعِم على أنها أخبار موثوقة من دون التحقّق من مدى صحّتها، بالرغم من أنّ نشر هكذا أخبار قد يؤدي إلى التلاعب في الرأي العام العالمي ويفاقِم الخلافات والتشدُّد في ظلّ ظروف مماثلة.
“إنّ تداعيات خطاب الكراهية هذا تتجاوز حدود المنطقة بأشواط”
تتجاوز تداعيات خطاب الكراهية هذا حدود المنطقة، فلقد ساهم هذا الخطاب في جعل التطرُّف والعنف ضدّ الفلسطينيّين ظاهرة مُعتادة، وكذلك الحال بالنسبة لمعاداة الساميّة، لا سيما في غياب تغطية إعلامية دولية عادلة للأحداث في المنطقة. فضلاً عن ذلك، أثّر هذا الخطاب في مجتمعات حول العالم، كما تُظهِر جريمة قتل وديع الفيوم، الطفل الفلسطيني-الأميركي المسلم البالغ من العمر ستّة أعوام، في شيكاغو. وقد تأثّرت المجتمعات اليهوديّة أيضاً بخطاب الكراهية المُنتشِر على الإنترنت، ما أدّى إلى اعتداءات جائرة ضدّها، مثل حرق الكنيس اليهودي التراثي في بلدة الحامة في تونس.
تناقضات شركات التكنولوجيا: الرقابة والإعلانات وحرّية الصحافة
في المقابل، شدّدت شركة “ميتا” رقابتها على المحتوى الفلسطيني، وشملَ ذلك إزالة المشاهد التي توثِّق الهجوم على المستشفى المعمداني العربي في غزّة ليل 17 تشرين الأول/أكتوبر. كذلك، خفّضت “ميتا” من مدى انتشار ومشاهدة القصص الداعِمة لفلسطين على “إنستغرام”، علماً أنّ هذه القيود نفسها فُرِضَت عام 2021، ما يزيد من الأذى اللاحق بالمُستخدِمين ويعكس فشل المنصّة في معالجة انتهاكات حقوق الإنسان وتقييد الوصول إلى المعلومات خلال الأزمات. وفي الحالتَيْن، ادّعت “ميتا” أنّ السبب يعود إلى أعطال تقنيّة وبرمجيّة واسعة النطاق.
بالإضافة إلى ذلك، سمح موقع “يوتيوب” لوزارة الخارجية الإسرائيلية بعرض إعلانات مدفوعة تبرّر استخدام العنف والهجمات الفتّاكة ضدّ الفلسطينيّين، وهو أسلوب سبق أن لجأت إليه وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية قبل عامَين. في موازاة ذلك، راقبت بعض منصّات التواصل الاجتماعي حسابات الصحافيّين والمنظمات الإعلامية التي تغطّي وتوثّق الأحداث في فلسطين وعلّقتها. على سبيل المثال، فرض “تيكتوك” ما أسماه “حظراً دائماً” على الحساب الرسمي لموقع Mondoweiss الإلكتروني الذي يركّز على التطوّرات في فلسطين وإسرائيل. كذلك، علّقت منصّة “إنستغرام” حساب مراسلة Mondoweiss في الضفّة الغربية. هذه الممارسات تقوِّض حقّ الصحافيّين في أداء مهنتهم وفي الوصول إلى المعلومات وحقّهم في حرّية الرأي والتعبير.
تفاوت في حماية المُستخدِمين خلال الأزمات
في خضمّ الأزمة الحالية، أظهر أداء شركات التكنولوجيا الكبرى اختلافاً كبيراً عن كيفيّة استجابتها لحماية المُستخدِمين في بلدان الشمال العالمي. فبخلاف تدابيرها السريعة لحماية الديمقراطية الأميركية خلال اقتحام مقرّ الكونغرس الأميركي، وإجراءاتها الاستباقية لحماية المدنيّين الأوكرانيّين منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تقاعست هذه المنصّات عن منع انتشار المعلومات المُضلِّلة والتحريض وخطاب الكراهية وغيرها من أنواع المحتوى التي تُطيل أمد النزاع وتفاقِم التطرُّف والعنف على أرض الواقع. ويدلّ هذا التفاوت الصارخ على وجود أزمة أوسع نطاقًا تتمثّل في انعدام العدالة حول العالم، ما يسلّط الضوء على ضرورة اعتماد تدابير حماية رقميّة أكثر مساواةً في المناطق التي تشهد عنفاً.
“يدلّ هذا التفاوت الصارخ على وجود أزمة أوسع نطاقًا تتمثّل في انعدام العدالة حول العالم، ما يسلّط الضوء على ضرورة اعتماد تدابير حماية رقميّة أكثر مساواةً في المناطق التي تشهد عنفاً”
تُظهِر التدابير التي اتّخذتها شركات التكنولوجيا في هذا المجال أنّ الحماية الممنوحة للمُستخدِمين تختلف بناءً على عدّة عوامل، تشمل على سبيل المثال لا الحصر مكانة بلدانهم الاقتصادية والسياسية، ومقدار الدعم الذي تحظى به هذه البلدان من الشمال العالمي. فضلًا عن ذلك، تُطرَح علامات استفهام حول كفاية تدابير الحماية التي تتّخذها شركات التكنولوجيا. مثلاً، إثر تكليفها شبكة “الأعمال من أجل المسؤولية الاجتماعية” (BSR) بإعداد تقرير حول العناية الواجبة عام 2021 بعد أحداث حيّ الشيخ جرّاح وغزّة، رفضت شركة “ميتا” إحدى التوصيات الرئيسية الواردة في التقرير. فقد وجدت شبكة BSR في تقريرها أنّ “ميتا” فرضت رقابة على الأصوات الفلسطينية عام 2021، وأوصت بتخصيص موارد لدعم الأبحاث العامة التي تهدف إلى تحقيق التوازن الأمثل بين الموجبات القانونية المفروضة على منصّات التواصل الاجتماعي من جهة، وسياسات هذه المنصّات وممارساتها من جهة أخرى.
لسوء الحظ، يبدو أنّ منصّات التواصل الاجتماعي تستثمر الموارد بناءً على حجم السوق، لا حجم المخاطر المقدرة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ إسرائيل خصّصت مبلغًا قدره 319 مليون دولار أميركي تقريباً لنشر إعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي عام 2021، ذهبت الحصّة الأكبر منه، أي 95%، إلى منصّات “ميتا”. ويتجاوز هذا الرقم الميزانية الإعلانية المجتمعة لكلّ من فلسطين والأردن ومصر، ما يعزّز مكانة إسرائيل كإحدى أكبر أسواق الإعلانات في المنطقة.
وقد ازدادت هذه الأوضاع سوءاً بعد عمليات التسريح التي أجرتها شركات التكنولوجيا في السنتَيْن الأخيرتَيْن، وخصوصاً في الفرق المختصّة بالمعلومات المُضلِّلة وبالسلامة. ففي مطلع العام 2023، خفّض موقع “يوتيوب”، التابع لشركة “غوغل”، عدد أعضاء فريق خبراء السياسة لديه الصغير أساساً والمسؤول عن مكافحة المعلومات المضلِّلة، ولم يترك فيه سوى شخصٍ واحدٍ مسؤول عن سياسة المعلومات المضلِّلة للعالم كلّه. كذلك، طالت عمليات التسريح التي أجرتها شركة “ميتا” عام 2022 موظفين ساعدوا في قيادة الأبحاث حول خطاب الكراهية والمعلومات المُضلِّلة والثقة. وفي شهر كانون الأول/ديسمبر 2022، سرّحت منصّة “X” مجلس الثقة والسلامة، الذي تبرّعت عشرات منظمات المجتمع المدني والقادة المجتمعيّين من حول العالم للعمل فيه، مضحّين بوقتهم وجهودهم في سبيل تعزيز السلامة على المنصّة. وعليه، فإنّ شركات التكنولوجيا تقوِّض عمليات الحماية من المعلومات المُضلِّلة على منصّاتها بالرغم من الحاجة الماسّة إليها.
“شركات التكنولوجيا لم تخصِّص ما يكفي من الموارد لحماية المُستخدِمين أو إجراء أبحاث معمّقة لفهم التوتّرات وتداعياتها على منصّاتها، ما بعكس خللًا هيكليًا أساسيًا في نماذج أعمالها”
برزت مسائل مشابهة على هذه المنصّات في السابق، بالرغم من النداءات المتعدّدة من ممثلين محليّين وإقليميّين ودوليّين عن المجتمع المدني. وشدّدت هذه النداءات على ضرورة استعداد المنصّات للتعامل مع أحداث مشابهة، خصوصاً في ظلّ التوتّرات الدائمة في الشرق الأوسط. إلا أنّ شركات التكنولوجيا لم تخصِّص ما يكفي من الموارد لحماية المُستخدِمين أو إجراء أبحاث معمّقة لفهم التوتّرات وتداعياتها على منصّاتها، ما يعكس خللًا هيكليًا أساسيًا في نماذج أعمالها.
قد تزعم شركات التكنولوجيا أنّها تتابع الأحداث عن كثب وتستجيب للبلاغات التي تتلقاها من “الشركاء الموثوق بهم“. ولكنْ، ينبغي على هذه الشركات أن تعترف بأنّ النهج المجزّأ لم يعُد كافياً للتعامل مع ما نشهده من أحداث، ولا لإحداث تغيير مُستدام. فهذه الاستراتيجية أشبه بإعطاء جرعات صغيرة من مُسكِّن الآلام لتهدئة منظمات المجتمع المدني ذات الموارد المحدودة التي توثِّق ما تتسبّب به شركات التكنولوجيا من أذى. لحماية المُستخدِمين حول العالم، علينا، اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أن نوحّد جهودنا مع جميع الأطراف المعنيّين لممارسة ضغوط متزايدة على شركات التكنولوجيا وحثّها على استثمار المزيد من الموارد لتجنيب مُستخدِميها الأذى الناجم عن منصّاتها الرقميّة.