إضافةً إلى ما يُعرف عن القوات الأمنية بعنفها عند التحقيق بقضايا الرأي لترسيخ حالة من الخوف الجماعي والرقابة الذاتية بين السوريين، تأتي القوانين الفضفاضة لتحدّ من قدرة المواطنين على التعبير الحر عن مشكلات مجتمعهم وتفرض سيطرة السلطات على الخطاب العام.
خلال العام الحالي أصدر الرئيس بشار الأسد قانونين للفضاء السيبراني، هما قانون الجرائم المعلوماتية رقم 20 للعام 2022 في 17 آذار/مارس، والذي تضمن تعديلات على قانون الجريمة المعلوماتية (قانون تنظيم التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية) رقم 17 للعام 2012 الساري سابقاً؛ وقبله القانون رقم 15 لعام 2022 في الثالث من الشهر نفسه، والذي يعدل عدداً من المواد المتعلّقة بالنشر في قانون العقوبات رقم 148 لعام 1949. في الوقت نفسه، لا يزال فيه قانون الإعلام السوري الحالي وقانون الإرهاب مستخدمين في بعض قضايا المجال الرقمي.
القانون الجديد، قانون الجرائم المعلوماتية رقم 20 للعام 2022، يشتمل على مفاهيم غير واضحة للجريمة الإلكترونية، ومفردات يمكن أن يُساء استخدامها بسهولة مثل الافتراء والتشهير والمساس بالحشمة أو الحياء، وحتى انتقاد السلطات. ويظهر كذلك إصرار القانون على معاقبة الذين يتعاملون مع هذا المحتوى أو ينشرونه على وسائل التواصل أو حتّى داخل تطبيقات المراسلة، ويفرض على شركات الإنترنت الالتزام بالطلبات الحكومية تحت طائلة الغرامات والسجن.
جريمة إلكترونية أم جريمة تعبير؟
يعرّف قانون الجريمة المعلوماتية الجريمة الإلكترونية بأنّها “جريمة ترتكب باستخدام الأجهزة الحاسوبية أو الشبكة أو تقع على المنظومات المعلوماتية أو الشبكة”. وقد وضع هذا القانون الناظم للتواصل عبر الشبكة عام 2012، لكنه لم يكن فاعلاً بشكل كبير إلى حين إنشاء المحكمة المتخصصة بقضايا جرائم المعلوماتية والاتصالات في عام 2018، وصولاً إلى التعديلات الأخيرة على القانون بعد تسريبات عدة أظهرت تكريسه لسلطة الدولة.
استهدفت آخر التعديلات شبكة الإنترنت كمجال حرّ للتواصل والتعبير، فقد جاءت التعديلات الجديدة لتزيد من تتبع المحتوى وتمنح حصانة للعاملين في القطاع العام، وتفرض عقوبات كبيرة لأي مخالفات. على سبيل المثال، تنصّ المادة (28) على المعاقبة بالسجن “من 3 إلى 5 سنوات وغرامة من 5 ملايين إلى 10 ليرة سورية، كل من قام بإحدى وسائل تقانة المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية”. هذه الجريمة الفضفاضة يمكن أن يزداد استخدامها كتهمة ضدّ من ينتقد سياسات الحكومة أو الرئيس. وتقول ناشطة نسوية فضّلت عدم الكشف عن اسمها تجنّباً للملاحقة بسبب هذه القوانين، إنّ القانون “أتاح لأي شخص تأويل ما ننشره ومحاسبتنا عليه بموجب هذا القانون، وبالتالي نحن نفقد فرصتنا للاعتراض ولن نستطيع تناول مشكلات بلدنا إلا من الخارج”.
تلزم المادة (4) من القانون كذلك مُقدّمي خدمات النفاذ إلى الشبكة “بحفظ نسخة من بيانات الحركة والمحتوى الرقمي المستضاف، وتضع الهيئة الناظمة أو الهيئة الوطنية كل حسب اختصاصه بطبيعة المحتوى الرقمي والخدمات المقدمة، الضوابط الخاصة لعمل مقدم الخدمة”. والمادة (6) من القانون المذكور تُعاقب بالحبس والغرامة مقدّم الخدمات الذي يمتنع عن تنفيذ التزامه بحفظ نسخة من تلك البيانات. تعتبر مهندسة تعمل في المجال، فضّلت كذلك عدم كشف اسمها، أنّ “هذه البيانات تستعمل لتسهيل تعقّب السوريين عبر حساباتهم”، مضيفةً أنّ “القانون يترك مهمّة تخزينها لمقدمي الخدمات كي يضمن وجود المعلومات التي يحتاجها في حال أرادت السلطات تعقّب مشتركين محددين ولو بعد سنوات”. وبشكلٍ عام، “وُضع القانون الجديد لاستكمال ما درجت السلطات عليه من عمليات الملاحقة، ولكن هذه المرّة عن طريق إرغام المستثمرين في الخدمة على تسهيل مهمة الأجهزة الأمنية”، وفق محامٍ في مجال حقوق الإنسان، يتحفّظ عن ذكر اسمه.
يدافع القانون الجديد عن موظفي القطاع العام، من دون التمييز بين كشف الفساد وحالات التحقير والذم والقدح وتوضيحها. ففي المادة 25، يشدّد القانون عقوبة القدح والذم والتحقير “بأحد الناس بشكل غير علني باستخدام الشبكة” بغرامة بين 100 ألف و200 ألف ليرة سورية، وترتفع الغرامة إلى ما بين الحبس من 10 أيام إلى شهرين والغرامة بين 200 ألف و300 ألف ليرة ” إذا اقترف القدح أو التحقير بحق المكلف بعمل عام أثناء ممارسته لعمله أو بسببه”. وتشرح الناشطة النسوية أنّ هذه المادة وُضعت لإغلاق “الباب أمام نقد الموظفين الصغار، لأنّ فتح هذا الأمر قد يؤدي لنقد أولئك الأكثر نفوذاً مع الوقت، الأمر الذي لن تخاطر به السلطات”.
وبهدف الحدّ من تداول أسعار الصرف في السوق السوداء في محاولة لضبطه وحماية الاقتصاد المتهالك من انهيار أسرع، نصّت المادة 29 من “قانون الجرائم المعلوماتية” رقم 20 للعام 2022 على غرامات مالية كبيرة والسجن من 4 إلى 15 سنة لكلّ “من أنشأ أو أدار موقعاً إلكترونياً أو صفحة إلكترونية أو نشر محتوى رقمياً على الشبكة بقصد إحداث التدني أو عدم الاستقرار أو زعزعة الثقة في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها المحددة في النشرات الرسمية”. ولكنّ التفتيش الرقمي فعال مسبقاً، “فالسلطات تفتّش محادثات الواتساب بحثاُ عن كلمة دولار، مستخدمة المراسلات الشخصية لإدانة الأفراد وسجنهم”، يضيف المحامي.
يتمثل هدف قوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية غالباً في جعل الشبكة مكاناً آمناً للمستخدمين والمستخدمات من خلال ردع الجرائم التي تقع على الشبكة، مثل جرائم القرصنة وغيرها. ولكنّ القانون بصياغته المذكورة ركّز على تقييد حرية التعبير على الإنترنت من خلال وضع معايير للخطاب الذي يمكن تداوله، ولم يكتفِ بتجريد الشبكة من ميزتها الأساسية المتمثّلة في تسهيل التواصل ونشر المعلومات فحسب بل جعل منها سلاحاً بيد السلطة لمراقبة الأفراد تحت غطاء قانوني. ولكنّ هذه الخطوة ليست إلا محطّة في تاريخ عسير.
تاريخ عسير
منذ دخول الإنترنت إلى سوريا، استخدم الناشطون في سوريا المدونات والمنتديات لنقد السياسات الأمنية والاقتصادية وللتواصل والتنسيق في بعض الأحيان. ولكن قوات الأمن كانت تعتقل البعض، وتحاكمهم بموجب قانون العقوبات عبر محكمة أمن الدولة العليا التي ألغيت عام 2011. وكانت التهم التي تحاكم بها محكمة أمن الدولة صحافيين وباحثين بسبب تصريحاتهم الإعلامية تتراوح بين “نشر أنباء كاذبة توهن نفسية الأمة والتجسس وإفشاء معلومات سرية”، كما تقول لـ”سمكس” الصحافية والناشطة السياسية، هنادي زحلوط، التي عاصرت تلك الحقبة.
وخلال حراك عام 2011 ازدادت الملاحقات عن طريق محكمة الجنايات ثم محكمة الإرهاب التي أنشئت عام 2012 بموجب قانون مكافحة الإرهاب، أو من خلال برمجيات وأجهزة أشهرها “بلو كوت” (Blue Coat) الذي كشف عن استخدامه لملاحقة المعارضين في عام 2013.
ومع انحسار العمليات العسكرية في معظم الأراضي السورية، انتقل الإعلام من نقل أخبار القتال إلى تغطية القضايا المعيشية، فطالت التوقيفات والاعتقالات الصحافيين والناشطين الموالين سياسياً والذي انتقدوا السياسات الاقتصادية. ومن الحالات البارزة، توقيف وسام الطير، مؤسّس صفحة “دمشق الآن” على “فيسبوك: في 15 كانون الثاني/يناير 2018، واعتقال صاحب موقع “هاشتاغ سوريا”، محمد هرشو، في حلب في 10 نيسان/أبريل 2019، بعد نشر خبر يتحدث عن نية حكومة النظام رفع سعر البنزين قبيل انقطاعه عن معظم المحطات، واعتقال مذيعة في التلفزيون السوري في 21 كانون الثاني/يناير 2021 على خلفية منشور على صفحتها الشخصية. كما تم إيقاف إعلاميين عن العمل، أشهرهم مراسل قناة الميادين في سوريا في آذار/مارس 2017 بعد انتقاده بعض القادة العسكريين.
بازدياد النقد عبر وسائل التواصل الاجتماعي لسياسات الحكومة الاقتصادية والقمعية، وتحديداً بعد انتشار آراء تعبر عن الاستياء من أداء موظفة في مؤسسة غذائية عامة، ونشر لصور حاجز من الأسلاك تسور مخبزاً مزدحماً في دمشق، عاد نقاش القوانين الناظمة للفضاء الإلكتروني إلى الواجهة مرة أخرى.
والآن جاء قانون الجرائم المعلوماتية رقم 20 للعام 2022 ليضيق الخناق في الفضاء الرقمي على المعارضين والموالين على حدٍّ سواء، ولكنّ السوريين دائماً ما كانوا يجدون أنفسهم في تحدٍ لهذه التضييقات على التعبير، مدفوعين تحت وطأة تضييقات أشد على سبل عيشهم اليومي، فيرفعون صوتهم بالنقد رغم ازدياده صعوبة.
يزداد توجّه السلطات في المنطقة لإقرار قوانين متعلّقة بالجرائم الإلكترونية، والقانون المقرّ في سوريا لا يختلف كثيراً عن القوانين التي أقرّتها دول مثل الإمارات والسعودية ومصر من حيث تجريم الخطاب عبر الإنترنت، بدلاً من حماية المستخدمين فعلاً من الجرائم الإلكترونية.