تشهد مصر قطعاً ملحوظاً للتيار الكهربائي منذ شهر تموز/يوليو الماضي، تنفيذاً لإجراءٍ رسمي أطلقت عليه الحكومة مصطلح “تخفيف الأحمال” تلى الزيادة المفاجئة في الطلب على الكهرباء، مع ارتفاع درجات الحرارة وحاجة المواطنين إلى تشغيل خدمات التكييف، إذ عمدت السلطات إلى تخفيف نسب الاستهلاك من خلال قطع التيار الكهربائي يومياً لساعة أو اثنتين.
في أيلول/سبتمبر الماضي، وعد مسؤولون بوضع حدٍّ لأزمة الكهرباء في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023، وحدث ذلك بالفعل لفترة قصيرة قبل أن تعود الانقطاعات بوتيرة مماثلة، وذلك لسببين اثنين؛ الأول هو تسبّب العدوان الإسرائيلي على غزة بتعطيل مرور صادرات الغاز المصرية التي يستوردها الاحتلال، أما السبب الثاني، فهو انخفاض كمية الغاز المورد لمحطات الإنتاج للاستفادة من تصدير الغاز، ما أثّر سلباً على ساعات التغذية الكهربائية.
على خلفية هذه الأحداث، أعلنت الحكومة المصرية عن عودة انقطاع الكهرباء لساعتين إضافيتين هذه المرة، إلى حين توفّر الكمية اللازمة من الغاز والمازوت. وينطبق القرار على كافة المحافظات على أن يكون لكلّ منها جدولها الخاص.
أثار هذا الواقع، الذي من المرتقب أن يتغيّر في آذار/مارس القادم بحسب مصادر رسمية، استياء وغضب كثيرين/ات، بسبب تأثيره على فئة كبيرة من العاملين/ات عن بعد، والذين باتوا يعانون من انقطاع الإنترنت نتيجة لانقطاع الكهرباء، وأصبحوا غير قادرين على تسليم مشاريعهم/ن وإنجاز مهامهم/ن في الوقت المحدد، واضطرارهم إلى العمل خارج ساعات العمل بعد عودة التيار الكهربائي.
تعمل إسراء حافظ، من محافظة المنيا، مديرةً تنفيذيّة في إحدى الشركات الإماراتية، من التاسعة صباحاً وحتى السادسة مساءً. ينقطع عنها التيار الكهربائي من الساعة الرابعة حتى السادسة عصراً يومياً، ما خلق خللاً كبيراً في آلية العمل نظراً إلى عدم قدرتها على إنجاز المهام الموكلة إليها خلال الوقت المحدد.
في حديثٍ لـ”سكمس”، تقول حافظ:”أنتظر كلّ يوم انقضاء الساعتين اللتين تنقطع خلالهما الكهرباء لكي اتمكّن من العمل، وذلك بعد أن يضيع وقتي ويتشتت ذهني ويصبح دوامي الفعلي أطول بساعتين. فأنا أعمل حتى ساعات الليل المتأخرة وأشعر أنني أخسر حياتي الاجتماعية ولا أقدر على القيام بأي شيء بعد انتهاء الدوام حتى”.
من جهته، يشير حمزة سليم، من محافظة أسوان، لـ”سمكس” إلى أنّه يعمل في مجال النقل البري الأميركي عن بعد، إلا أن الانقطاع اليومي للكهرباء يؤثر على عمله الذي يتمحور حول “إتمام الصفقات عن طريق مواقع معينة، ما يتطلب خدمة إنترنت مستقرة وسريعة، لأنّ ثوانٍ قليلة كافية لخسارة أيّ الصفقة”.
حاول سليم إيجاد حلٍّ لمشكلته من خلال شراء جهاز كمبيوتر باهظ الثمن والاشتراك في باقة إنترنت كبيرة ومكلفة، إلا أنه ولأسبابٍ غير معروفة، لا يقدم الإنترنت الهوائي الخدمات نفسها، إذ أنّ بعض المواقع مثل “سكايب” (Skype) محجوبة ولا تعمل داخل مصر. “حاولت التواصل مع شركة ‘فودافون’ للاتصالات مراتٍ عديدة لسؤالهم عن سبب حجب كل هذه المواقع، ودائماً ما كان يقابل سؤالي بالاستنكار، قائلين إنهم لا يعرفون شيئاً عن المواقع المحجوبة، وأنه خطأٌ غير مقصود”، يضيف حمزة لـ”سمكس”.
يؤثّر انقطاع الكهرباء سلباً على على كل من يستخدم خدمة الإنترنت في عمله، ولا ينطبق ذلك على الموظفين/ات الإقليميين فحسب، ، بل حتى على العاملين مع شركاتٍ تعمل داخل مصر، وذلك بسبب ارتفاع وتيرة العمل عن بعد والاعتماد على الإنترنت بعد جائحة “كورونا”، ما يجعل أعداد المتأثرين بهذا الواقع كبيرة.
بحسب تقريرٍ صادر عن “داتا ريبورتل” (DataReportal)، هناك 75.66 مليون مستخدم/ة للإنترنت الأرضي في مصر عام 2022، ونحو 98.29 مليون مستخدم/ة للهاتف المحمول في بداية عام 2022. ووفقاً لتقريرٍ صادر عن “فن تيك إيجبت” (Fin Tech Egypt) المدعوم من البنك المركزي المصري، بلغ عدد العاملين/ات عن بعد في مصر بلغ 6 ملايين شخص في عام 2023، أي ما يمثل حوالى 10٪ من إجمالي قوة العمل في مصر.
يقول د. محمد صلاح، الرئيس التنفيذي الأسبق لهيئة تنمية استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة والرئيس التنفيذي المؤسس لجهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك، في مقابلة مع “سمكس”، إنّ أسباباً هندسية كانت تقف وراء موجة انقطاع الكهرباء التي بدأت في تموز/يوليو الماضي، والتي أدّت إلى خفض كفاءة محطات الغاز.
عادت الانقطاعات بعد فترة وجيزة، ولكن هذه المرة، كانت تنفيذاً لقرار تقليل كميات الغاز المستهلكة وتصديرها إلى الخارج للاستفادة من مقابلها المادي، الأمر الذي كان ضرورة بالنسبة للسلطات المصرية، خاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية والعدوان الإسرائيلي على غزة، يضيف صلاح لـ”سمكس”.
تختلف اختصاصات العاملين/ات عن بعد وتتعدّد مجالات عملهم/ن، إلا أنّ الأثر الذي يتركه انقطاع التيار الكهربائي كبيرٌ جداً ومتساوٍ بينهم/ن، وقد يصل حدّ خسارتهم لوظائفهم وتلف الأجهزة الإلكترونية التي يستخدمونها.
كان محمد إبراهيم، وهو شاب مصري مقيمٌ في القاهرة، يعمل كمسؤول مواقع التواصل عن بعد مع إحدى الشركات الإماراتية بصيغة العمل الحر (فريلانس)، قبل أن تقرّر الشركة إنهاء عقد عمله بسبب عدم توفّره خلال الساعات المحددة وعجزه عن إتمام العمل المطلوب منه بسبب انقطاع الكهرباء وغياب خدمة الإنترنت. وليس إبراهيم سوى واحداً من بين عشرات أو مئات التجارب المريرة لموظفين/ات خسروا مصادر رزقهم/ن بسبب الأزمة.
عن الحلول المتاحة، يرى صلاح أنّ على الدولة زيادة الاعتماد على الطاقة المستدامة وطاقة الرياح لتشغيل المشاريع الضخمة، إضافة إلى استخدام مولدات الكهرباء أو تلك التي تغذيها الطاقات المتجددة، وذلك بعد إجراء حسابات الجدوى اللازمة، خاصة مع ارتفاع كلفة استقدام هذه الأجهزة بسبب ارتفاع أسعار الدولار. على الصعيد الفردي، يمكن للموظفين/ات الذين يعتمدون على الإنترنت في عملهم/ن، بحسب صلاح، تركيب أجهزة “يو بي إس” (UPS) لتشغيل أجهزتهم/ن خلال فترات انقطاع التيار الكهربائي، على الرغم من أنّه ليس حلاً في متناول الجميع، نظراً للظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها المصريون/ات.
تكبّدت مصر خسائر كبيرة بسبب انقطاع الكهرباء المستمر منذ أشهر، ومع ذلك، لم تتوفّر بعد أيّ أرقامٍ أو تقارير رسمية تدرس واقع الاقتصاد الرقمي للبلاد والخسائر التي يتكبّدها نتيجة للأزمات المتلاحقة التي تعصف به، وعلى الرغم من وعود الحكومة المصريّة بإيلاء أهتمامٍ أكبر لهذا القطاع باعتباره ” قاطرة التنمية المستدامة”، إلا أنّ الوقائع ما زالت تثبت عكس ذلك.
الصورة الرئيسية من أ ف ب.