شكّلت عملية “طوفان الأقصى”، بما فيها اقتحامات المقاومين للمستوطنات الصهيونية المحيطة بغزة -والتي كانت سريّة بقدر ما كانت مُحكمة- والتغطية الإعلامية الحربية التي رافقتها، واحداً من أضخم الاختراقات الأمنية والرقمية والاستخباراتية لـ “إسرائيل” التي تحتل المراتب العالمية الأولى في التكنولوجيا العسكرية.
لطالما استخدمت المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية التكنولوجيا وأدواتها الرقمية لفرض رقابتها على الفلسطينيين/ات وقمعهم/ن، وانتهاك حقوقهم في الخصوصية والتعبير عن الرأي والوصول الآمن لشبكة الانترنت. ولذلك، يناقش هذا المقال الهجمات الإسرائيلية الأخيرة التي سعت لتدمير البنية التحتية الرقمية الفلسطينية بكل مواردها المادية والبشرية، كامتداد لانتهاكاتها الإنسانية والرقمية والتي بدأت أبعد وأقدم بكثير من طوفان الأقصى.
ماذا يعني قطع الاتصالات في غزة؟
في 9 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، دمّرت طائرات الاحتلال الإسرائيلي مقر شركة الاتصالات الفلسطينية و86 برجاً تابعاً لها في قصفٍ عنيف استهدف حي الرمال وسط مدينة غزة، أسفر عنه استشهاد 26 مدنياً، ثمانية منهم/ن أطفال. نتج عن القصف انخفاض معدلات الوصول للانترنت والاتصالات تصل فيها بعض المناطق إلى انقطاعها بشكل كامل، بحسب ما رصدته منصة كشف وتحليل انقطاع الانترنت، في حين أعلن مسؤولٌ في الشركة عن مواجهة الطواقم الفنية للعديد من العقبات.
يعتمد الفلسطينيون/ات في غزة الآن على وصولٍ محدودٍ جداً للانترنت، يتيح لهم إرسال واستقبال الرسائل القصيرة في أحسن الأحوال، بعد أن أعلن مزوّدو خدمات الإنترنت اللاسلكي أنهم “لا يملكون أي شيء يقدمونه في ظل تعرّض خوادمهم للقصف”.
رغم أن اتفاق “أوسلو2” الانتقالي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة، المُوقّع في سبتمبر 1995، تضمّن حق الفلسطينيين/ات في امتلاك البنية التحتية لنظام اتصالات وانترنت مستقل، إلا أن مجمل الاتصالات في غزة، التي ما زالت تستخدم شبكات الجيل الثاني من الإنترنت، تخضع لرقابة الاحتلال المباشرة. يرتبط عمل شركات الاتصالات والإنترنت الفلسطينية بالبنية التحتية لشبكة الاتصالات الإسرائيلية المركزية في يافا وحيفا المحتلتين، وذلك لأن شركات الاتصالات الفلسطينية لا تمتلك نقاط تزويد من الكابلات البحرية في ظل غياب السيادة على الساحل البحري الفلسطيني المحتل.
يتمكن الاحتلال، عبر سيطرته على وحدات التحكم الخاصة بالشبكات الفلسطينية، من اختراق منظومة الاتصالات والإنترنت الفلسطينية وجمع المعلومات ومراقبة كل ما يدور عبرها، خصوصاً أوقات الحروب. تتعدّى هذه الرقابة ترهيب الفلسطينيين/ات وإرسال رسائل نصية لهم مثل “تم تصنيفكم بالمشاركة في أعمال عدائية وستتم تصفيتكم”، إذ تصبح “عملية تدفق الانترنت للأراضي الفلسطينية جزءاً من العمليات العسكرية اليومية لجيش الاحتلال في الأراضي الفلسطينية مثلها مثل الاعتقالات والاقتحامات والتوسع الاستيطاني، وتخضع للرقابة والتدقيق وجمع المعلومات والتجسس”، بحسب بحث أعدته منصة “صدى سوشل”.
تاريخياً، استهدف الاحتلال قطاع الاتصالات في غزة، إذ قصف أبراج الاتصالات وتوزيع الانترنت مع بدء الاجتياح البري لغزة في عدوان 2008، وقامت جرافات اسرائيلية عام 2011 بقطع مجموعة أسلاك على عمق 8 – 20 متر تحت الأرض تعمل على تزويد أبراج البث في غزة، كما أعاق إصلاح البنية الرقمية المدمّرة في غزة عبر منع إدخال المعدات من معابر القطاع الحدودية عام 2014. علاوة على ذلك، عام 2018، تسللت وحدة اسرائيلية لغزة بهدف زرع منظومة تجسّس لاختراق شبكة اتصالات القسّام الداخلية التي طورتها المقاومة عبر خطوط أرضية خاصة عام 2009 واستخدمت لأول مرة عام 2012 للتواصل بين المقاومين والقادة الميدانيين.
تلعب البنية التحتية للإنترنت دوراً رئيسياً في إدارة المواجهات العسكرية، وإبقاء الأشخاص على اتصال أثناء الأزمات، وتأمين الوصول إلى جميع أنواع المعلومات والخدمات والدعم. في كل مرة يقصف أو يعطل فيها الاحتلال أبراج الاتصالات في غزة، والتي تعمل بمعدلاتها القصوى لتوفير الحدود الدنيا من الحقوق الأساسية، تغرق المدينة في الظلام وتنعزل عن محيطها الجغرافي، فيتمكن الاحتلال من التستّر على جرائمه. بعد يوم من قصف حي الرمال، أعلن الوزراء الاسرائيليون قطع الإمدادات الأساسية من كهرباء وماء ووقود ومواد غذائية عن غزة، ليبدو قطع الاتصالات والانترنت دون أهمية عندما يصبح أكثر من مليوني نسمة تحت الحصار الكامل.
مركزية المعركة الإعلامية في الحرب
مع نشر الإعلام العسكري فيديوهات توثّق عمليات المقاومة، دخلت الصحافة العبرية في تخبّطٍ عارم ما بين تداول هذه الفيديوهات والسخط على الحكومة الإسرائيلية، والمطالبة بالانتقام الوحشي، وتعزيز دور الضحية الذي يتيح لها شرعنة قصف غزة. تمكّنت فيديوهات المقاومة من التحكّم بالحوار الإعلامي المحلي والغربي هذه المرة، وشكّلت مرجعية للحصول على المعلومات حول اقتحام المقرات العسكرية وعدد القتلى الإسرائيليين وصور بعض المحتجزين، الأمر الذي أجبر الاحتلال، الذي احتكر لسنوات المعلومات والأرشيف ومارس التضليل الإعلامي، على الإدلاء بتصريحاتٍ حول حجم الخسائر.
في سياق متّصل، كانت هبة أيار 2021 مفصلية في إدراك أهمية الإعلام -التقليدي والحديث- في صناعة السردية. عندما كانت المؤسسات الإعلامية الغربية الضخمة الكبرى تبرر تهجير الفلسطينيين/ات القسري وإجبارهم/ن على إخلاء بيوتهم، شكلت “الهاشتاغات” الرقمية، والبثوث المباشرة للمشاهير العرب، والنقل الحي لجرائم المستوطنين المسلحّين، وسائل لإطلاع العالم على الرواية الفلسطينية في قضية حي الشيخ جراح. حينها، واجه النشطاء الفلسطينيون تضييقاً رقمياً هائلاً مارسته منصات التواصل، إذ رصد “المركز العربي لتطوير الإعلام”، أكثر من 750 حالة انتهاك للمحتوى الفلسطيني على موقعي “فيسبوك” و”إنستغرام” بشكل رئيسي، مع استجابة “فيسبوك” لـ 81% من الطلبات الإسرائيلية لإزالة المنشورات، غالبيتها ذات علاقة بفلسطين.
تقول مروة فطافطة، من مؤسسة “أكسس ناو”، أن سياسات مواقع التواصل تتعدّى مجرّد الرقابة، لتصبح قمعاً رقمياً؛ فما يجري فعليا هو طمس الرواية الفلسطينية، وصوت مَن يعملون على توثيق جرائم الحرب. ويشمل تقييد المحتوى الفلسطيني حجب البث المباشر، وحذف المنشورات وتعليق الحسابات.
في تشرين الأول/أكتوبر 2021، نشر موقع “ذا إنترسبت” (The Intercept) تقريراً كشف لأول مرة عن القائمة السوداء السرية لشركة “فيسبوك”، والتي تضم آلاف “الأفراد والمنظمات الخطرين” من بينهم 55 منظمة وشخصية وجمعية فلسطينية. تُعيق خوارزميات “فيسبوك” محتوى هذه الحسابات، كما تحجب أوتوماتيكياً المنشورات التي تحتوي على كلمات محددة مثل “شهيد” و”قسّام” و”مقاومة” و”عياش” (في إشارة إلى الشهيد يحيى عياش).
خلال طوفان الأقصى، رصدت منصة “حر”، مرصد انتهاكات الحقوق الرقمية، ما لا يقل عن 140 حالة إزالة وتقييد و222 محتوى ضار، ودعت مستخدمي/ات وسائل التواصل للإبلاغ عن الانتهاكات، والتي تشمل أيضاً خطاب الكراهية والتحريض والعنصرية الذي نشرته الحسابات العبرية لمهاجمة الفلسطينيين/ات والتنكيل بهم/ن. يقول نديم ناشف، مدير مركز حملة، أن الإبلاغ لمنصة “حر” سيتيح التواصل مع منصات التواصل والضغط عليها، رغم أن منصة “إكس” (“تويتر” سابقاً) أعلنت مؤخراً تحديث سياساتها لإقصاء جميع الحسابات التابعة لحركة حماس أو تلك التي تروج للخطاب العنيف والسلوك الذي يحض على الكراهية، بحجة منع نشر المحتوى الإرهابي عبر الإنترنت، بحسب بيان الشركة.
ويؤكد ناشف ضرورة عدم الاستهانة بالمحتوى التحريضي الذي ساهم بتشجيع المستوطنين على تنفيذ عدد من الاعتداءات والهجمات على سكان قرية حوارة وممتلكاتهم، وإلحاق الأذى والضرر بهم في شباط/فبراير الماضي. ولذلك، يشكل الاستخدام الذكي لمنصات التواصل الوسيلة المثلى للوصول لتغطية سليمة عبر: تحرّي الدقة أولاً، لتجنّب الانسياق وراء الأخبار المضللة التي تحاول الحسابات العبرية والذباب الإلكتروني الترويج لها في هذه الظروف الاستثنائية، وثانياً، تعزيز الحس الأمني الذي يحول دون تداول أيّ معلوماتٍ أو فيديوهات قد تُطلع الاحتلال على تفاصيل أمنيّة دقيقة تيسّر عليه استهداف المقاومين.
غزة تودّع تسعة من صحافييها
وثّق المكتب الإعلامي في غزة استشهاد تسعة صحافيين/ات في القطاع جراء الضربات الإسرائيلية الأخيرة، وهم إبراهيم لافي، ومحمد جرغون، ومحمد الصالحي، وأسعد شملخ، وسعيد الطويل، ومحمد صبح أبو رزق، وهشام النواجحة، ومحمد أبو مطر، والصحافية سلام ميمة. وأعلن المكتب عن إصابة أكثر من 10 صحافيين/ات بجروحٍ متفاوتة، وفقدان الاتصال مع اثنين من الزملاء هما نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد. علاوة على ذلك، جرى استهداف وهدم منزليّ كل من رامي الشرافي وباسل خير الدين، ووقوع ضررٍ جزئي في منازل عشرات الصحافيين/ات.
ألحقت الطائرات الإسرائيلية الحربية أضراراً بليغة لمقار عشرات المؤسسات الإعلامية بشكل كلّي وجزئي جراء القصف، من ضمنهم برجي “فلسطين” و”وطن”، حيث تم حصر تضرّر أكثر من 40 مقراً لوسائل الإعلام. عندما شيّع الفلسطينيون جثامين الصحافيين/ات، حملوا معهم بزّاتهم/ن الصحافية وعدسات كاميراتهم/ن الملطخة بالدماء، والتي شهدت على وحشية الاحتلال الاسرائيلي، الذي استهدفهم/ن لمنعهم/ن من نقل الحقيقة وتوثيق الأحداث.
بين الأعوام 2000 و2022 وصل عدد الصحافيين/ات الذين استشهدوا على يد الاحتلال إلى 55 شهيد، عدا عن الصحافيين/ات الذين فقدوا عملهم أو معداتهم/ن أو أطرافهم/ن بسبب القصف.
عام 2012، قتل الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة ثلاثة صحافيين/ات وأصاب تسعة آخرين في استهداف مباشر لهم أو لمكاتبهم بشارع الصحافة. حينها، أشار مصدر عسكري مسؤول في الجيش الإسرائيلي، لإذاعة “صوت إسرائيل” إلى تعمّد استهداف الصحافيين/ات، قائلاً بالحرف الواحد “إن القصف استهدف هوائيات البث لبعض القنوات التلفزيونية”، بحسب تقرير للـ”مرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان”.
وأخيراً، رصد تقرير موسع لـ”لجنة حماية الصحافيين” أنماطاً رئيسية لحالات قتل الصحافيين/ات على يد القوات الإسرائيلية، أبرزها تعمّد الاحتلال استبعاد الأدلة ومزاعم الشهود المتعلّقة بها، والفشل في احترام شارات الصحافة، وترويج سرديّة مضللة للتغطية الصحافية، واتهام الصحافيين/ات بممارسة أنشطة عسكرية إرهابية. ذكر التقرير أيضًا أن المدى الذي تجري فيه “إسرائيل” تحقيقات أو تتظاهر فيه بأنها تجري تحقيقات في حالات قتل الصحافيين/ات مرتبطٌ بالضغط الخارجي، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين المكلفين بالتحقيق يدلون بتصريحات تبرّئ الجنود قبل اكتمال التحقيقات، ويتعمّدون إطالة مدة التحقيقات لأشهر أو حتى سنوات، في ظل غياب الشفافية والتكتّم على المجريات.
تمر هذه الانتهاكات مرور الكرام من دون أيّ مساءلة دولية، ما أدّى إلى خلق بيئة أكثر خطورة للتغطية الإعلامية، إذ يصبح الصحافي قلقاً على حياته أثناء القيام بعمله الإنساني. يشكّل الصحافيون/ات جزءاً أصيلاً من سردية الفلسطينيين/ات والموارد البشرية المسؤولة عن البنية التحتية الرقمية لهم وتجعل صوتهم مسموعاً والجرائم بحقّهم موثّقة. ما زال الاستهداف الإسرائيلي للحقوق الفلسطينية الإنسانية الأساسية، والتي تتجاوز كونها مجرد انتهاكات عابرة، مستمراً مع وحشية القصف على غزة وارتفاع أعداد الشهداء والدعم الأميركي العسكري العلني للاحتلال.