في حزيران/يونيو الماضي، كشفت تقارير صحافية عن اطلاع شركة النفط الحكومية في الإمارات على رسائل البريد الإلكتروني الواردة من وإلى مكتب قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ 28، المنتظرة في دبي. حينها، ادعى مكتب المؤتمر أن نظام البريد الإلكتروني الخاص به “مستقل” و”منفصل” عن نظام شركة النفط، لكن التحليل الفني أظهر أن المكتب يشارك خوادم البريد الإلكتروني مع “شركة بترول أبوظبي الوطنية أدنوك” (ADNOC).
للمفارقة، أوكلت السلطات الإماراتية سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لـ”أدنوك”، رئاسة قمة المناخ، علماً أنّه يواجه أصلاً انتقاداتٍ بسبب خلفيته في مجال النفط ودمجه بين رئاسة المؤتمر ورئاسة “أدنوك”، ما يعدّ تضارباً في المصالح لأن انبعاثات الوقود الأحفوري هي من أبرز مسببات الاحتباس الحراري.
تستعدّ دبي لاستضافة “المؤتمر الثامن والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ” (COP28) خلال الفترة الممتدّة بين 30 تشرين الثاني/نوفمبر إلى 12 كانون الأول/ديسمبر 2023.
وإذا نظرنا من زاوية واسعة إلى الحدث، يسهل القول إنّه جزءٌ من حملة “الغسل الأخضر” (Green washing) التي تمارسها الإمارات منذ سنوات، بحسب منسّق وحدة الأبحاث في “سمكس” نايثن سيلبر.
والغسل الأخضر هو عندما تدّعي الحكومات أو الشركات التزامها بحماية واحترام البيئة بشكلٍ مثير للجدل، بهدف جذب أعمال أكثر أو الخضوع لمستويات تدقيق أقلّ. بوضوحٍ أكثر، تختار الجهة المعنيّة واحدة من القضايا الأكثر أهمية للناشطين/ات والشباب، وتنظّم عمليةً دعائية هائلة هدفها تقديم البلد كبلدٍ ليبرالي يحترم القيم المعاصرة والحريات وغيرها، كما فعلت الإمارات.
معتقلو/ات الرأي خلف القضبان بسبب تغريدة
لا يزال كثير من المواطنين والمقيمين في الإمارات يقبعون في السجون بسبب تهمٍ متعلقّة بحقهم في التعبير عن الرأي ونشاطهم/ن في مجال حقوق الإنسان.
في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، دعا البرلمان الأوروبي السلطات الإماراتية إلى الإفراج الفوري عن المدافعين/ات الإماراتيين عن حقوق الإنسان ومعتقلي الرأي القابعين في سجون أبوظبي قبيل قمة المناخ.
وطالب القرار بالإفراج الفوري عن المدافعين/ات عن حقوق الإنسان في الإمارات، أحمد منصور، ومحمد الركن، ومحمد المنصوري، وناصر بن غيث، وغيرهم من عشرات أو مئات المعتقلين/ات الإماراتيين والأجانب بـ”جرم” التعبير عن الرأي وتناول قضايا إنسانية وحقوقية.
وفي تقريرٍ صدر في تموز/يوليو الماضي، قالت “منظمة العفو الدولية” إنّ الإمارات منذ 2011، أصبحت مساحة مغلقة للمجتمع المدني، مع قوانين تجرم المعارضة السلمية من خلال التعبير أو تكوين الجمعيات أو التجمع السلمي وسجن عشرات المعارضين الإماراتيين.
وكمصداقٍ على ذلك، أخضعت السلطات الإماراتية 94 مدعى عليهم لمحاكمة جماعية المعروفة باسم “الإمارات 94” في تموز/يوليو 2023، أسفرت عن 69 حكماً بالسجن، كما قامت بحل مجالس إدارة اثنتين من الجمعيات المهنية المرخصة من الحكومة (جمعية الحقوقيين ونقابة المعلمين).
أبقت السلطات ضحايا تلك المحاكمة الجماعية في السجن لأكثر من عقد، واستمرت في تمديد احتجازهم بشكل تعسّفي إلى ما بعد تاريخ انتهاء أحكام السجن الصادرة بحقهم، وذلك بموجب قانون مكافحة الإرهاب الذي يسمح باحتجازهم إلى أجل غير مسمى تحت ذريعة تقديم “المناصحة” لهم من أجل مكافحة التطرف، بحسب التقرير.
خلال شهر آذار/مارس وحده، أوقفت السلطات الإماراتية عشرة لبنانيين من دون أن توجه لهم أي اتهامات، ومن بينهم غازي عز الدين (50 عاماً)، الذي قضى تحت التعذيب في 4 أيار/مايو في السجون الإماراتية، ولم تبلّغ عائلته إلا بعد خمسة أيام على وفاته، ولم تسمح لنجله برؤية وجهه للتعرف إليه.
في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وبشكلٍ مفاجئ، قرّرت السلطات الإماراتية منع المعتقلين اللبنانيين في سجونها من مقابلة ذويهم، إلى أجلٍ غير مسمى، ومن دون أن تجد نفسها معنيّة بشرح أسباب هذا القرار التعسّفي.
تقول محللة السياسات في “سمكس”، ديونيسيا بيبا، إنّ “قرار عقد القمة في الإمارات، على الرغم من تاريخها الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان لا ينبغي أن يمرّ مرور الكرام”. وتشير إلى أنّه “بحسب لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، يُمارس في الإمارات “نمطٌ من التعذيب وسوء المعاملة ضد مدافعي حقوق الإنسان والأشخاص المتهمين بالجرائم ضد أمن الدولة”.
والآن، “تحاول الإمارات تضليل الرأي العام عن طريق استضافة حدثٍ حول تغيّر المناخ، للتستر على عدم احترامها لحقوق الإنسان”، تضيف بيبا.
قمع يحميه القانون
يؤكّد الدستور الإماراتي على حرية الرأي، حيث نصت المادة 30 منه على أنّ “حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون”، إلا أنّ هذا النصّ يتعارض بشدّة مع مواد أخرى في قانون العقوبات الذي دخل حيز التنفيذ في كانون الثاني/يناير 2022، وقانون حماية البيانات الشخصيّة الذي بدأ العمل بموجبه في الشهر نفسه.
ولم يُلغَ أيّ من هذه القوانين المقيّدة لحرية التعبير منذ تسمية الإمارات العربية المتحدة دولةً مضيفة لقمّة المناخ، في حين لا يزال نص اتفاقية البلد المضيف، الذي سيحدّد ما إذا كانت هذه القوانين ستنطبق على مكان انعقاد الاجتماع، طيّ الكتمان.
على سبيل المثال، بحسب المادة 176 من قانون العقوبات الإماراتي لعام 1987، “يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة ولا تزيد على خمس وعشرين سنة والغرامة كل من أهان رئيس الدولة”. وقد جرّم القانون نفسه (المادّة 180) إنشاء أو تأسيس أو تنظيم أو إدارة جمعية أو هيئة أو منظمة أو أي فرع منها بقصد قلب نظام الحكم في الدولة، وتصل عقوبة هذا “الجرم” إلى الإعدام أو السجن المؤبد.
أما المادة 197 التي تقيّد حقّ التظاهر، فتشمل كذلك جميع وسائل النشر. وتنصّ هذه المادة على أنّ “كل من اشترك في تجمهر لمنع أو تعطيل تنفيذ القوانين واللوائح وكان من شأنه أن يجعل السلم أو الأمن العام في خطر”، وتفرض على “المخالفين” عقوبةً بين الغرامة المالية والسجن الذي قد يصل إلى 10 سنوات، كما تنصّ المادة نفسها على معاقبة كل من استعمل أية وسيلة من وسائل الاتصال أو وسائل تقنية المعلومات أو أية وسيلة أخرى في نشر معلومات أو أخبار أو التحريض على أفعال من شأنها تعريض أمن الدولة للخطر أو المساس بالنظام العام”.
وتجاريها المادة 198 بتوسيع العقوبات لتشمل عقوبات “بالحبس مدة لا تقلّ عن سـنة لكل من أذاع عمداً أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة أو بث دعايات مثيرة إذا كان من شأن ذلك تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة”.
بالتوازي، ينطوي قانون حماية البيانات الشخصية الإماراتي على مخاطر تهدّد أمن المواطنين/ات وسلامتهم وتنتهك خصوصيتهم/ن، إذ يتضمّن إعفاءاتٍ واستثناءاتٍ تُضعف نطاق الحماية وتخلق مجالاً لخرق البيانات الشخصية وتزيد من مخاطر المراقبة غير الخاضعة للرقابة. ويستثني القانون أيضاً البيانات الحكومية ولا ينطبق على الهيئات الحكومية التي تتحكّم بالبيانات الشخصية أو تُعالجها
ومن ضمن البيانات التي لا تسري مواد القانون عليها البيانات الشخصية لدى الجهات الأمنية والقضائية، والبيانات الشخصية الصحّية التي لديها تشريع يُنظِّم حماية ومعالجة تلك البيانات، والبيانات والمعلومات الشخصية المصرفية والائتمانية التي لديها تشريع يُنظِّم حماية ومعالجة تلك.
إضافة إلى ذلك، وفي تصنيف شركات الاتّصالات الذي أجرته مبادرة “تصنيف الحقوق الرقميّة” (Ranking Digital Rights)، والذي قيّم أداء 12 من أقوى شركات الاتصالات حول العالم من حيث السياسات والممارسات التي تؤثر على حرية التعبير وخصوصية المستخدمين، جاءت شركة “اتصالات” الإماراتية في أسفل القائمة بسبب “افتقارها إلى الشفافية في جميع المجالات”.
بحسب التصنيف، فضلاً عن البيئة التنظيمية القمعية التي خلقتها الشركة في أسواقها المحليّة، لا تذكر “اتصالات” صراحةً كيفية الاستجابة لطلبات الحكومة المتعلّقة بحظر المحتوى ومشاركة معلومات المستخدمين/ات، سواء من السلطات الإماراتية أو من حكومات الدول الأجنبية التي تعمل فيها.
تنصّ القوانين الإماراتية إذاً على عقوبة الإعدام، مع العلم أنّ الأمم المتحدة لطالما عارضت عقوبة الإعدام وطالبت بإلغائها، وأكّدت أن تطبيقها لا يتماشى “مع الحق في الحياة والحق في العيش في مأمن من التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، فكيف إذاً يُعتبر منطقياً أن تستضيف دولة تطبّق حكم الإعدام على خلفيّة تأسيس جمعيّة؟
وطبقاً لضمانات الأمم المتحدة التي تكفل حماية حقوق الأشخاص الذين يواجهون حكماً عليهم بالإعدام، “في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، لا يجوز أن تفرض عقوبة الإعدام إلا في أخطر الجرائم على أن يكون مفهوما أن نطاقها ينبغي ألا يتعدى الجرائم المتعمدة التي تسفر نتائج مميتة أو غير ذلك من النتائج البالغة الخطورة”.
تاريخ حافل بالتجسّس والمراقبة والانتهاكات
استثمرت الإمارات العربية المتّحدة على مدى السنوات الماضية بشكلٍ مكثّف في برامج التجسُّس وبرامج التحكّم بالمحتوى لفرض خطاب واحد فقط يؤيّد السلطات. وهذا ما يدعم الرأي المعارض لاستضافة البلاد لحدثٍ مثل قمّة المناخ، إذ يشير المعترضون إلى أنّ خلف هذه الرؤية للنموّ الاقتصادي واحترام البيئة تتخفّى سلطة استبدادية تتسلّح بالتكنولوجيا لتعزيز الذراع القمعية للدولة.
استخدمت الإمارات تقنيات المراقبة في الكثير من الأحيان، مثل برمجية “بيغاسوس” (Pegasus) الإسرائيلية من شركة “إن إس أو” (NSO)، و”ايفيدنت” (Evident)، التي تعتبر أداة للمراقبة الجماعية طوّرتها شركة الدفاع البريطانية “بي أيه إي سيستمز” (BAE Systems). سهّلت هذه الأدوات التجسّسية الكشف عن المعارضين/ات والصحفيين/ات والمدافِعين/ات عن حقوق الإنسان واختراق حساباتهم/ن داخل الإمارات وخارجها. كما استثمر البلد في تطوير مؤسّسات ومبادرات محلّية تُعنى بالتجسّس، مثل “دارك ماتر” (DarkMatter)، التي تعمل كشركة “للأمن السيبراني”، والتي ويُعتقد أنها وراء تطبيق “تو توك” للمراسلة ومكالمات الفيديو، والذي تبيّن لاحقاً أنّه أداة تجسّس تسمح للحكومة بتتبّع محادثات المستخدمين/ات وصورهم/ن.
في عام 2021، أظهرت تسريبات “بيغاسوس”، أنه وفي العام 2018، تجسّست الإمارات على أعضاء الحكومة اليمنية والرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، وكذلك رئيس الحكومة السابق أحمد عبيد بن دغر، عن طريق البرمجيّة الخبيثة بالتعاون مع الشركة الإسرائيلية المطوّرة لها “إن إس أو” (NSO)، والتي تضمّ أشخاصاً كانوا أعضاء في الموساد والجيش الإسرائيلي.
وفي عام 2019 اخترق فريق من ضباط المخابرات الأمريكية السابقين، الذين يعملون لحساب الإمارات العربية المتحدة، أجهزة “آيفون” الخاصة بنشطاء ودبلوماسيين وزعماء أجانب من خصوم الإمارات وذلك بالاستعانة بأداة تجسس متطورة تسمى “كارما” (Karma)، مجهولة مصدر المنشأ. وذكر خمسة ضباط سابقين ووثائق برمجية أن أداة التجسس سمحت للبلد الخليجي بمراقبة مئات الأهداف بدءاً من عام 2016، ومنهم أمير قطر ومسؤول تركي رفيع المستوى وناشطة يمنية في حقوق الإنسان حائزة على جائزة نوبل.
في نيسان/أبريل الماضي، كشف “مختبر سيتيزن لاب” (TheCitizenLab) المختصّ في مجال الأمن الإلكتروني، أنّ برنامج تجسس إسرائيلي استخدم في اختراق هواتف صحافيين/ات ومعارضين/ات ومنظمات حقوقية في 10 دول، باستخدام خوادم إنترنت أحدها في الإمارات. وبحسب التحقيق، تمّ الاختراق بواسطة برنامج مراقبة طورته شركة “كوادريم” (QuaDreams) الإسرائيلية، التي تتخصّص في تطوير اختراق أجهزة “آيفون”، ويقف وراء تأسيسها ضابط متقاعد من شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
كانت الإمارات أيضاً من بين الدول التي اشترت برمجيّة “بريداتور” (Predator)، القادر على التحكّم التام بأجهزة الهاتف المحمول التي يخترقها، ويشمل ذلك الوصول إلى الرسائل والملفّات الشخصية، وتسجيل المكالمات، ورصد البيئة المحيطة من خلال الكاميرا والميكروفون، كما يمتلك جميع خاصيّات “بيغاسوس”.
في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022، خلال قمة المناخ 27 في مصر، دعا عدد من الناشطين المصريين للاحتجاجات ضد انتهاكات الحكومة المصرية ومناصرة لقضية علاء عبد الفتاح المحتجز احتياطياً منذ سنوات، وذلك بالتزامن مع انعقاد الدورة السابعة والعشرين لقمة الأمم المتحدة للمناخ في شرم الشيخ. على الإثر، رُصد خلال فترة انعقاد القمّة انتهاكات لحقوق الإنسان، كما أقامت قوات الأمن نقاط تفتيش في الشوارع لفحص هواتف المواطنين/ات النقالة، واحتجاز كلّ من يُعثر في جهازه على محتوى ينتقد الحكومة المصريّة.
ومع انعقاد قمة المناخ 28 في الإمارات، لا يمكن للناس حتى التظاهر أو الاحتجاج أو حتى التغريد. ولذلك، ثمة أسئلة كثيرة تطرح حول المعايير التي يجري اختيار الدول التي تستضيف قمّة المناخ على أساسها، إذ أنها تبدو مبهمة ومحطّ تساؤلٍ كبير لم تُقدّم الجهات الدولية المعنيّة جواباً له.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.